موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة التربية والأخلاق

هؤلاء هم المحسنون
محمد متولي الشعراوي



يقول الحق سبحانه: (إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون) الذاريات/ 15-18.
الإحسان أن تفعل شيئاً فوق ما افترضه الله، ولكن من جنس ما افترضه الله، والمحسن الذي يدخل في مقام الإحسان، هو مَن يعبد الله كأنه يراه، فإنْ لم يكن يراه فهو سبحانه وتعالى يرى كل خلقه.
فالرؤية الإيمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك، وتكون من هذه الرؤية أكثر يقيناً من رؤية العين، لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرةز
وقول رسول الله (ص) حينما سأله جبريل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
هو بيان للرؤية الإيمانية في النفس المؤمنة، فالإنسان حين يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية، حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم يُنعَّمون، وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه، وكأنه يرى أهل النار وهم يُعذّبون.
عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر رسول برسول الله (ص)، فقال له: (كيف أصبحتَ يا حارث؟ فقال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاعفون فيها.
فقال (ص): (يا حارث، عرفت فالزم، عرفت فالزم، عرفت فالزم).
ولنا العبرة في سيدنا حذيفة (رض) حينما سأله رسول الله (ص) فقال له: كيف أصبحت؟ أي: كيف حالك الإيماني؟ قال حذيفة: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها ومَدَرُها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذّبون.
أي: أن الذهب تساوى مع الحصى.
فالانسان من أهل الصلاح يعرف أنه في لقاء دائم مع الله، لذلك يضع برنامجاً لنفسه موجزه أنه يعلم أنه لا يخلو من نظر الله إليه.
يقول تعالى: (وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) الحديد/ 4.
إنه يستحضر أنه لا يغيب عن الله طرفة عين، فيستحي أن يعصيه.
وعندما تتيقن أن ا لله ينظر إليك، فكيف تعصيه؟
أنت لا تجرؤ أن تفعل ذلك مع عبد مُساوٍ لك، فكيف تفعله مع الله؟!
ونحن نعرف أن من حسن العبادة في الاسلام، ومن السنن المعروفة قراءة القرآن ليلاً، وصلاة التهجد، وهذه في مدارج العملية الإيمانية التي يدخل بها الانسان إلى مقام الإحسان.
هناك مؤمن يقرأ القرآن في وقت من الليل، ومؤمن آخر يقرأ القرآن في وقت آخر، وكأن المؤمنين يقطعون الليل كله في قراءة القرآن.
والذي يدخل مع ربه في مقام الإحسان، فهو لا يصلي فقط صلاة العتمة، وهي ستأخذ (إنىً) واحداً، أي: وقتاً واحداً، ولكنه عندما يصلي في آناء الليل فذلك دليل أنه يكرر الصلاة، وزاد عن المفترض عليه.
وما دام زاد عن المفترض، فهو لا يكتفي بتلاوة القرآن؛ لأنه يريد أن يدخل في مقام الإحسان.
أي: أنه وجد ربه أهلاً لأن يصلي له أكثر مما افترض عليه، كأنه قد قال لنفسه: أنت كلّفتني يا رب بخمس صلوات، لكنك يا رب تستحق أكثر من ذلك.
فمعنى (محسن) أنه وَصفٌ للانسان الذي آمن بربه، فعبد الله بأكثر مما افترض.
تعبّدنا الله بخمس صلوات، فنزيدها لتصل إلى عشرين مِثلاً.
وتعبَدنا الله بصيام شهر في العام، ومنّا مَن يصوم في كل شهر عدداً من الأيام.
وتعبّدنا الله بالزكاة بالنصاب، ومنّا مَن يزيد على النصاب.
وتعبّدنا الله بالحج مرة في العمر، ومنّا مَن يزيد عدد مرات الحج.
فحين يريد العبد أن يدخل في مقام الإحسان، فبابه هو أداء عبادات من جنس ما تعبده الله به، فالعبد لا يخترع أو يقترح العبادة التي يعبد بها الله، ولكنه يزيد فيما افترضه الله.
هذه دقة البيان القرآني التي توضح مقام الإحسان، فيكون في مالهم حق للسائل والمحروم، وليس هناك قدر معلوم للمال الذي يخرج، لأن المقام هنا مقام الإحسان الذي يعلو مقام الإيمان.
ومقام الإيمان ـ بالنسبة للزكاة مثلاً ـ قد جاء ذكره في قول الحق سبحانه: (والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين) المعارج/ 24-26.
فالإنسان في مقام الإيمان قد يقيد الإخراج من ماله بحدود الزكاة، أو فوقها قليلاً، لكن في مقام الإحسان فلا حدود لما يخرج من المال.
ومثل هذا أيضاً، فقد كلّف الله المسلم بالصلاة، وأعلمه بأنه حُر بعد صلاة العشاء، وله الحق أن ينام إلى الفجر، فإن سمع أذان الفجر فليقم إلى صلاة الفجر.
لكن المحسن يريد الارتقاء بإيمانه، فيزيد من صلواته في الليل.
ويضيف الحق سبحانه مُذكراً لنا بصفات المحسنين: (وبالأسحار هم يستغفرون) الذاريات/ 18.
أكلَّف الله الخلق بأن يستغفروا بالأسحار؟
لا. بل إن الرسول يجيب على رجل سأله عن الفروض الأساسية المطلوبة منه، فذكر له أركان الاسلام، ومن بينها الصلوات الخمس المكتوبة، فقال الرجل: (والله لا أزيد على هذا ولا أنقص).
فقال (ص): (أفلح إنْ صدق).
وبذلك دخل هذا الأعرابي في نطاق المفلحين.
إذن: فالذي يزيد على هذا يُدخله الله في نطاق المحسنين.
فالإحسان، هو أن تفعل فوق ما كلفك الله مُستشعراً أنه يراك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فترتضي التكليف، وتزيد على ما كلفك.
فيكون قد أدخلك الله في مقام الإحسان، لأنك حين جَرَّبتَ أداء الفرائض ذُقتَ حلاوتها، وعلمتَ أن الله يستحق منك أكثر مما كلفك به.
ولذلك فبعض الصالحين في أحد سبحانه قال: (اللهم. إني أخشى ألا تثيبني على الطاعة، لأنني أصبحتُ أشتهيها).
أي: صارت شهوة نفسي، فهو خائف أن يفقد حلاوة التكليف والمشقة، فيقول: يا رب، إني أصبحت أحبها، ومفروض منا أن نمنع شهوات أنفسنا، لكنها أصبحت شهوة، فماذا أفعل؟
إذن: فهذا الرجل قد دخل في مقام الإحسان، واطمأنت نفسه، ورضيت، وأصبح هواه تبعاً لما أمر به الله ورضيه.
ولذلك يجب أن نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن المتقين، قال: (إن المتقين في جنات وعيون * آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) الذاريات/ 15-16.
لماذا هم محسنون يا رب؟
يقول الحق سبحانه: (كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون) الذاريات/ 17.
وهل كلّفني الله ألاّ أهجع إلا قليلاً من الليل؟
لا، إن التكليف أن يصلي الانسان العشاء من أول الليل، وينام حتى الفجر، لكن أن تحلو للمؤمن العبادة، ويزداد الإيمان في القلب والجوارح، ويأنس العبد بالقرب من الله، فالحق لا يرد مثل هذا العبد، بل إنه يستقبله ويدخله في مقام الإحسان.
والحق سبحانه يقول: (ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون) الانعام/ 132.
فالأعمال تتفاوت، فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة، لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل، أو باخلاص المقارف للعمل، والمكتسب، والفاعل له.
فهناك مَن يخلص بكل طاقته، وهناك مَن يؤدي عمله بنصف إخلاص.
ومسألة الإخلاص هذه لا تحددها لوائح ولا قوانين، إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول محمد (ص) مبلغاً عن رب العزة هذا الحديث القدسي: (الإخلاص سرٌّ من سرِّي، استودعته قلب مَن أحببتُ من عبادي).
إذن: فمقاييس الإخلاص لا يعرفها إلا ربنا سبحانه وتعالى، وعلى مقدار ذلك تكون الدرجاتن فالدرجات تكون على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه الله عزوجل عليه.
والذي يقف عند ما فرض الله يجازيه الله على إخلاصه في أداء ما عليه، فالذي يزيد عما فرض الله من جنس ما فرض الله أشد فلاحاً.
ولا يصل الانسان إلى المرتبة التي هي أشد فلاحاً، إلا إذا كان في درجة أعلى.
والزيادة على ما فرضه الله، ومن جنس ما فُرض لها مَلحظان:
الأول: أن العبد يشهد لربه بالرحمة، لأنه كلّف دون ما يستحق.
الثاني: أن عمل الطاعة قد خفف على المؤمن فاستراح بها.
ألم يقل رسول الله (ص) عن الصلاة: (أرحنا بها يا بلال).
ورب العزة سبحانه يقول في الحديث القدسي: (ما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
إن الحق سبحانه يضع مسؤولية القرب من الله في يد الخلق، ويُسلِّم المؤمن مفتاح القرب من الله، فمن يكُن من أصحاب الخلق الملتزمين بالمنهج يقربه الله منه أكثر فأكثر.
إذن: فمن الناس مَن يصل بطاعة الله إلى كرامة الله، ويدق على باب الحق، فينفتح له الباب، ومن الناس مَن يصل بكرامة الله أولاً إلىط اعة الله ثانياً.
ولله المثل الأعلى: أنت كواحد من البشر قد يدق بابك انسان يحتاج إلى لقمة أو صدقة فتعطيه، وهناك انسان آخر تحب أنت أن تعطيه، وعندما تعطيه يطيعك من منطلق الإحسان إليه.
فما بالنا بعطاء الحق سبحانه لعباده؟
إذن: فمنهم مَن يصل بكرامة الله إلى طاعة الله، ومنهم مَن يصل بطاعة الله إلى كرامة الله.
وحين يصل الانسان إلى القرب من الله، ويقرب الله من العبد، هنا يكون العبد في معيّة الله، وتفيض عليه هذه المعية كثيراً.
والحق سبحانه يريدنا أن نكون موصولين به سبحانه، وهذه الصلة تتم بالصلاة فرضاً خمس مرات في اليوم، وترك سبحانه الباب مفتوحاً لتطوعك، فلا تترك ساعة تستطيع أن تكون فيها بين يدي الله إلا فعلتَ.
فقد يرى الواحد من عباد الله أن القيام بالفروض لا يتناسب مع حبه لله تعالى، فيزيد من جنسها على ما فرض الله، ويصلي ـ بدلاً من خمسة فروض ـ عشرة أخرى نوافل، أو يصوم مع رمضان شهراً أو اثنين، أو يصوم يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع.
وهذا دليل على أنه وجد أن الفروض قليلة بالنسبة لدرجة حبه لله تعالى، وأن الله يستحق أكثر من ذلك، وهذا معناه أن مثل هذا العبد قد دخل في مقام الودّ مع الله تعالى.
ونحن حين ندخل في مقام الود والإحسان مع الله ونصلي في الليل، ونكون بارزين إلى السماء، فلا يفصلنا شيء عنها، وننظر فنجد نجوماً لامعة تحت السماء الدنيا، وأهل السماء ينظرون للأرض فيجدون مثلما نجد من النجوم المتلألئة اللامعة في الأرض، ويسألون عنها، فيقال لهم: إنها البيوت التي يصلي أهلها آناء الليل وهم يسجدون، وكل بيت فيه هذا يضيء كالنجوم لأهل السماء.
المصدر :صلاة الخاشعين

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة التربية والأخلاق