موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة التربية والأخلاق

آداب المجتمع والعلاقات بين الناس
د. موسى أبو حوسة


- آداب التحية:
يقول الله سبحانه وتعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيباً) النساء/ 86.
وهذا أدب عال يؤدب الله به عباده، ومن شأنه أن ينشر بين الناس المحبة والسلام فإن الذي يبدأ صاحبه بالتحية قد صار متفضلاً على صاحبه، متقدماً لخطب وده، فإذا لم يقابل هذا الفضل بالشكر فإنه يكون قد جافى واجب الأدب، وحق الأخوة، أما إذا أدى لصاحبه مثل تحيته فقد أدى حقه عدلاً، ولكن الذي يحييه بأحسن من تحيته يشعره بأنه يقدره ويعرف له جميله، وما كان له من فضل البدء، وإنه لذلك لا يكتفي برد تحيته ولكن يحييه بأحسن منها.
والقرآن يبدأ بأحسن الصورتين، وهي التحية بما هو أحسن ليشعرنا بأن ذلك هو الأَوْلى. ولهذا الأدب إيحاء وتوجيه ربما كان اللفظ في الآية ناطقاً بهما فإن التحية ليست هي خصوص القول ولفظ السلام وما إليه من العبارات التي جرت عادة الناس على أن يتبادلوها فحسب، ولكنها أوسع من ذلك، فهي تشمل أي معروف يقدمه انسان لآخر، فإذا زارني أخ مجاملاً إياي كان علي أن عرف له تلك الزيارة، وأن أعدها تحية منه لي، يجب علي أن أحيّيه بأحسن منها أو أردها على الأقل، وإذا أهدى إلي صديق هدية تكريم ومودة عرفت له ذلك، وإذا تحدث عني بالخير عرفت له ذلك.. وهكذا نجد هنا أسساً لأدب التعامل في المجتمع، ومظهراً من مظاهر الشكر والعرفان والعدل والإحسان.
والسلام هو التحية المباركة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) النور/ 61.
وفي سبيل بلوغ هذا الحد من الترابط يضع الاسلام أمام أبنائه غايات اجتماعية يغريهم ببلوغها ويحفزهم إلى الارتقاء إليها، ما داموا يبتغون رضوان الله ويطلبون مثوبته وهي في نفس الوقت أواصر قوية تشد بناء المجتمع وتوثق صلة أفراده.. وذلك ما يصوره الحديث الشريف عن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) قال: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ افشوا السلام بينكم). رواه مسلم وأبو داود والترمذي. لا تؤمنوا إيماناً كاملاً حتى يحب بعضكم بعضاً وحتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
فما المغزى الديني لهذه الوصية الجليلة؟
إنها ليست ذات صلة بالعبادة أو الشعائر، وليست ذات هدف غيبي أو اعتقادي، ولكنها دفعة قوية لتأكيد العلاقة بين المسلمين وتركيب لسلامة الإيمان وحسن المستقبل في الآخرة على قوة ارتباط المسلم بإخوانه وحبه لهم.. وهي تفتح أبواب المحبة بين المؤمنين وتوحد بين قلوبهم بشعار السلام الذي يشيعونه في مجتمعهم ويملأون به الأسماع. وعن عمران بن حصين (رض) قال: جاء رجل إلى النبي (ص) وقال: السلام عليكم فرد عليه ثم جلس فقال النبي (ص): عشر (له عشر حسنات على قوله السلام عليكم)، ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فجلس فقال: عشرون (له عشرون حسنة لأنه زاد عن الأول ورحمة الله) ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس فقال: ثلاثون. رواه أبو داود والترمذي (له ثلاثون حسنة لأنه زاد عن الثاني وبركاته) وهذه نهاية ألفاظ السلام وأكملها والرد كذل ون كان ثوابه أكثر لأنه فرض.
والمقصود إذا سلم عليكم مسلم فأجيبوه بأحسن مما سلم، فإذا قال السلام عليكم فيزيد الراد ورحمة الله، فإذا قال: ورحمة الله فيزيد الراد وبركاته وإلا أن ترد عليه بمثل ما سلم. روى أن رجلاً قال لرسول الله (ص): السلام عليك فقال وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فقال الرجل نقصتني، أي الفضل على سلامي فأين ما قال الله أي من الفضل وتلا الآية. فقال: (لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله لأن ذلك هو النهاية لاستجماعه أقسام المطالب وهي السلامة من المضار وحصول المنافع وثبوتها. وظاهر الآية أنه لو رد عليه بأقل مما سلم عليه به انه لا يكفي وظاهر كلام الفقهاء انه يكفي وتحمل الآية على أنه الأكمل، وابتداء السلام على المسلم سنة عين من المنفرد وكفاية من الجماعة ورده فرض عين إذا كان المسلم عليه واحداً وكفاية من الجماعة).
هذا دليل على أن من أقوى أسباب المودة والألفة، تبادل التحية بين الناس وكانت العرب تقول عند لقاء بعضهم بعضاً: حياك الله. ثم استعملها المشرع في الاسلام وهو تحية الاسلام، قال تعالى: (وتحيتهم فيها سلام) يونس/ 10، وقال: (فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة) النور/ 61، وقوله تعالى في سورة النساء: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها..) ففي هذه الآية ارشاد حكيم إلى آداب السلام، كي تنعم بآثاره النافعة في جميع القلوب، وتوحيد الصفوف، وتأمين الخائف، فأمرت من حييى بتحية أن يرد على مَن حياه بأحسن منها أو بمثلها والرد على تحية الاسلام واجب، وإنما التخيير بين الزيادة وتركها، فعن ابن عباس (رض) قال: الرد واجب، وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم، ولا يردون عليه، إلا نزع الله منهم روح القدس، وردت عليه الملائكة. والسنة أن يسلم الماشي على القاعد، والراكب على المشاي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والعدد القليل على العدد الكثير، وإذا التقيا بادر كل منهما إلى إلقاء السلام على صاحبه خيرهما الذي يبدأ بالسلام وعن رسول الله (ص) انه قال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، متفق عليه أي وعليكم ما قلتم، فقد كان بعضهم يقول: السلام عليكم.
- مكارم الأخلاق:
أما عن مكارم الأخلاق وهي الصفات المحبوبة لله ولرسوله (ص)، ككظم الغيظ، والصبر، والعفو، ونصر المسلم، والشفاعة له، والصدق، والحياء والتواضع والكرم، والسخاء، والوفاء بالوعد، والشكر، والحذر من الله، وحسن الظن بالله والناس، والنصح والدلالة على الخير، والعدل بين الناس، والاهتمام بأمر المسلمين، ومحبة الصالحين..، إن الله لم يعط وصف الكرم إلا للتقي الفاعل للمأمورات المبتعد عن المنهيات.
- كظم الغيظ وعدم الغضب:
ويعتبر كظم الغيظ وعدم الغضب أعظم هذه المكارم لأنه لا يقدر عليه إلا الشديد على نفسه القوي في دينه، روى أن رسول الله (ص) قال: (ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد مَن يملك نفسه عند الغضب) رواه مسلم. وفي حديث آخر يقول الرسول (ص): (مَن كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، ملأ الله جوفه أمناً وإيماناً) رواه أبو داود.
ويليه من صفات المؤمن القوي الصبر والعفو وتحمل الأذى. والصبر هو إمساك النفس عند المكروه خوفاً من الله وأملاً في رضاه. والعفو هو الصفح، والتجاوز، قال تعالى: (فمن عفا واصلح فأجره على الله)، وقال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الأعراف/ 199، قيل في معناها تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. ونصر المسلم من حقوق المسلم على المسلم بل نصر المسلم وستره واجبان، عن جابر (ص) أن النبي (ص) قال: (ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره) رواه الشيخان والترمذي. وسبب هذا الحديث إن غلاماً من المهاجرين اقتتل مع غلام من الأنصار فنادى المهاجر: يا للمهاجرين ونادى الأنصار يا للأنصار فخرج رسول الله (ص) فقال: ما هذا؟ إن هذه دعوة الجاهلية، فقالوا: لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فلسع أحدهما الآخر (ضربه على عجيزته)، قال: فلا بأس، ولينصر الرجل أخاه.. إلى آخر الحديث، السابق ذكره.
- الشفاعة:
أما الشفاعة فهي التوسط لدى شخص في إيصال خير لآخر. هذا هو الكثير وقد يكون التوسط في شر لهذه الآية الكريمة، قال الله تعالى: (مَن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومَن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً) النساء/ 85. فمن يشفع بين الناس شفاعة حسنة موافقة للشرع يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة مخالفة للشرع يكن له كفل منها أي نصيب منها، وكان الله على كل شيء مقيتاً مقتدراً يجازي كل انسان بما عمله.
يضاف إلى هذا أن الشفاعة أمر جرت به عادة المجتمعات. فإن الناس تتفاوت في الجاه وفي القدرة على السعي، ومنهم مَن يضعف عن الحصول على الحق فيستعين بمن يشفعه ويقويه، ويسلك السبيل التي تؤدي إليه.
فليس من الطبيعي أن يطلب إلى الناس أن يكفوا عن هذا اللون من ألوان التعاون والتآزر، ولذلك لم يمنعه القرآن، بل حث عليه على شرط أن تكون الشفاعة حسنة، ونهى عن الشفاعات السيئة.
وقد جاءت السنّة بمثل ذلك أيضاً: روى ان رسول الله (ص) قال: (ان هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير، مغلاقاً للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحاً للشر، مغلاقاً للخير) رواه ابن ماجة. وعن ابن عمر (رض) قال: قال رسول الله (ص): (إن لله عباداً اختصهم بحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله) رواه الطبراني. وعن علي كرم الله وجهه قال: قال لي رسول الله (ص): (يا علي إن الله تعالى خلق المعروف، وخلق له أهلاً، فحببه إليهم، وحبب إليهم فعاله، ووجه إليهم طلابه، كما وجه الماء في الأرض الجدبة لتحيا به، ويحيا به أهلها. ان أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة).
ولكن الاسلام يمنع التآزر على الباطل، والتعاون على تلبيس الأمور، وعلى أن يشتبه الأمر فلا يعلم حقه من باطله، ولذلك يكره القرآن الشفاعة السيئة وينهى عنها.
وقد جاءت الآية في كلا الجانبين بقاعدة عامة، فقررت أن من آزر بالشفاعة الحسنة كان له نصيب من هذه المؤازرة، أي ثواب عليها وفضل فيها. ومن آزر بالشفاعة السيئة كان له كفل أي حظ ونصيب منها مكفول لابد منه.
وهكذا توجه الآية أفراد المجتمع إلى فرص الخير وصور التعاون، لكي ينتهزوها مخلصين مصلحين محسنين، فتصرفهم عن وجوه الشر فتحذرهم منها وتخوفهم عواقبها، وتؤكد أن لهم كفلاً محققاً من شرها وسوئها.
- الصدق:
والصدق هو الإخبار على وفق ما يعلم قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) أي بترك المحرمات وفعل الواجبات، وكونوا مع الصادقين في الإيمان والعهود والأقوال. عن عبدالله (رض) أن رسول الله (ص) قال: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وان البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقاً، وإياكم والكذب فان الكذب يهدي إلى الفجور، وان الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه مسلم في باب البر والصلة.
- الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد:
العهود والمواثيق والوفاء بالوعد علامة المؤمنين، وخلف الوعد علامة المنافقين، فما اعتنى به القرآن عناية شديدة أمر العهود والمواثيق وكراهة الإخلال بها، وقد نصت على ذلك نصوص مؤكدة منها ما هو عام ومنها ما هو خاص: فمن العام قوله تعالى في أول سورة المائدة: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، وفي سورة النحل قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها..) الآية 90، وقوله في سورة الإسراء: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً) الآية 34. وأما الخاصة فمنها قوله تعالى في سورة براءة (التوبة) بعد أن أعلن البراءة من المشركين (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) الآية 4. وقال في السورة نفسها بعد ذلك: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين) التوبة/ 7.
قال تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً). عن زيد بن أرقم (رض) عن النبي (ص) قال: (إذا وعد الرج أخاه ومن نيته أن يفي فلم يف ولم يجيء للميعاد فلا إثم عليه) رواه أبو داود والترمذي. أي لم يجيء للميعاد لعذر كنسيانه أو مرض فلا إثم عليه، ومفهومه انه إن وعد ونوى عدم الوفاء فعليه الإثم وعلى هذا بعضهم، فالوفاء عند هؤلاء واجب والخلف حرام، وقال الجمهور: إن الوفا ليس واجب بل مستحب فقط، والخلف مكروه إلا إذا قصد بصاحبه الأذى فانه حرام، وهذا إذا كان الوعد على غير حرام فان كان على حرام وجب إخلافه ابتعاداً من الحرام.
أما في قوله سبحانه وتعالى: (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا)، فالعهد يكون بين العبد وربه وبين المؤمنين وبين المسلمين وغيرهم. إذا وعدوا أنجزوا وإذا حلفوا أو نذروا أوفوا وإذا قالوا صدقوا وإذا ائتمنوا أدوا. وقد روى البخاري ـ انه عليه الصلاة والسلام ـ قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، رواه البخاري. فالمجتمع المتماسك هو الذي يسوده الوفاء بالوعد والعهد. أما المجتمع الذي يفشو فيه الغدر والخيانة والغش والخداع، فمآله إلى التفكك والانحلال.
ولا يكون المجتمع على ما ينبغي أن يكون عليه، إلا إذا كان كل واحد من أفراده أميناً فيما يعهد به إليه، مؤدياً للأمانة متى طلبت منه، وفيما إذا عاهد، وقد أمرنا الله بذلك كله، ونهانا عن الغش في المعاملات وعن الغدر في كل ضروبه وأشكاله. يقول جلّ مَن قائل: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) النساء/ 58.
وقد عظم الله الأمانة وشأن مَن يرعاها، قال سبحانه وتعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) المؤمنون/ 8. وفي الحديث ما رواه البغوي عن أنس مرفوعاً: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) ورواه الإمام أحمد والطبراني وابن حبان.
- التواضع:
أما التواضع فهو الخضوع والخشوع لله تعالى ولين الجانب للعباد وقبول الحق ممن قاله أياً كان، وهو نعمة لا يحسد الشخص عليها بل هو موجب للرفعة والاصطفاء لقوله في الحديث السابق في العفو عن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد عبداً بعد عفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) رواه الشيخان.
- الثقة:
أما حسن الظن بالله والناس، بمعنى أن تظن أنه سيعفو عنك ويرحمك بواسع رحمته وأنت على طاعته فلا ينافي الحذر منه إذا كنت عاصياً فإنه يحمل على الخوف ويدفع للطاعة، وحسن الظن بالناس أن تظن انهم على خير وهدى من ربهم فيما بينهم وبينه بل ربما كانوا عند الله أحسن منك، وهذا في المسلمين المستورين، أما أهل العصيان والأهواء الفاسدة الظاهرون لن فلا تأتي فيهم حسن الظن بل من كمال الإيمان بعضهم، فمن أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان، والحذر المطلوب هو في المعاملة مع الناس بعداً عن الخلاف والشقاق وطلباً للسلامة والوفاق. عن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) قال: قال الله عزوجل: (أنا عند ظ ن عبدي بي) رواه الشيخان والترمذي. وعنه عن النبي (ص) قال: (حسن الظن من حسن العبادة) رواه أبو داود.
ويقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن إثم ولا تجسسوا..) الحجرات/ 12. والمراد بأن بعض الظن إثم أي موقع في الإثم والذنب وهو ظن السوء بالمؤمنين بخلافه بالفساق منهم فيما يظهر منهم فلا إثم فيه، ولا تجسسوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين وعيوبهم فانه مدعاة لظن السوء المظلم للقلب. عن أبي هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال: (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخواناً) رواه الشيخان. بمعنى كونوا يا عباد الله كالاخوة في النسب في التعاون والتحابب.
- الدال على الخير كفاعله:
أما الدلالة على الخير فقد روي عن أبي مسعود الأنصاري (رض) قال: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إني ابدع بي فاحملني، قال: لا أجد ما أحملك عليه ولكن إئت فلاناً فلعله أن يحملك، فأتاه فحمله، فأتى النبي (ص) فأخبره، فقال رسول الله (ص): (مَن دل على خير فله مثل أجر فاعله) رواه مسلم.
فمن دل على خير كعلم ومال وعمل صالح له أجر كأجر فاعله في الكم والكيف لأن الثواب على الأعمال من فضل الله يهبه لمن يشاء على ما صدر منه، وقال النووي: له ثواب كثواب فاعله على ما يشاؤه مولانا جل شأنه، ويظهر من هذا ان معلمي القرآن والهداة المرشدين والعلماء العاملين ولا سيما المؤلفين منهم هم أكثر الناس أجراً لكثرة دلالتهم على الخير وبقائها ما دامت آثارهم، ومن حديث للإمام أحمد الضياء ولفظه: (الدال على الخير كفاعله والله يحب إغاثة اللهفان).
وعن أبي هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال: (مَن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومَن دعا إلى ضلاله كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم.
- قضاء حوائج المسلمين:
أما عن تلبية حاجات المسلمين، فقد روي عن أبي هريرة (رض) عن النبي (ص) قال: (مَن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ومَن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومَن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع نسبه) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
عن أبي الدرداء (رض) عن النبي (ص) قال: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: اصلاح ذات البيت (اصلاح المتخاصمين) فان فساد ذات البين هي الحالقة) رواه أبو داود والترمذي وزاد الترمذي: (لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين).
فالمنازل العالية في الآخرة لمن كان يساعد الناس في دنياه بالمال أو بالعلم أو بالجاه لأن الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله. وللحديث في الاعتكاف القائل: (من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها (أي قضاها) كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين) رواه الطبراني والبيهقي والحاكم.
- المحبة:
وعن المحبة المطلوبة شرعاً والتي يؤجر عليها الانسان هي محبة الله ورسوله ومحبة المؤمنين لاسيما الصالحون منهم فإن من أحب قوماً حشر معهم فعماد الدين على محبة الله ورسوله لأن العبد إذا أحب الله ورسوله ابتعد عن المنهيات وسارع إلى المأمورات، بل تفانى في كل ما يرضي الله ورسوله.
عن أنس (رض) عن النبي (ص) قال: (ثلاث مَن كن فيه وجد حلاوة الإيمان: ن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله تعالى، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) رواه الشيخان والطائي والإمام أحمد.
- الرحمة:
أقام الاسلام المجتمع على أسس متينة من الرحمة، يعلنها واضحة في مجتمعه على لسان رسوله محمد (ص) في قوله: (ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء) رواه الترمذي. وهذه الرحمة التي يعمل الاسلام على توليدها في نفوس المؤمنين به، ثم على تثبيتها في قلوبهم تتسع حتى تشمل سائر الأحياء من الانسان والحيوان، فها هو ذا رسول الله (ص) يقول: (دخلت امرأة النار بسبب قطة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) رواه الشيخان. ثم يقول في حديث آخر رواه مسلم والبخاري أيضاً: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فشرب، ثم خرج فاذا كلب يلهب يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بي فنزل البئر فملأ خفه، ثم امسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله فغفر له، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: نعم في كل ذات كبد رطبة أجراً). وفي رواية البخاري: (فشكر الله له فغفر له، فأدخله الجنة).
فإذا كان الاسلام يحث الانسان على الرفق بالحيوان ورحمته، فكيف بأخيه الانسان، وقد جمع بين الناس وحدة الأصل وهو آدم (ع) ووحدة الخالق جل وعلا الذي وسعت رحمته كل شيء.
- صلة الرحم:
صدرت سورة النساء بتقرير أهمية هذه العلاقة واضحة جلية، واقامة اصلاحها الاجتماعي على أساسها، فقد افتتحت بهذا المطلع القوي، يقول سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيباً) النساء/ 1.
بدأ سبحانه وتعالى بالتركيز على التقوى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) قيل ان هذا الخطاب للعرب وغيرهم، وقيل يختص بالعرب منهم لقوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام). إذ المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون: أنشدك بالله وبالرحم، أن تفعل أو لا تفعل. روى الشيخان أنه (ص) قال: (الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله تعالى ومن قطعني قطعه الله تعالى). وعن عبدالرحمن بن عوف (رض) عن النبي (ص) يقول: قال الله تعالى: (أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لهم اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته)، وقال: (بتته) رواه الترمذي وأبو داود. وروى الإمام أحمد وغيره انه (ص) سئل وهو على المنبر من خير الناس؟ قال: (آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم). وكان من قواعد الاسلام أن الرحم لا تجفى ولو بدا منها الجفاء، وألا يجزى القريب قريبه على الإساءة بمثلها، وفي هذا يقول الرسول (ص): (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري. وبالابقاء على صلات الرحم وتأكيد روابط القرابة يرتقي الاسلام بالتكافل في مجتمعه درجات، ومؤسس مراتبه بعضها فوق بعض.. تشترك جميعها في قدر ضروري وتقف عند أساسها الأول، أساس الأخوة في العقيدة والمسؤولية الواحدة أمام الحياة، ولا تزال تنمي بما يضيفه الاسلام إليها من روابط الجوار وصلات الرحم حتى تبلغ مبلغها المتين.
- حق الجوار:
إن لعلاقة الجوار أهمية كبرى في تحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع والقضاء على النزعات الفردية وربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وفي حق الجار على الجار روى عن عائشة عنا لنبي (ص) قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننته أنه سيورثه) رواه الشيخان والإمام أحمد. أي يجعل له نصيباً من الميراث. وعنها قالت: (يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري وأبو داود ولفظه: (إن لي جارين بأيهما أبدأ؟ قال: بأدناهما باباً). لأنه يرى ما يدخل في بيت جاره فيتشوق له، فإكرام الجار مؤكد بكل ممكن من الستر عليه ومساعدته بالمال أو بالرأي أو بالجاه والسلام عليه عند اللقاء والبشاشة. وللطبراني: (الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الاسلام، وجار له ثلاثة حقوق جار مسلم له رحم، له حق الجوار والاسلام والرحم). وعن أبي شريح (رض) أن النبي (ص) قال: (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) رواه البخاري ومسلم ولفظه (لا يدخل الجنة مَن لا يأمن جاره بوائقه). وللترمذي: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره).
ومغزى ذلك أن الاسلام يحرص على متانة علاقة الجوار ويرى فيها وسيلة فعالة في تحقيق التضامن وتأكيده.. وتحويل هذه العلاقة إلى حقوق وواجبات يدل على خطة الاسلام العملية في جعل التكافل النفسي واقعاً عملياً يسعد المجتمع ويزيد طمأنينته وأمنه.
وقد أدت علاقة الجوار في المجتمع الاسلامي دوراً رائعاً في تحقيق التكافل النفسي والمادي، وحتى اليوم لا زالت تعمل عملها في القرى وفي كل بيئة تحتفظ بعلاقات الاسلام وتعيش في ظلها..
أما حيث تنتشر الحضارة والتقاليد الغربية وتسيطر الحضارات الوافدة فلا وجود لها ولا عمل، ولعل جانباً كبيراً من انهيار العلاقة ووهنها في المدن الاسلامية يرجع إلى تقطع علاقة الجوار.
- الغيبة:
أما الغيبة، فيقول الله سبحانه وتعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه، واتقوا الله إن الله تواب رحيم) الحجرات/ 12.
الغيبة هي ذكرك أخاك المسلم بما يكره ولو كان فيه، إلا إذا كان على جهة التعريف كقولك: أتعرف فلاناً، فيقول: لا، فيقول: الأعمى أو الأعور أو الأعرج، مثلاً، والغيبة حرام بل هي من الكبائر في حق أهل الفضل الذين هم قدوة صالحة للناس فإن غيبتهم تزهد الناس في الأخذ عنهم. ولا يغتب بعضكم بعضاً أي لا يذكره بما يكره ولا يحسن ولا يجوز فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته وقد كرهتم الثاني فاكرهوا الأول واجتنبوه لعلكم تفلحون.
عن أبي هريرة (رض) أن رسول الله (ص) قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاكم بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، ون لم يكن فقد بهته) رواه مسلم وأبو داود والترمذي ومعنى بهته أي رميته بالهتان وهو الباطل.
وعن أنس (رض) قال: قال رسول الله (ص): (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أبو داود.
فالغيبة من أقبح الصفات التي تعكر صفو العلاقات بين الناس، ذلك ان الذي يوثق المودة بين المؤمنين هو تلك النفوس الطيبة التي تضمر الود والخير للناس ويبتدى ذلك منها في بريق العينين واللهجة الصادقة الصادرة من أعماق النفس، أما الكلام عن الغير في غيبته بما يسؤوه ويخدش من كرامته فهو تعكير لأجواء النفوس وخدش لتلك الرابطة الوثيقة التي تربط بين المؤمنين.
وهكذا يتضح دور الاسلام في آداب السلوك وتحذيره المؤمنين من ممارسة الصفات الذميمة حتى يظل المؤمنون اخوة يشيع بينهم الود والإخاء.
وقد وردت النصوص الكثيرة في آداب المجتمع والعلاقات بين أفراده. يقول الله تعالى في سورة النساء: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً) النساء/ 36.
يبين الله سبحانه وتعالى في هذه الآية ما يقوي صلة الناس بربهم، وما يقوي الصلات بين بعضهم بعضاً، ويأمرهم بعبادته وحده وبالخضوع والتذلل له، مع الإخلاص واليقين، وألاّ يتخذوا معه في ذلك شريكاً في خلقه. وأمرهم أيضاً بالإحسان إلى الوالدين، بارين بهما، كارهين تاركين لعقوقهما، شاكرين لهما ما لقيا في سبيل تربيتهم، وقرن حقهما بحقه سبحانه وتعالى إعظاماً لحقهما وإعلاء لقدرهما. وبعد ذلك أمرهم بالإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانهم. وقد أوصى رسول الله (ص) بالجار، فقال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) رواه الإمام أحمد. وإذا ما تحقق هذا الإحسان لهؤلاء جميعاً. تم بذلك التعاون وصفت النفوس. وهذا تعليل للأمر بالإحسان إلى ما ذكروا، كأنه قيل: أحسنوا إلى هؤلاء ولا تتعالوا عليهم، لأن الله لا يحب المختال المتكبر على غيره، ولا الفخور المتباهي بما قدمه من معونة وإحسان.
عن معاذ بن جبل (رض) أنه قال: كنت رديف رسول الله (ص)، فقال: (هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوا ولا يشركوا به شيئاً، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله تعالى إذا فعلوا ذلك، قلت: الله ورسوله أعلم، قال فإن حق الناس على الله أن لا يعذبهم، قال: قلت يا رسول الله ألا أبشر الناس، قال: دعهم يعملون) رواه الشيخان البخاري في اللباس ومسلم في الإيمان.
- كفالة اليتيم:
روى انه (ص) قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى) رواه البخاري، وفي رواية أخرى: (مَن مسح رأس يتيم ولم يمسحه إلا الله كان له بكل شعرة تمر عليها يداه حسنات ومن أحسن إلى يتيم أو يتيمة عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين اصبعيه) رواه الإمام أحمد بن حنبل.
- معاملة العبد:
وكذلك بالنسبة للعبيد، فقد روى انه (ص) قال: (هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه) رواه الشيخان وأبو داود. والله لا يحب أي متكبر على الناس من أقاربه وأصحابه وجيرانه وغيرهم، ولا يلتفت إليهم، ويتفاخر عليهم بما آتاه الله.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة التربية والأخلاق