ـ الصراع الطائفي:
اتسع الخلاف العلمي والفكري بشكل مطرد في الفترة التي أعقبت رحيل
أئمة المذاهب، وتحول إلى ما يشبه الحرب الشاملة على مختلف
المستويات والمجالات، بما فيها الإعلام والفتاوى والاقتتال، وذلك
ابتداء من القرن الرابع الهجري. ونشير هنا إلى نموذج من الحرب
الإعلامية، وهو الشعر، الذي كان يومئذ بمثابة الصحف اليومية
المتجولة، لما له من دور خاص في عملية الإثارة والتحريك وإلهاب
المشاعر.
ولا شك أن اللهجة التي يتراشق بها هؤلاء الشعراء، إنما تعبر عن عمق
الصراع بين الاتجاهات التي يمثلونها، ففي مجموع الأبيات تشكيك غير
طبيعي من قبل كل مذهب بالمذاهب الأخرى، وهو التشكيك الذي كان يصل
إلى حد الإخراج عن ملة الاسلام. فليس عجيباً أن يحرّم علماء
الشافعية زواج الشافعي من حنفية، إلا بالقياس إلى الكتابية، في حين
حرّم الأحناف الصلاة خلف الشافعية، لأن الإمام الشافعي أباح للرجل
الزواج من ابنته التي جاء بها من الزنا، وهلمّ جرّا...
أما حوادث العنف والاقتتال التي كان إفرازاً طبيعياً للتعصب
المقيت، فكانت تتصاعد بشكل مأساوي. فيذكر ابن الأثير في حوادث سنة
(324هـ) ان الحنابلة كانوا يثيرون الفتن في بغداد، ويروجونها،
واستظهروا على الشافعية بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد،
وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم،
حتى يكاد يموت. ويقول ابن كثير في حوادث سنة 354هـ: (في عاشر
المحرم منها عملت الشيعة مأتمهم وبدعتهم -عزاء الحسين- ... ثم
تسلطت أهل السنة على الروافض فكبسوا مسجد براثا الذي هو عش الرافضة
وقتلوا بعض مَن كان فيه).
وفي سنة (350هـ) استعان السنة بالجنود الأتراك والزنوج، وكانوا
يسألون المارة عن خالهم، فإن لم يقولوا معاوية ضربوهم. وكان أهل
السنة في مصر إذا أرادوا قتال الشيعة يصيحون في الطرقات: (معاوية
خال علي). كما وقعت فتنة عظيمة سنة (363هـ)، حيث عمد بعض أهل السنة
إلى مقابلة ما يقوم به الشيعة من الاحتفال بعيد الغدير والعزاء يوم
عاشوراء، وقالوا: (نقاتل أصحاب علي)، فقتل بسبب ذلك من الفريقين
خلق كثير.
وفي سنة (407هـ) ارتكب المعز بن باديس أفضع المجازر وأكبرها بحق
الشيعة في بلدان شمال أفريقيا، حتى ذكر أن حجم المجازر تسبب في
انقراض الشيعة هناك. وفي سنة (450هـ) ارتكب السلاجقة مذبحة كبيرة
بحق الشيعة في بغداد، وأحرقوا دورهم ومكتباتهم، وفيها هرب الشيخ
الطوسي (رئيس الشيعة) إلى النجف الأشرف، وأسس حوزتها العلمية.
وبعد الاقتتال العنيف بين الحنابلة والشافعية في بغداد سنة
(469هـ)، حاول الوزير نظام الملك التوصل إلى حل للمشكلة، فجمع بين
ابن القشيري (شيخ الشافعية) وأصحابه وبين أبي جعفر الشريف (شيخ
الحنابلة) في مجلسه، وطلب منهما أن يتصالحا، فقال له القشيري: (أي
صلح يكون بيننا؟ إنما الصلح بين مختصمين على ولاية، أو دَين، أو
تنازع في ملك. فأما هؤلاء القوم: فيزعمون إنا كفار، ونحن نزعم أن
مَن لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأي صلح يكون بيننا).
وفي سنة (555هـ) أدى التعصب المذهبي بين الحنفية من جهة والشافعية
والشيعة من جهة أخرى في نيسابور إلى قتل خلق عظيم، ومنهم علماء
وفقهاء، وحرق الأسواق والمدارس والبيوت. ثم وقعت فتنة أخرى مشابهة
في نيسابور بين الشافعية والحنابلة، اضطرت فيها السلطة للتدخل
بالقوة وفض النزاع، وحدث الأمر ذاته في اصفهان وبغداد. وكانت نهاية
سفك الدماء وهتك الأستار واشتداد الخطب ـ كما يقول ابن الأثير ـ ان
خرّب الشافعيون كل ما بقي للأحناف في نيسابور. كما كانت اصفهان
مسرحاً دائماً للصراع بين الشافعية والحنفية قبل مجيء الدولة
الصفوية. ويذكر المؤرخون أن الحنابلة قتلوا بالسم الفقيه أبا منصور
الشافعي سنة (657هـ) في بغداد.
ومن جانب آخر، كانت حرب الفتاوى تهيئ الأرضية الشرعية للاقتتال،
فمن الفتاوى المثيرة في هذا الصدد فتوى الشيخ بان حاتم الحنبلي،
التي يقول فيها: (مَن لم يكن حنبلياً فليس بمسلم).
وهناك فتوى أخرى معاكسة، فحين اجتمعت المذاهب في دمشق على الحنابلة
تستنكر آراء الشيخ ابن تيمية الحنبلي، أفتى العلماء بارتدادهم
وكُفّر ابن تيمية، ونادى المنادي: (مَن كان على دين ابن تيمية حلّ
ماله ودمه).
في حين يقول الشيخ محمد بن موسى الحنفي، قاضي دمشق (ت: 506هـ): (لو
كان لي من الأمر شيء لأخذت على الشافعية الجزية).
بينما فكر أبو حامد الطوسي (ت: 67هـ) أن يضع الجزية على الحنابلة.
ويتضح من خلال ذلك كله أن الصراع الطائفي العنيف كان سبباً رئيساً
في سيطرة المغول على البلاد الاسلامية. ومن المصاديق المأساوية
لهذه الحقيقة قضية احتلالهم اصفهان، بالشكل الذي يذكره ابن أبي
الحديد، إذ يقول بأن القتال بين الحنفية والشافعية وصل حداً في
اصفهان، بالشكل الذي يذكره ابن أبي الحديد، إذ يقول بأن القتال بين
الحنفية والشافعية وصل حداً في اصفهان أن خرجت جماعة من الشافعية
إلى المغول الذين احتلوا المدن المجاورة وعجزوا عن احتلال اصفهان
سبع سنوات كاملة، وقالت لهم: (اقصدوا البلد حتى نسلّمه إليكم) على
أن يعينوا الشافعية على الحنفية، فنقل ذلك إلى ملك المغول (قاآن بن
جنكيزخان)، فحاصر اصفهان، في وقت كان الشافعية والحنفية يواصلون
القتال في المدينة، حتى قتل كثير منهم، وفتح الشافعية أبواب
المدينة، على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية، ويعفوا عن
الشافعية، إلا أن التتار بدأوا بقتل الشافعية وانتهوا بالحنفية، ثم
سائر المسلمين.
وقد تسبب هذا الصراع الدموي في تشكيل تيار من المسلمين يتكتمون على
حقيقة انتمائهم المذهبي، إما خوفاً وإما لمصلحة أخرى.
وإذا كان الخلاف بين المذاهب السنية نفسها قد أصبح بهذا الحجم،
فكيف به ـ إذن ـ بين أهل السنة والشيعة. فلابد أن يتخذ هذا الخلاف
طابعاً آخر يتمثل في التحزب الشامل المتقابل، والذي يشكل الحكام
أحد أهم مفرداته، فقد أعملت السلطات المتتالية، الأموية أو
العباسية أو الأيوبية أو السلجوقية أو العثمانية، السيف في الشيعة،
ومزقتهم وقتلت أئمتهم وعلماءهم. وكانت تهمة التشيع تعني سياسياً
الخروج على السلطة، وعقائدياً البدعة والارتداد والكفر، وكان كلا
المعنيين (التكفير والمعارضة) يكمل أحدهما الآخر، فالذين أفتوا
بكفر الشيعة واتهموهم بالانحراف، إنما فعلوا ذلك بدوافع مختلفة،
لعل من أبرزها التزلف والتقرب لخلفاء بني أمية وبني العباس، وتتمثل
الدوافع الأخرى في الخوف من ميل الناس نحو التشيع، أو الوقوع في
اللبس نتيجة اشتراك بعض الفرق والمذاهب مع (الإمامية الاثني عشرية)
في تسمية (الشيعة)، وكذلك حمل (الغلاة) عليها، فإذا وجدوا ـ مثلاً
ـ أقوالاً منكرة أو كافرة عند أحد هذه المذاهب نسبوها إلى التشيع
عامة أو إلى الإمامية خاصة. والدافع أو العامل الأخير هو اتباع أو
تقليد علماء المذاهب السابقين من الذين اتهموا الشيعة.
وإمعان النظر في مسألة التكفير، يؤدي إلى الشك في مَن ابتدعها أو
مارسها وروج لها، وبنياته، وإلى إثارة علامات الاستفهام حوله، لأن
في مسألة التكفير تنصل عن المبادئ التي جاء بها الرسول الأعظم (ص)
وكذلك عما ثبته أئمة المذاهب أنفسهم، يقول النبي الأكرم (ص): (ذمة
المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على مَن سواهم، فمن أخفر
مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ولا يقبل نمه يوم
القيامة صرف ولا عدل).
وقد أجمعت المذاهب الاسلامية على حد أدنى للاسلام، وهو ما تحدث عنه
الأئمة وأتباعهم أكثر من مرة، يقول الإمام جعفر الصادق (ع): (الاسلام
هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله (ص)، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصيام شهر
رمضان).
ويذكر الشعراني في (طبقاته) ما نقله أحمد السرخسي، عن أبي الحسن
الأشعري (شيخ الأشاعرة) قوله عندما حضرته الوفاة: (اشهدوا عليّ،
إنني لا أكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب، لأني رأيتهم كلهم يشيرون
إلى معبود واحد، والاسلام يشملهم ويعمهم).
ويذكر الشعراني أيضاً إجماع علماء بغداد بقولهم: (لا يكفر أحد من
المذاهب الاسلامية، لأن رسول الله (ص) قال: مَن صلى صلاتنا،
واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فله مالنا وعليه ما علينا).
وقد سئل الشيخ تقي الدين السبكي (ت: 756هـ) عن حكم التكفير، فأجاب:
(ان كل مَن خاف الله عزوجل استعظم القول بالتكفير لمن يقول: أشهد
أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله).
ولكن المصالح والألاعيب السياسية استدعت أن تستمر حركة التكفير
والرمي بالارتداد، بل وتنشط في عهد الدولة العثمانية، فقد أدت فتوى
أحد علماء البلاط (الشيخ نوح حكيم الحنفي) إلى مقتل (40- 70 ألف)
شيعي في الأناضول (التركية)، و(44 ألفاً) في جبل عامل (بلبنان)
و(40 ألفاً) في حلب (بسوريا) على يد السلطان سليم الأول (ت:
925هـ)، الذي أمر بقتل الشيعة أينما وجدوا في البلاد العثمانية،
حتى ذُكر أنه لم يبق شيعي في حلب، حيث قتل رجالهم وسبيت نساؤهم
وانتهبت أموالهم وأخرج الباقون من ديارهم. وتتضمن فتوى الشيخ نوح
التي ذكرها في كتاب (الفتاوى الحامدية) وجوب مقاتلة الشيعة وكفر
مَن لا يرى ذلك، يقول: (ان هؤلاء -الشيعة- الكفرة البغاة الفجرة
جمعوا بين أصناف الكفر والبغي والعناد وأنواع الفسق والزندقة
والإلحاد، ومن توقف في كفرهم وإلحادهم ووجوب قتالهم وجواز قتلهم
فهو كافر مثلهم... فيحب قتل هؤلاء الأشرار الكفار تابوا أو لم
يتوبوا) ثم حكم -في نهاية فتواه- باسترقاق نسائهم وذراريهم.
كما أفتى الشيخ برهان الدين المالكي والشيخ عباد بن جماعة الشافعي
بارتداد الشيخ محمد بن مكي العاملي (كبير علماء الشيعة في الشام)،
حيث قتل بالسيف ثم صلب ورجم وأحرقت جثته بالنار في سنة (786هـ) في
دمشق. وقتل العثمانيون أيضاً (بأمر رستم باشا الوزير) الشيخ زين
الدين الجبعي العاملي (أحد كبار علماء الشيعة) سنة (965هـ) بعد أن
وشى به بعض علماء السنة بأنه يدعي الاجتهاد ويريد نشر المذهب
الجعفري. وفي الوقت نفسه سوغت الفتاوى لوالي عكا العثماني قتل
الشيعة في جبل عامل قتلاً جماعياً، وكان بينهم فقهاء وأدباء
ومفكرون. ثم قام الأمير ملحم بن الأمير حيدر بمهاجمة جبل عامل
أيضاً في سنة (1147هـ)، فقتل وسلب وخرب ونهب. وفي شرق البلاد
الاسلامية استند عبدالمؤمن خان (ملك الأوزبك) إلى الفتاوى للقيام
بمجزرة كبرى في خراسان، بعد أن استباح مدينة مشهد وقتل الآلاف من
سكانها، وسبى نساءهم وانتهك حرماتهم، بسبب تشيعهم.
وخلال حكم الدولتين العثمانية (الحنفية) والصفوية (الإمامية
الشيعية)، أصبح الصراع الطائفي في جانبه الأعظم صراعاً وتنافساً
سياسياً مغلفاً بالشعارات المذهبية، وقد ساهمت في صنعه وتعميقه دول
أوروبا (التي كانت في بدايات مد نفوذها الخارجي)، بهدف تفتيت وحدة
الدول الاسلامية. فإبان انتصارات العثمانيين المتتالية في عمق
أوروبا والتمدد الصفوي في المنطقة، وبعد أن أصبحتا أقوى دولتين في
العالم الاسلامي أجمع، تحرك الأوروبيون لضربهما من الداخل، فنشبت
الحروب بينهما، حتى قيل ان أية دولة في العالم لم تستطع الوقوف
بوجه العثمانيين سوى الدولة الصفوية، وان أية أيبة دولة لم تعاد
الصفويين أكثر من الدولة العثمانية. وفي الوقت الذي كان فيه
الأخوان روبرت وانطوني شرلي (الانجليزيين) متحمسين لصناعة المدافع
النارية للشاه عباس الصفوي (ت: 1629م)، بغية استعمالها في الحرب ضد
العثمانيين، فإن العثمانيين كانوا يخرجون شيعة العراق من الجيش،
وان أبقوا على أحد منهم فلا يسمح له ـ على أحسن الفروض ـ أن يتجاوز
رتبة (ضابط صف).
ونتيجة الأمر أن انتهى هذا الصراع (الطائفي-السياسي) بين الدولتين
الاسلاميتين الكبريين إلى سقوط (الصفويين) عاجلاً، وسقوط
(العثمانيين) آجلاً، وتقسيم الدولة العثمانية واستعمار الدولة
الإيرانية.
وإذ يتركز الحديث على قيام السلطات بممارسة الطائفية، وخاصة خلال
الحكم العثماني، فلا يعني ذلك أن الصراع منحصر في الدائرة الرسمية،
وفي منطقة معينة، وان الشعوب الأخرى تنعم بالتعايش المذهبي فيما
بينها، بل إن النزاع ـ الذي استمر مئات السنين ـ قد حفر آثاره في
عمق عقول الكثير من المسلمين وضمائرهم، وظلت تتوارثه الأجيال
واحداً تلو الآخر. ولعل الحادثة التي ينقلها السيد جمال الدين
الأفغاني (الآسدآبادي) مصداق لهذه الحقيقة، إذ يقول: (يوجد في بلاد
الأفغان قبيلة تدعى التركمان يعيشون على السلب والنهب، فيغيرون على
بلاد إيران، يأسرون الرجال والنساء ويبيعونهم باسم العبيد والإماء،
مستدلين بأن أسراهم من الشيعة، وكثيراً ما يأسرون أشخاصاً من
السنيين ويجبرونهم بالضرب والكي على أن يعترفوا أمام الناس
بالتشيع، كي لا يمتنع أتقياء بخارى عن شرائهم).
ـ ذيول المسألة الطائفية:
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي برز التدخل
الاستعماري كأهم عامل ومسبب للمشكلة الطائفية الحديثة، وبصيغة في
التدخل تختلف عما سبقها، فمن مفرداتها: التيارات الطائفية المنحرفة
التي تدعي الدين، والعلماء العصريون، والسفارات، اضافة إلى
الاحتلال المباشر، أما أبرز أساليب التدخل فهي سياسة (فرّق تسد)
التي ورثها الاستعمار من أسلافه الصليبيين. يقول أنور الجندي في
هذا المجال: (كان تأريخ الاسلام حافلاً بالخلافات والمساجلات
الفكرية وبالصراع السياسي بين السنة والشيعة. وقد حرص الغزو
الخارجي الممتد من الحروب الصليبية إلى اليوم أن يغذي هذا الخلاف
وأن يعمق آثاره حتى لا تلتئم وحدة عالم الاسلام، وكانت حركة
التغريب وراء الإيقاع بين السنة والشيعة وتفريق كلمتهم).
وقد مهدت تلك الصيغ والأساليب لتمزيق العالم الاسلامي، ومن ثم
السيطرة عليه من قبل الاستعمار الأوروبي بالكامل. وباتت الأمة
تعاني من مواجهة عاملين رئيسين برزا في العصر الحديث بفرض سياسة
الغزو الاستعمارية الشاملة:
الأول: انتشار التيارات الطائفية والمدارس الوضعية والأفكار
المادية.
الثاني: التآمر على الفكر الاسلامي الأصيل، ومحاولة حرفه.
وكان من شأن تلاحم هذين العاملين ونجاحهما، وضع الاسلام ـ كدين
وكتشريع سماوي شامل ـ على طريق التآكل والانهيار كهدف نهائي،
وتمزيق المسلمين من الداخل كهدف قريب. وتكشف الممارسات العملية
للصليبية الجديدة بأن الآمر على وحدة الأمة الاسلامية أصبح شغلها
الشاغل، بعد أن دلتها دراساتها المعمقة على أن هذا الأسلوب أكثر
ثمرة ونفعاً في التصدي للاسلام.
ففي الجزيرة العربية نجح الوهابيون في تنفيذ المخطط الاستعماري
بالكثير من تفاصيله، حيث تحولوا إلى محور أساس لتمزيق الأمة وتكفير
مذاهبها ـ باستثناء مذهبهم الوهابي ـ ولم تقتصر هجماتهم المتوالية
على المسلمين الشيعة وحسب، بل تعدته إلى المسلمين السنة أيضاً، وإن
كان نصيب الشيعة أوفر بكثير.
وعقد في عام (1907م) مؤتمر أوروبي كبير برئاسة وزير خارجية
بريطانيا، كان من أهم مقرراته: (وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها
لمنع ايجاد اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط، لأن الشرق الأوسط
المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا).
ويقول المبشر لورانس براون: (يجب أن يبقى المسلمون متفرقين، ليبقوا
بلا قوة ولا تأثير).
كما يقول القس سيمون: (ان الوحدة الاسلامية تجمع آمال الشعوب
الاسلامية، وتساعد على التملص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل
مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أن نحول بالتبشير
اتجاه المسلمين عن الوحدة الاسلامية).
وقدّر الصليبيون الجدد انهم بتدمير الخلافة الاسلامية في تركيا،
يتمكنون من تحقيق جزء مهم من أهدافهم في تفتيت وحدة الأمة. ويتضح
عمق تلك الأهداف من خلال الشروط التي فرضت على الدولة التركية في
مؤتمر لويزان للصلح في أعقاب الحرب العالمية الأولى:
أ ـ إلغاء الخلافة الاسلامية، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة
أمواله.
ب ـ تتعهد تركيا باخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة.
ج ـ تقطع تركيا صلتها بالاسلام.
د ـ تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من
الاسلام.
وأعقبت مرحلة القضاء على الخلافة الاسلامية والاستعمار المباشر
وانتشار التيارات المنحرفة ـ ومنها الطائفية ـ ، مرحلة أخرى تمثلت
بفرض أنظمة ورموز (عميلة) على بلدان العالم الاسلامي المجزأ، الهدف
منها تحقيق أهداف الاستعمار والمحافظة على مكتسباته السابقة. فكان
من هؤلاء: عبدالعزيز آل سعود في الحجاز وأتاتورك في تركيا، ورضا
خان في إيران وآخرين.
وبقي الضرب على الوتر الطائفي هو الورقة الناجحة لأعداء الأمة
دائماً، فأصبحت بعض الرموز الحاكمة بالتدريج مفردات رئيسة في
اللعبة الطائفية، لتحويلها إلى طائفية سياسية بحتة، ليست لها علاقة
مباشرة بأصل الدين، على العكس مما كانت عليه طوال مئات السنين. ففي
إيران حاول محمدرضا بهلوي وضع نفسه في موقع تمثيل الشيعة، فمارس
الطائفية بأبشع صورها، وكان في جانب من ممارساته هذه يهدف إلى
إفراغ التشيع من محتواه العقائدي والحضاري، وتحويله إلى قضية
مذهبية ـ سياسية، وإلى تشيع شكلي، ودعمه في توجهه هذا بعض وعاظ
السلاطين، ووصفوه بـ(الملك الشيعي الوحيد). وعلى مستوى بعض الحكام
من أهل السنة هناك نماذج شبيهة، كآل سعود ـ مثلاً ـ . فمن صور
الطائفية السياسية التي تبناها هؤلاء الحكام، الحوار الذي جرى على
هامش أحد المؤتمرات الاسلامية، والذي قال فيه محمد رضا بهلوي لأنور
السادات: (بأي حق أنتم العرب تدعون تمثيل الاسلام، وأنتم أقلية
سنية في بحر الأكثرية الشيعية).
فهل يعني هذا أن بهلوي كان يمثل التشيع وإن السادات كان يمثل
التسنن؟! وهل ان بعض الحكام ـ اليوم ـ يمثلون التسنن، من خلال
دفاعهم الطائفي عنه في مواجهة التشيع؟! حتى ان بعض الحكومات رفعت
شعار: (كل شيعي مدان حتى تثبت براءته).
وهو الأمر الذي لا يسمح لأبناء الشيعة بالوصول إلى الوظائف العليا
في البلاد، وبادخال الكتب التي تتناسب مع مذهبهم، أو طبع كتب
مذهبهم، أو الدفاع، في الأقل، عن معتقداتهم وآرائهم تجاه ما يقال
وينشر ضدهم، فضلاً عن عدم قبول شهادة الشيعة في المحاكم الرسمية،
في حين تقبل كل شهادة ضدهم، ومساجدهم مهملة، بل وتهدم أحياناً.
والمفارقة المثيرة هنا تتمثل في أنهم يتهمون المطالبين برفع هذا
الحيف بالطائفية ويزجونهم في المعتقلات.
ومن المفردات الأخرى المهمة للمسألة الطائفية الحديثة: الإهمال
المتقابل لأفكار الطرف الآخر وآرائه. فمثلاً في سياق عرض الآراء
الفكرية والعقائدية والفقهية في قضية ما كان فإن معظم العلماء
والمفكرين والكتاب (السنة) لا يتطرقون إلى آراء أئمة الشيعة ومواقف
علمائهم ومفكريهم، ولا إلى كتبهم، بل يقتصرون على المذاهب الأربعة
فقط. وهذا الاتجاه يستدعي أحياناً موقفاً متقابلاً. الأمر الذي
يعمق الفجوة ويؤكد الاتجاه الطائفي المقيت. وقد تنبه عدد من
العلماء والكتاب السنة إلى هذه الظاهرة، وحاولوا معالجتها: كالشيخ
محمود شلتوت والشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبو زهرة والدكتور
عبدالفتاح عبدالمقصود والدكتور حامد حفني داود والشيخ فكري أبو
النصر والشيخ أحمد حسن الباقوري والشيخ محمد محمد المدني وأعضاء
جماعة التقريب في القاهرة.
أما المفردة الأخرى المهمة في المسألة الطائفية الحديثة، فهي
الكتابات المليئة بالتهم والافتراءات، والتي لا يبقي بعضها على أية
محاولة للتقارب، إذ تكرر الأخطاء التي سنها المؤرخون والرواة
القدامى، وتستلهم أفكارها الحديثة من المستشرقين، وتضيف إليها آراء
وأحكاماً يصدرها الكاتب نفسه أعدها من قبل. وفي هذا المجال يقول
الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتزاني ـ أستاذ سابق في جامعة
القاهرة ـ في دراسته حول المستشرقين والاستعمار: (من بين العوامل
التي أدت إلى عدم إنصاف الشيعة أيضاً أن الاستعمار الغربي أراد في
عصرنا أن يوسع هوّة الخلاف بين السنة والشيعة، وبذاك تصاب الأمة
الاسلامية بداء الفرقة والانقسام، فأوحى إلى بعض المستشرقين من
رجاله بتوخي هذا الفن باسم البحث الأكاديمي الحر.
ومما يؤسف له أشد الأسف ان بعض الباحثين من المسلمين في العصر
الحاضر تابع أولئك المستشرقين في آرائهم دون أن يفطن إلى حقيقة
مراميهم).
ومن أبرز الكتب التي تدخل في هذا المجال، والتي ساهمت في تفتيت
أواصر الوحدة الاسلامية، كتاب الشيخ محمد الخضري (محاضرات في تأريخ
الأمم الاسلامية)، و (السنة والشيعة) للسيد محمد رشيد رضا،
و(الصراع بين الاسلام والوثنية) لعبدالله علي القصيمي، وكتب أحمد
أمين ومنها (فجر الاسلام) على وجه الخصوص، و(جولة في ربوع الشرق
الأدنى) لمحمد ثابت، و(إعجاز القرآن) لمصطفى صادق الرافعي،
(والوشيعة في عقائد الشيعة) لموسى جار الله، و(الخطوط العريضة
للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية) لمحب الدين الخطيب،
و(تبديد الظلام) لإبراهيم سلمان الجبهان. ويجمع بين هذه الكتب
اتهام الشيعة وأئمتهم وفكرهم بالكفر والارتداد والشعوبية.. الخ.
وبعد قياما لجمهورية الاسلامية في إيران، أخذت المسألة الطائفية
تتحول إلى مؤامرة كبرى تستهدف الدولة الاسلامية في الصميم، في اطار
أهداف قريبة وبعيدة غاية في العمق.
ومن خلال كل الأرقام والشواهد التي سقناها، نريد القول ـ كما
أسلفنا في المدخل ـ ان مهمة الوحدة الاسلامية ليست مهمة سطحية
وانفعالية، بل إنها عميقة عمق الخلاف المتجذر بين مذاهب المسلمين،
وعمق التغلغل الأجنبي في صفوفهم. وليس من الممكن والمعقول أن نطالب
أحداً ـ مهما كان موقعه في الأمة ـ أن يمحو في أشهر أو سنوات
محدودة كل الآثار والمخلفات لقضية متشعبة تبلورت واتخذت شكلها
النهائي خلال ما يقرب من (1400 عام)، بالشكل الذي يريده بعضهم من
الدولة الاسلامية في إيران. فالتفكير بمعالجة الجانب السلبي من
المسألة الطائفية يجب أن يكون تفكيراً علمياً وموضوعياً، ويعتمد
الدراسة والبحث، ابتداء من جذور الخلاف. ومن الضروري أيضاً وضع
حدين أعلى وأدنى لحل المسألة الطائفية، كي لا نصاب بالخيبة واليأس
في مواجهة الواقع، فإذا ما حيل دون الوصول إلى الحد الأعلى للحل ـ
أو المثالي كما يسميه بعضهم ـ لأي سبب كان، فإن الحدود الدنيا لابد
أن توضع في نظر الاعتبار، وفقاً لقاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك
جله).