موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

أثر الحرية في تجديد العقل الاسلامي
طه عبدالرحمن



لا أحد ينكر أن ما تتعرض له حركة التجديد الاسلامي المعاصرة من ألوان (التضييق) و (التشنيع) من القوى الخارجية والداخلية يتنافى مع كل المبادئ والدعاوي والشعارات التي تبثها بعض هذه القوى بين بني البشر، مدعيةً تجديد نظام العالم.
ولا أدل على هذا التضييق والتشنيع على حركة التجديد الإسلامي من نعتها بالعنف والتطرف وجعل رجالها رموزاً للتزمت والإرهاب، حتى أخذت بعض الفئات من المسلمين أنفسهم يشاركون، عن جهل أو عن ذل، في هذه الممارسة الظالمة.
والحق أن ما شاهدناه وما زلنا نشاهده في الحركات الشذوذية والتيارات العنصرية التي تنتشر في العالم الغربي من أساليب التخريب وفنون الفساد، يربأ المسلمون بأنفسهم عن اتباعه أو الدعوة إليه لخروجه عن تعاليم الدين وعن تاريخ الملة؛ ومع هذا، فلا يستنفر الغرب وسائل التضييق والتشنيع لمواجهة هذه الحركات مثلما يفعل في حق التحرك الإسلامي، وما ذاك إلا لأنه يعلم علم اليقين أن مشاريعه الهيمنية لا تقدر على معاكستها وإسقاطها إلا الطاقة الإيمانية المبثوثة في مبادئ الإسلام.
في حين عَمد، بمَكره المعهود، إلى تسخير فئات من المسلمين تتولى عنه ممارسة التضييق والتشنيع في بلاد الإسلام، لأن هذا أضمن لنجاح مخططاته في التغلب والسيطرة، فلو أنه تولى بمفرده هذه الممارسة الظالمة لما اكن يبلغ فيها ما تبلغه هذه الفئات المسخرة، هذا إذا لم تنقلب عليه هذه الممارسة، فتجتمع فئات المسلمين على مناهضة مخططاته.
وما بلغته هذه الفئات المسخرة من مناهضة التجديد الإسلامي وصل إلى حد التجاسر على اتخاذ مواقف تُعارض الأصول العقدية الراسخة، والتطاول على الإتيان بآراء تقدح في الثوابت الشرعية القطعية، نذكر منها أساليب المناهضة التالية:
- المجاهرة بمخاصمة إحياء الروح الإسلامية عن طريق ترتيب لقاءات وتنظيم تظاهرات للتنديد بمجهودات الإحياء التي تبذلها الحركات الإسلامية.
ـ تكوين جمعيات أو منظمات من أجل تنسيق الدعوة إلى إهمال بعض المعتقدات الدينية وتعطيل بعض الحدود الشرعية.
ـ تحريض بعض الأجهزة الداخلية الضاربة على التصدي لامتدادات التحرك الديني، حتى يُفسَح لها المجال لنشر المنقول من الأفكار العلمانية والمذاهب الإلحادية.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف إذن يمكن لحركة التجديد الإسلامي أن تدفع عنها مضرة هذه الأساليب المختلفة في التضييق والتشنيع؟
يظهر لي أن المعاملة بالمثل لا تنفع كثيراً في صدّ هذه الحملة المنسقة على الإحياء الإسلامي، إذ لا أتصور المجاهرة بالعداء لمبادئ وشعارات أصحاب هذه الحملة إلا أنها تفضي إلى مزيد من التضييق والتشنيع، لأن هذه المبادئ والشعارات صارت عند الناس، بسبب التزويد الإعلامي المحكم، بمنزلة حقائق لا ينكرها، في ظن هؤلاء، إلا جاهل، ولا يتطاول على القدح فيها إلا من يكون شره أكثر من خيره، فيكون أولَى بالقمع والإسكات.
كما أني لا أتصور الانتظام في تشكيلات معادية لهؤلاء إلا أنها تعرض حركة التجديد الإسلامي لمزيد من التشويه وأصحابها لمزيد من التنكيل، لأن تهمة الإرهاب والعنف ألصق بالمناهضة المنظمة المتمثلة في التشكيلات الجماعية منها بالمناهضة العفوية وغير المنسقة.
وكذلك لا أتصور الاستعانة بأجهزة سلطوية قاهرة إلا أنه يحمل على مزيد من تشنيع الخصوم بالحركة التجديدة الإسلامية وضرب الطوق عليها، لأن رميها بالرجعية والانتهازية والتواطؤ تصبح أسلحة جديدة في يد الخصوم.
وأخيراً، يظهر لي أن الزيادة في تنشيط (الحركية السياسية) لتيار التجديد الإسلامي لا تُحصِّل كبير فائدة في التغلب على أساليب الخصوم، بل إن استبداد التوجه السياسي بنشاطات هذا التيار هو الذي جلب عليه هذا التضييق المنظم والتشنيع المكثف من الداخل ومن الخارج، ذلك لأن القلوب مجبولة على حب الرئاسة ومهيأة للتنازع على السلطة بكل الوسائل التي تمكنها من التغلب على الخصم.
ولست أرى من مخرج لحركة التجديد الإسلامي من وضع التضييق والتشنيع التي تعاني منه، إلا بتمام استيضاحها للمدلول الإسلامي للتجديد؛ فالتجديد في منظور الإسلام ليس هو مجرد التشييد للصرح الدنيوي من حظوظ خاصة ومصالح مشتركة، بل هو أشرف من ذلك درجات، نظراً لأنه يطمح إلى تشييد علاقة الإنسان بربه، ولا هو مجرد التغيير في الوعي السياسي للأفراد، بل هو أوسع من ذلك درجات، لأنه ينزع إلى تغيير الإنسان بوصفه كلاً متكاملاً.
ولما كانت حملة التضييق والتشنيع لا تَطال الحركة الإسلامية إلا من جهتين مبتذلتين جرت عادة البشر بالتناحر عليهما، وهما: (تشييد الصرح الدنيوي) و (الخوض في التوعية السياسية)، أليس يجدر بهذه الحركة أن ترتفع بعملها، في طلب التجديد وإحياء الإنتاجية الإسلامية، من المستوى الدنيوي الأدنى إلى المستوى الرباني الأشرف، ومن المستوى السياسي الضيق إلى المستوى الإنساني الأوسع! والحال أنه لا يمكن أن يتحقق لها الارتفاع إلى المستوى الرباني الأشرف الذي يجدد صلة العبد بربه إلا بـ (تزكية الخُلُق)، ولا الارتفاع إلى المستوى الإنساني الأوسع إلا بـ (تنمية الفكر).
ـ تزكية الخُلُق: فما أحوج الحركة الإسلامية أن تُوليَ كل عنايتها لهذه الدعامة الإسلامية التي وحدها تمكِّن من ايجاد رجال يستحقون أن يكونوا قدوات ونماذج لغيرهم، هذا مع العلم بأن الحاجة إلى القدوة هي اليوم أشد مما كانت عليه من قبل، وذلك لأن الخطابات الدعوية والدعائية تكاثرت وتضخمت بما لا مزيد عليه، فنشأت الحادة إلى دعوات حية متمثلة في سلوكات ملحوظة.
ـ تنمية الفكر: فما أحوج الانبعاث الإسلامي الجديد إلى العمل على النهوض بهذا الجانب الإنساني الذي وحده يمكِّن من الرد على شُبَه الخصوم وبناء معرفة اسلامية صحيحة، هذا مع العلم بأن الحاجة إلى المفكر الإسلامي هي أشد اليوم مما كانت عليه من قبل، وذلك لأن أصوات التجريح والتنقيص للمستوى الفكري للحركة الإسلامية تعددت وتعاظمت بما لا مزيد عليه، فتولدت ضرورة إنشاء فكر خصب يضاهي تنسيقاً وتعميقاً فكرانيات الخصوم المنقولة والمجترة.
وهكذا، يتبين أن حركة التجديد الإسلامي المعاصر، إذا جرى تضييق الطوق عليها والتشنيع على أساليبها وأهدافها ـ بسبب مزاحمتها في ممارسة السياسة وطلب السلطة للقوى الخارجية والداخلية ـ فإن لها في الإسلام ما يرتقي بعملها ويوسع مجال تحركها؛ ويتأتى الارتقاء بعملها متى مكَّنت نفسها من (الزاد الخُلُقي) الذي يرفع همتها ويجدد علاقتها بالخالق والمخلوق كما يتأتى التوسيع لمجال حركتها متى حصّلت (الزاد الفكري) الذي يدفع عنها الشُّبَه ويجلب لها الاعتراف.
*المصدر : سؤال الاخلاق


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ