موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

المثقف الديني والنماذج العلمانية
يحيى محمد
 


قد يصح القول إن الشكل الميتافيزيائي هو المرتكز المعرفي الأساس الذي يحدد هوية المثقف الديني الخاصة، حيث يتمثل بظاهرة الوحي والنص. لكنه ليس خلواً من سائر النزعات المعرفية الأخرى التي تكشف عن طبيعة ثقافته، ففي الغالب إنه قائم على مزيج من العلموية التي تستند إلى حقائق العلم واعتباراته، والعقلانية التي تتمثل بالانشداد إلى منطق العقل في محاكمة القضايا العامة. أما النزعة اللاعقلية بالطريقة النقضية فهو خلو منها، لا بمعنى أنه لا يعتقد بوجود جانب مظلم حيواني ولا معقول في النفس البشرية، بل إنه لا يجعل من العقل مطية هذا اللامعقول إلى الدرجة التي تتقوض فيها مقولاته المنطقية والتزاماته الوجدانية. لكن مع هذا فهناك صنف من المثقفين الدينيين ممن لا يعتمد على منطق التفكير العقلي بقدر ما يعتمد على دواعي الحدس والوجدان، مثل عثمان أمين في جوانيته، وعباس محمود العقاد في وجدانيته. ويظل الجانب الذرائعي ـ لدى المثقف الديني ـ مكملاً لتلك الأشكال المعرفية ومستنداً إلى ما تفرضه من اعتبارات.
على أن بين المثقف الديني والمثقف العلموي تنازعاً واختلافاً فيما يخص علاقة الدين بالحياة والواقع. فالمثقف العلموي يعتقد أن هناك تضاداً بين الدين والعلم، وفي أحسن الأحوال لا يرى أن بالإمكان قراءة الواقع، ومنه الواقع العلمي، بعين دينية. فهو بالتالي لا يرى بديلاً عن العلم يمكنه تفسير الواقع والكشف عن أسراره وخفاياه.
وعلى خلاف المثقف العلموي يرى المثقف الديني أن ما يضعه الأول من تضاد بين العلم والدين وما ينصبّ نفسه كنصير للأول على حساب الثاني، إنما جاء نتيجة خطأ في التقدير. فالتضاد المنسوب ليس إلا تضاداً بين منهجين مختلفين للفهم، أحدهما يعود إلى ما عليه المسلك البياني والذي ينتمي إليه الفقيه ومَن على شاكلته، حيث الميل إلى جعل التكوين المعرفي منحصراً بالنص، على شاكلة ما يقوله الإمام ابن حنبل: ((إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق))، أو ما يقوله أستاذه الشافعي: ((العلم طبقات شتى .. ولا يصار إلى شيء غير الكتاب والسنة، وهما موجودان، وإنما يؤخذ العلم من أعلى)). إذ جرى الكثير من تفسير الواقع والكشف عن أسراره وخفاياه ضمن الاعتبارات الواردة في نصوص الرواية والحديث. وبالتالي فإن هذا المسلك يعتمد في الأساس على عالم التدوين والأمر في فهم عالم التكوين والخلق، رغم عدم وجود قطع في سند العالم الأول أو دلالته. أما المسلك الآخر فيعود إلى المنهج العلمي الذي اتخذه العلماء لتفسير الواقع الموضوعي من خلال الفحص والمراجعة المستمرة اعتماداً على عدد قليل من المسلمات. من هنا فإذا كانت هناك قطيعة فهي ليست بين العلم والدين، وإنما بين النهدين العلمي والبياني. فالعلم يعتمد على معطيات الواقع والتحليل العقلي وهو ليس معنياً بالنصوص الدينية، وعلى خلافه يصدق الأمر مع المنهج البياني الذي يجد في النص مصدره الرئيسي لتكوين المعرفة، رغم تعامله القائم على الظنون في الغالب وليس القطعيات. وعلى ما يقوله محمد عبده: ((يرى القارئ أنه لم يكن هناك جلاد بين العلم والدين، وإنما كان بين أهل العلم وبين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء)).
لهذا فإن المثقف الديني وجد نفسه منذ بداية ظهوره معنياً بحل هذه القطيعة عبر عملية التوفيق التي نهجها، مخالفاً بذلك كلا النزعتين المتشددتين. فهو يتقبل من جانب النتاج العلمي والسلوك المنهجي الذي يتبعه العلماء في الكشف عن أسرار الواقع وخفاياه، خلافاً لما عليه المسلك البياني التقليدي، لكنه من جانب آخر حريص على التمسك بالمبادئ والقيم التي جاء بها النص، مما جعله يختلف تماماً عن النهج الذي عليه المثقف العلموي. وبالتالي يرى أن العلم والدين توأمان، أو أنه لابد أن ينتهي أمرهما إلى التآخي. بل إن المثقف الديني يعد النتاج العلمي لعلماء الطبيعة يشكل دعماً كبيراً لتأييد ما ينطق به النص. فالنص عنده سابق في الكشف عن خفايا الواقع مقارنة بما عليه العلم، مع الاعتراف بكونه كاشفاً على نحو الإجمال لا التفصيل، وذلك باعتبار أنه لم يوضع بديلاً عن الكشف العلمي وغنما مهمته الأساسية تنحصر بالهداية.
وبهذا فإن إحدى الوظائف التي حملها المثقف الديني على عاتقه هي المزاوجة بين النهجين البياني والعلمي، أو بين الفقيه والعلماني. وبعبارة أدق إنما جاء ليزاوج بين العلم والدين، أو الواقع والنص، مخالفاً بذلك السير المتصلب الذي عليه كلا النهجين الخاصين بالعلماني والفقيه.
على أن نفس ما ذكرناه ينطبق تماماً على ما يخص العلاقة بين المثقف العقلاني والمثقف الديني، وذلك من حيث التنافس الحاصل بينهما حول فهم الواقع وتفسيره، وكذلك حول العلاقة التي تربط العقل بالدين، فما يتصوره المثقف العقلاني من أن هناك تضاداً بين العقل والدين، وأن الدين هو الجانب اللامعقول بالقياس إلى الأداة العقلية، وأن المحاكمة تظل في جميع الأحوال خاضعة للعقل وليس إلى ما هو غيبي خارج عنه، فكل ذلك يمكن الإجابة عنه بمثل ما ذكرناه بصدد المثقف العلموي.
فمن ناحية إن ما ذُكر من تضاد بين العقل والدين ليس صحيحاً، بل الصحيح أن يقال إن هناك تضاداً بين النهجين البياني والعقلي، وقد يسفر هذا التضاد عن تناقض في مضامينهما، لكن ذلك لا شأن له بالدين وعلاقته بالعقل. وقديماً ظهر الكثير ممن يطرح فكرة التضاد من أصحاب النهج البياني، على الصعيدين الكلامي والفقهي. وواقع الأمر أن التضاد الذي ذكروه ليس تضاداً مع الدين وإنما مع فهمهم له، إذ أصبح من البيّن أن جميع المدارس والمذاهب الدينية إنما تمارس أنماطاً من الاجتهاد في الدين دون أن تكون ناطقة عنه على وجه القطع. ولا يستثنى من ذلك المدارس البيانية التي تعول على الظواهر الحرفية من النصوص. وربما يكون ابن رشد هو أول مَن وعى كون الممارسة التي تبديها تلك المدارس ومنها المدارس البيانية إنما هي ممارسة اجتهادية قائمة على بعض الأصول والمسلمات القبلية. لذا كان علم الطريقة علماً حيوياً لدراسة الفكر الإسلامي دراسة تتولى الكشف عن المولدات المعرفية والأسس القبلية لمناهج الفهم الديني.
مهما يكن فالملاحظ أن المثقف الديني لا يجد في العقل ما يمكن أن يكون مضاداً للمضامين الدينية، وأنه لا يصح عنده اعتبار الدين شكلاً لا معقولاً مقارنة مع العقل. بل يرى أن أحدهما جاء ليشهد ما لدى الآخر. فالعقل مؤيد بالدين، والدين مؤزر بالعقل، بلا تناقض ولا تعارض. فأغلب القضايا الدينية هي مما يشهد عليها الوجدان العقلي بالإقرار، خاصة تلك التي لها علاقة بالمصالح العامة. تظل هناك قضايا تعبدية وغيبية لا يعلم العقل عنها شيئاً، وهو أمر ليس غريباً طالما أن ذلك يجري حتى في العلوم الطبيعية، حيث هناك من الخفايا ما يعجز العلم عن إدراكها.
أما علاقة المثقف الديني بالمثقف الميتافيزيائي فيلاحظ أن للأول نوعاً من التعالي الغيبي يجعله من هذه الناحية لا يختلف عن الثاني. فكلاهما يستند إلى منظومة ميتافيزيائية متعالية رغم ما بينهما من الاختلاف الكبير على صعيد المحتوى. كذلك فإنهما يطمحان إلى تحقيق نموذج مثالي بحسب ما تمليه عليهما نزعتهما الميتافيزيائية التي تتعالى على التاريخ وظروفه الزمانية والمكانية. فما يطمح إليه المثقف الديني هو تحقيق الأمر الرباني المتمثل بخلافة الإنسان الصالح على أرض الواقع. وما يطمح إليه النموذج الميتافيزيائي، كما في الماركسية، هو تحقيق المجتمع الشيوعي (اللاطبقي) تبعاً للحتمية المادية والتاريخية المفترضة.
وبخصوص المثقف الذرائعي ففارقه عن المثقف الديني هو أنه من حيث نفعيته لا يملك تكويناً معرفياً محدداً، وبالتالي فهو بحاجة للامتزاج بغيره من الأشكال الثقافية الأخرى. أما المثقف الديني فرغم أنه ليس خلواً من النفعية إلا أنه يعدها مؤطرة بإطار منظومته المعرفية والقيمية. وأعني أن النفعية لديه هي نفعية محكومة وليست منفصلة أو مستقلة عن تلك المنظومة.
وعلى العموم فإن الفارق بين المثقف الديني والعلماني يمكن لحظه من حيث تصور كل منهما لعلاقات الإنسان، علاقته بنفسه وبالمجتمع والطبيعة والميتافزيقيا الغيبية. فالمثقف الديني ينطلق من نظرية الاستخلاف وحمل الأمانة الربانية ليس من حيث قوله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب/ 72 فقط، ولا من حيث قوله تعالى: (إن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء/ 105 فحسب، إنما كذلك من حيث النبوءة التي تبشر بمغزى هذا الاستخلاف والتي عارض فيها المولى جل وعلا ما توقعته الملائكة بقوله: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة/ 30.
على مثل هذه الآيات يقيم المثقف الديني تصوره الذي يؤسس فيه علاقات الإنسان المتعددة طبقاً لمفهوم الأمانة والاستخلاف، كالذي يلاحظ بوضوح لدى مثقفي ما بعد منتصف القرن العشرين. مما يعني أن منطلقاته هي منطلقات متعالية غيبية، لكنه لا يفصلها عن أرض الواقع. فهو يعي أنها تتجسد في الواقع عند تحقق شروطها، ويرى أن الإسراع في التجسيد وأحكامه يتوقف على فهم الموضوعات التي تناط بها تلك العلاقات، وهي كل من النفس والمجتمع والطبيعة والميتافيزيقا، ومنه تنشأ الحاجة إلى العلوم المتعلقة بها، وذلك بغية الإفادة منها في تأسيس علاقات مناسبة وتوظيفها للهدف المشار إليه.
ويبدو أن المثقف الديني لا يربط نظرية الاستخلاف بشكل النظام السياسي بقدر ما يربطها بوجود المجتمع الصالح، بحيث يرى كل صلاح في العلاقة الإنسانية تعبيراً عن تحقيق درجة من درجات الاستخلاف غير المنقطعة. والمطلوب هو توسيع رقعة الاستخلاف والشد على حمل الأمانة أكثر فأكثر.
والملاحظ أن لنظرية الاستخلاف عند المثقف الديني بعدين أحدهما ديني مجمل، والآخر واقعي مفصل. فهو يرى أن هناك سنناً طبيعية مرصودة في الواقع ولها علاقة بالاستخلاف وقد أشار إليها النص إجمالاً. ومن ذلك أن رشيد رضا يرى أن من السنن التي تفيد الغرض هي البقاء للأصلح، فهي سنة الله التي بها يتم الاستخلاف، والأصلح يتمثل بالصالحين ((الذين يصلحون لإقامة الحق والعدل وسائر شرائع الله وسننه في العمران، ويدل عليه المثل المشهور في سورة الرعد/ 17: (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) )). بل انطلاقاً من هذه السنن فإن من أمثال رشيد رضا لا يتحفظ من اعتبار أحقية الغرب وصلاحه علينا طالما أنه يتفوق علينا تبعاً لسنة البقاء للأصلح والاستخلاف. فبحسب رأيه إن الغرب على الحق والصلاح وإنه أفضل من أخلاق ممالك المسلمين وأعمالهم وعدلهم وإصلاحهم واتباعهم لسنن الله في نظام الاجتماع والسياسة، ولولا ذلك ما استطاعوا أن يتسلوا على المسلمين.
هذا هو الأساس المعرفي الذي ينطلق منه المثقف الديني في ربطه لعالم الغيب بالشهادة، أو النص بالواقع، مما يبرر اختلافه الجذري عن المثقف العلماني بجميع أشكاله وصوره. فليس من بين هذه الأشكال من يعد للحساب الغيبي اعتباراته في الحركة الإنسانية. وحتى الشكل الميتافيزيائي فإنه لا ينظر إلى الحركة الإنسانية كحركة ناشئة عن التخطيط الغيبي، بل هي نتاج عملية تاريخية حتمية تحكمها قوانين مادية معللة بذاتها من غير علل خارجية.
* المصدر : القطيعة بين المثقف والفقيه


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ