موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

أهمية الحرب النفسية-وجهة نظر إسلامية-
محمد جواد النوروزي



منذ أن صارت الحرب ظاهرة تدرس، درست الحرب النفسية كونها وسيلةً وأداةً في خدمة المعركة. ويرى الكتاب الغربيون أن الحرب النفسية ظاهرة نتجت عن الحربين العالميتين – خاصة الحرب العالمية الثانية – وقد استخدمتها ألمانيا النازية على نطاق واسع. واعتبر «غوبلز» (Goebbls) وزير أعلام هتلر أحد واضعي أسس هذا النوع من الحرب. فيما يرى بعضٌ آخر، أن تاريخ الحرب النفسية يعود إلى عصر المغول، وخاصة زمن جنكيز.
إن الحرب النفسية ليست مفهوماً جديداً، فدراسة تاريخ الحروب تدلل على أن الحرب النفسية كانت مستخدمة فيها جميعاً، وليست هناك معركة لم تُستخدم فيها الحرب النفسية، إلا ما ندر. أما القضية المهمة التي تستحق الوقوف، فهي أن المفهوم المذكور، وكسائر المفاهيم، تطوّر خلال مسيرة تاريخية طويلة، بالشكل الذي أصبحت التكنولوجيا الحديثة في العصر الحاضر في خدمته. وزادت من تعقيداته. في حين أن وسائل الحرب النفسية في الماضي كانت بسيطة، كسائر أدوات ووسائل الحرب الأخرى.
الحرب النفسية تعني استهداف معنويات العدو. وان الانتصار في الحرب هو – في الحقيقة – غلبة إرادة على أخرى، ولهذا فالإسلام يولي أهمية خاصة لمفهوم هذه الحرب، انطلاقاً من اهتمامه بالواقع الروحي والنفسي للفرد والمجتمع.
وابتداءً فقد عُرِّفت الحرب النفسية بأنها «الاستخدام المبرمج للإعلام وأدواته للنفوذ في خصوصيات العدو الفكرية، بالطرق التي تضمن الأهداف القومية» وإذا تجاوزنا تعاريف الحرب النفسية الأخرى، فان هذا البحث يعد غريباً في المصادر والمؤلفات التي بحثت الجهاد والحرب في الإسلام، رغم وفرة مؤشراته في القرآن وروايات المعصومين. ولذا فهو يحتاج إلى دراسة مستقلة. وخاصة في الوقت الراهن الحساس حيث إنَّ الهجمة الثقافية الغربية تستهدف مجتمعنا. وبالتحديد شبابنا وناشئتنا. فالمسؤولية الإسلامية تستوجب أن نفكر بحلٍّ لذلك، وأن نطرح الإسلام إلى المجتمعات الأخرى والعالم كما هو.
الأرضية النظرية للبحث
ذكرنا فيما سبق؛ ان الحرب النفسية تستهدف معنويات العدو طالما أن المعنويات هي أحد العوامل المهمة للنصر. والإسلام عرّف الإنسان بأنه موجود ذو بعدين أحدهما معنوي والآخر مادي. وان رفع معنويات المقاتل لا تقتصر في الإسلام على ميدان المعركة والقتال، بل هو برنامج مستمر وطويل. يبدأ منذ الولادة وينتهي في لحظة الوفاة. ويتضمن هذا البرنامج عملية تربية وتزكية وتعليم، وبعبارة أخرى نقول أنه «الجهاد الأكبر». فإذا ما نشأ الإنسان على أساس تعاليم الإسلام السامية، فالنتيجة ستكون وجود مقاتلين شجعان، وأشخاص مقاومين، لا يعرفون الضعف والانهزام، حتى لو اجتمع عليهم جميع الأعداء وبكل أسلحتهم الحديثة والمتطورة. وهذا المفهوم لا يوجد إلا في الثقافة الإسلامية الغنية، وهو ما يعجز عن فهمه الأعداء. أما المصادر التي تغذي الإنسان المؤمن بالمعنويات فهي:
1 – القرآن الكريم:
هناك آيات كثيرة في القرآن تسعى إلى رفع معنويات المقاتلين المسلمين في ساحة القتال. ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن أغلب تلك الآيات الشريفة، نـزلت في زمن حروب وغزوات الرسول (ص) في الصدر الأول للإسلام، لكن يمكن القول: إن قسماً من تلك الآيات تحاول الإجابة على التساؤلات التي تثيرها حرب الأعداء النفسية، كما تسعى لاجهاضها. وقسماً آخر منها له جانب تعرّضي وسعى للتأثير على معنويات الطرف المقابل وإجباره على الإذعان والتسليم. ومن جملة الآيات التي تؤكد القسم الأول: ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أَفإن مات أو قُتِلَ انقلبتم على اعقابكم…)) فالآية الشريفة تتوجه بالخطاب إلى المسلمين الذين شاركوا في غزوة أحد، ثاني معارك الرسول (ص)، ففي هذه الحرب تحمَّل المسلمون هزيمة كبيرة. خلافاً للمعركة الأولى (بدر) – تسامح المسلمين في الثبات بالمكان الذي وضعهم فيه رسول الله (ص)، وانشغالهم بجمع الغنائم. ولأن المشركين اشاعوا بين المسلمين أن الرسول (ص) قد قتل، فأثر ذلك سلباً على معنويات المسلمين، لذلك نرى القرآن يخاطبهم بلحن العتاب على أن المسلم يحمل رسالة ثقيلة تعجز عن حملها السماوات والأرض. وأن وفاة الرسول (ص) على سبيل الفرض يجب أن لا تعني الرجوع إلى الجاهلية.
كما أن هناك آيات أخرى تحاول رفع معنويات المسلمين في المواقع التي يشعرون فيها بالضعف والانكسار، مثل: ((إن يمسَسْكم قرحٌ فقد مسّ القومَ قرحٌ مثلُهُ…)) أو ((… إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً)).
ويذكر القرآن عن قول الله تعالى لموسى (ع) في التأثير على العدو: ((فقولا له قولاً ليَّناً لعلّه يتذكُر أو يخشى)) ومع أن الله يعلم أن فرعون لن يتأثر، إلا أنه يعلِّم موسى (ع) ذلك الأسلوب في التعامل. ومن جهة أخرى فالآية تشير إلى ترغيب موسى في الذهاب إلى فرعون وتنفيذ الأمر الإلهي بالكامل وفي الوقت نفسه تذكره بالطرق النفسية في التعامل مع فرعون، أي أنَّ الكلام بلين يمكن أن يؤثر في الطرف المقابل.
إن القرآن الكريم يشتمل على آيات عديدة تحاول رفع معنويات المقاتلين المسلمين. مثل الآيات التي تتكلم عن حياة الشهيد، والترغيب في الجهاد، والصبر عند الزحف، والإيمان بالغيب وتأثيره على معنويات القوات المسلحة و… الخ، ومن جهة أخرى هناك آيات كثيرة تستهدف معنويات العدو، مثل: الوعيد والعذاب… الخ.
2 – السنّة الشرْيفة:
وبدراسة السنّة يمكن ذكر روايات كثيرة تؤيد الموضوع الذي أشرنا إليه. ومن أهم الروايات تلك التي تتحدث عن جواز الخدعة في الحرب: (الحرب خدعة)، والحرب النفسية من أبرز مصاديق «الخدعة».
«الخدعة» في اللغة بمعنى «ما يخدع به» وتعنى «المكر والحيلة». ومن زاوية نظر الفقه الإسلامي، فالخدعة في الحرب جائزة. وقد أدعى العلامة الحلي (رض) في كتابي «التذكرة» و«المنتهى» الاجماع في هذا الأمر والروايات التي استدل بها علماء الإسلام في جواز الخدعة في الحرب، تشير إلى جواز الحرب النفسية.
ومنها ما نقله العلامة الحلي (رض) عن مصادر أهل السنة حول مبارزة الإمام علي (ع) لعمرو بن عبد ود العامري في معركة الأحزاب: «قال: وروى العلامة أن عمرو بن عبد ود حين بارز علياً (ع) قال: ما أحب ذلك يا أبن أخي. فقال (ع): لكني أحب أن أقتلك.
فغضب عمرو فأقبل إليه، فقال (ع) له: ما برزت لأقاتل أثنين فالتفت عمرو فوثب علي (ع) فضربه، فقال عمرو: خدعتني. فقال (ع): «الحرب خدعة».
وهناك رواية أخرى عن الإمام الصادق (ع) أن رسول الله (ص) قال في معركة الخندق: «الحرب خدعة، فتكلموا بما أردتم» وهذه الرواية تُعَدُّ من أهم ما يستند إليه في الروايات بخصوص الحرب النفسية. وفي خبر اسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (ع): إن علياً (ع) كان يقول: «لئن تخطَفْني الطير أحبُّ إليّ من أن أقول على رسول الله (ص) ما لم يقل. سمعت رسول الله (ص) يوم الخندق يقول: الحرب خدعة، ويقول تكلموا بما أردتم».
ورواية أخرى تدلل على الحرب النفسية التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم، هي خطبة أمير المؤمنين (ع) في حرب صفين التي ألقاها لدعم معنويات جيشه وأضعاف معنويات العدو، قال عدي بن حاتم: إن علياً (ع) قال يوم التقى معاوية بصفين، فرفع بها صوته يسمع أصحابه: «والله لاقتلنَّ معاوية وأصحابه، ثم قال في آخر قوله إن شاء الله وخفض بها صوته وكنت منه قريباً، فقلت: يا أمير المؤمنين (ع) أنك حلفت على ما قلت، ثم استثنيت فما اردت بذلك؟ فقال أن الحرب خدعة وأنا عند المؤمنين غير كذوب. فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كي لا يفشلوا ولكن لكي يطمعوا فيهم، فافهم فإنك تنتفع بها بعد اليوم إن شاء الله».
وبالإضافة إلى الخدعة في الحرب – كما أشرنا – فإن لاستراتيجية الدعوة في التعامل مع الشعوب الأخرى أهمية خاصة. وهذا ما نشاهده في سيرة الرسول (ص) وأمير المؤمنين (ع) باعتبارها حكماً فقهياً، وخاصة في المعارك الأولى – في التعامل مع الذين لم يسمعوا نداء الإسلام – حين دعَوْهم إلى شريعة الإسلام السَّمْحة. فاستراتيجية الدعوة، تبيِّن من جهة حقانية النداء الإسلامي، ومن نتائجها دعم معنويات المجاهدين المسلمين الذين سيقبلون على القتال بإيمان وعقيدة راسخة. ومن جهة أخرى تجعل الطرف المقابل يعيش لحظات من الفكر والتأمل لنفض الصدإِ والغبار الذي غطى فطرته الأولى. فكثيراً ما حدثت هذه الانقلابات الشخصية في سوح المعارك، المكان الذي يحتم على الإنسان الشجاعة وبذل النفس، وأن تاريخ الإسلام مليء بهذه المشاهد.
إن الدعوة بذاتها تعامل نفسي، أهم ما ينتج عنه أمران هما: دعم معنويات الجيش الإسلامي وأضعاف معنويات العدو. ومما يذكر حول «الخدعة» و«الدعوة» هو أن وسائل وأدوات الحرب النفسية كانت شائعة وقتئذٍ حيثُ لم تكن الوسائل الإعلامية المتطورة التي نراها اليوم. كما أن لاستراتيجية الدعوة في السياسة الخارجية وأسلوب التعامل بين العالم الإسلامي والاستكبار أهمية خاصة تنطوي تحت مظلتها أبحاث من قبيل: شروط الداعية، وسائل الدعوة وأساليبها و… الخ.
3 – العقل:
إذا كانت الحرب النفسية تنظر إلى إرادة ومعنويات العدو، فمع الأخذ بنظر الاعتبار العناية التي يوليها الإسلام للتعامل السلمي وسيادة السلام والهدوء في المجتمعات الإنسانية، يمكن استنتاج ما يلي:
من أهم وسائل الحرب استخدام الحرب النفسية أداة في انهائها، ووضع حدٍّ لنـزف الدماء. وفي الوقت الحاضر الذي نشاهد فيه هجمة ثقافية واسعة تشنها وسائل الإعلام المعادية على المسلمين نجد العقل يحكم بضرورة مقابلتهم بالمثل واستخدام الوسائل الإعلامية لدحر هجمة العدو هذه، ومهاجمته في قيمه وثقافته، بالإضافة إلى العمل على حفظ ثقافة ومعنويات المسلمين، وحثهم على الحفاظ على شخصيتهم وهويتهم الإسلامية. وهذه من الضرورات التي لا يمكن انكارها.
إطار الحرب النفسية في الإسلام
هناك مكانة خاصة للحرب النفسية في الاستراتيجيات التي يضعها الاستكبار اليوم، ومثالاً على ذلك، نلاحظ أن الحرب النفسية في استراتيجية العدو الصهيوني ترتكز على ثلاثة أسس:
1 – التظاهر بقوة جيش «إسرائيل» الذي لا يقهر!
2 – خلق الشكوك والفرقة بين قادة وشعوب دول الطرف المقابل، وكذلك بين صفوف جيوشهم.
3 – تشكيك المسلمين بقدرتهم على الانتصار الكامل على «إسرائيل».
أما الفرق بين الحرب النفسية في الإسلام وبينها في عالم الكفر، فهو فرق جوهري ناشئ عن الأسس العقائدية لكلا الطرفين. فالفهم الغربي لها يقوم على أساس الفكر «الميكافيللي»، الذي ينظر إلى الهدف فقط، بغض النظر عن نوع الوسيلة المستخدمة للوصول إليه. وخير شاهد على ذلك الحروب التي وقعت في أواخر هذا القرن وأبرز نموذج لها دموية الصرب ومجازرهم في البوسنة والهرسك بحق المسلمين.
ويمكن مشاهدة هذه القضية أيضاً من خلال دراسة مؤلفات سياسيين معروفين، أمثال: «كلوزويتس» و«دوهه»، و«جوميني» و«نابليون» و«لينين» و«ماو».
ورغم أن الحرب النفسية ضد العد مجازة في الإسلام إلا أنَّها تحتاج إلى إطار خاص. وبعبارة أخرى، فهي مقيدة وليست مطلقة، وهي مجازة إلى الحد الذي لا تتجاوز الأسس والقيم والكرامات الإنسانية التي يهتم بحفظها الإسلام كثيراً.
وإذا كان الغرب يرى أنَّ «الغاية تبرر الوسيلة» على أساس تعالي «ميكافيللي» فهذا الأسلوب لا يُقره الإسلام أبداً. فالرسول الأكرم (ص) لم يقطع الأشجار في معركة الطائف لمحاربة العدو نفسياً وإجباره على التسليم وانما تظاهر فقط بأنه سيقدم على ذلك.
ونرى اليوم في الغرب أنّ استخدام وسائل البث عبر الأثير للمناطق الآهلة من أجل تركيع الطرف المقابل يعدّ أمراً بديهياً وعادياً، كما أن هذا الأمر يعدّ أحد أسس استراتيجية الاستكبار في العصر الحاضر.
وفي الحقيقة فإن المسلمين يختلفون مع أعدائهم في نوعية الوسائل المستخدمة للوصول إلى الهدف. كما يختلفون عنهم في الهدف، لأن استخدام الأساليب الرذيلة وغير الشرعية يتنافى مع الأهداف السامية المنظورة.
وفي حين أن بني أمية – وعلى رأسهم معاوية – يمثلون الفكرة المكافيللية في تاريخ الإسلام، فإن رسول الحسين (ع) هذا المجاهد العظيم «مسلم بن عقيل» لا يوافق على قتل «عبيد الله ابن زياد» في بيت «هاني بن عروْة» غِيلةً مع توافر الظروف والفرصة المناسبة، ويقول: «إنّا أهل بيت نكره الغدر».
الروايات التي اشرنا إليها في تأييد الحرب النفسية، تدلل على أنَّ الإسلام كونه ايديولوجية تنظر إلى الديانة والسياسة بعين واحدة، تحتاج إلى قوىً فعّالة وقادرة، متدينة من الداخل وذكية وصاحبة خبرة في السياسة، لكي تحقق له أهدافه الإلهية السامية. ومثل هؤلاء الأشخاص لا يمارسون الخديعة والمكر، حتى لو عاشوا في مجتمع اعتاد أهله على المكر والخديعة والافتخار بها. إن هؤلاء الأشخاص لا يخدعون أحداُ ولا يمكن لأحد أن يخدعهم لما يمتلكون من وعْيٍ. وفي الحقيقة هم ليسوا سذَجاً حتى يكونوا أداة بيد المحترفين السياسيين. كما أنهم ليسوا من السياسيين الذين تتلاعب بهم أهواؤهم النفسية. والذين اتخذوا بعض الآيات مسنداً لحفظ مكانتهم وموقعهم وتسويغ أعمالهم. هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى تربية في مجالات السياسة والثقافة، كما أن عليهم أن يذهبوا إلى أبعد من التقوى التي اختارها بعض الذين تركوا المجتمع والناس، ليهزموا التقوى مع وجودهم في المجتمع وفي المشاركة السياسية. ويجب أن يتَّصفوا بصفات خاصة مثل: معرفة أحوال العصر، أو كما يقول الإمام الصادق (ع): «كتمان السرِّ واستعلام الخبر والفطنة و…» حتى يمكنهم القيام بأعمالهم على أحسن وجه. وخير دليل على ذلك الأمر، قول الإمام علي أمير المؤمنين (ع): «لولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ولكن كل غدَرةٍ فجرَة وكل فجرة كفَرة» فالمسلم يجب أن يكون على مستوىً من الذكاء والفهم السياسي بحيث يمكنه من تشخيص العدو، والكشف عن أنواع المؤامرات المضادة لدينه وأمته.
وفي الحقيقة فإن خصائص المسلم الروحية والنفسية يجب أن تكون أعقد مما هي عليه عند السياسيين من اتباع الفكر الميكافيللي، بالشكل الذي يمكنه معرفة خدعهم ومكرهمُ ولا ليُفاجأ بها أبداً، لأن معرفة حيل الاستكبار وخدعه هي من لوازم شخصية المسلم الفاعل والنشط، فالسبيل إلى مواجهة خدع العدو ومؤامراته الإعلامية والنفسية هي معرفة طرقها وأساليبها، من أجل احتوائها وإبطالها.
والروايات التي نشاهد فيها كلمة «خدعة» تدلل على أنه يمكن للمسلم أن يستخدم هذه الأساليب في مواجهة العدو في حدود ما يسمح به الشرع، وهذه لا يمكن تسميتها خديعة، والحديث «المؤمن كيِّس فطن» يشير إلى هذه الدلالة. و«الحرب خدعة» مصطلح يعني أنه يجب أن يكون الإنسان ذكياً وفطناً في الحرب، كما فعل رسول الله (ص) في حرب بدر حيث استولى على آبار الماء في بدر، أو كما فعل «حذيفة بن اليمان» في معركة الخندق، أو كما فعل إبراهيم (ع) كما يقول القرآن الكريم حيث وضع الفأس على عاتق أكبر الأصنام.. كل ذلك يدلل على المفهوم الذي استخلصناه من الروايات وهو دليل على ما ذهبنا إليه.
والحقيقة هي أن الفارق الأساسي بين الكياسة والذكاء من جهة، والمكر والخديعة والحيلة من جهة أخرى، هو في مطابقة الأولى للشرع المقدس. والشريعة المقدسة نفسها أمرت في بعض الأحيان بأشياء خارجة عن القوانين العامة، لكنها جميعاً تهدف إلى الإصلاح والبناء. والفارق الآخر والمهم، هو أن الخديعة هي لأغراض نفسية لكن الكياسة هي في سبيل الله والآخرة والدين وأن علائمها مشخصة.
ونشير هنا إلى نماذج من استخدامات الحرب النفسية في تاريخ الإسلام. فبعد أن صارت دعوة رسول الله (ص) علنية (بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية)، اتخذت معارضة قريش له اشكالاً مختلفة. فكان من جملتها التطميع والضغط بالقوة والتعذيب والحرب النفسية. ومثالاً: كان الرسول (ص) يستغل أيام الحج وغيرها من الأيام ويتكلم مع الأشخاص في شأن دعوته، فكان أبو لهب يتكلم من ورائه معهم ويقول: «أن هذا أبن أخي، مجنون»!. كما أن تعذيب بلال الحبشي وياسر وسميّة وعمار و… الخ نماذج للحرب النفسية التي شنتها قريش على المسلمين. وبعد هجرة الرسول (ص) إلى المدينة ونـزول آيات الجهاد ضد الكفار والمشركين. بدأت مرحلة جديدة من الدعوة. ويندر أن تخلو معركة بين الطرفين لم تستخدم فيها الحرب النفسية. وكانت وسائل وأدوات الحرب النفسية تتناسب مع إمكانات ذلك العصر، وطبيعي أنَّها كانت تهدف إلى أمور عديدة، وفي النهاية فإن تسليم الطرف المقابل وإركاعه هو الهدف النهائي لجميعها.
وسائل الحرب النفسية
1 – نشر الشائعات:
تعد الشائعة من أهم الوسائل الإعلامية التي تستخدم في الحرب ضد العدو، لذلك نرى القادة يؤكدون على قواتهم وجيوشهم، عدم قبول الأخبار إلا التي تأتي من قنوات خاصة فقط.
ففي المواجهات العسكرية التي شهدها صدر الإسلام، نرى هذه الوسيلة أيضاً تستخدم للقيام بنشاط إعلامي موجّه ضد العدو. ومن جملة أهم ما أشاعه الكفار ضد المسلمين في معركة «أحد» هو خبر مقتل الرسول (ص) الذي أثَّر سلباً على معنويات المسلمين. والإشاعة التي قالت بانعقاد الصلح بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية والتي سرت في صفوف جيش الإمام (ع) من أجل إجبارهم عملياً على قبول الصلح. وفي معركة الخندق كان للمساعي التي قام بها «نعيم بن مسعود» أثر كبير في إخفاق مخطط الأحزاب، كما يمكن ذكر حديث «تكلموا بما شئتم» الذي اشرنا إليه سابقاً في مجال نشر الشائعات.
2 – الاهزوجة واستخدام الشعارات الهجومية:
تعتبر الاهازيج واختيار الأسماء الرمزية، والشعارات الهجومية، من أهم العوامل التي تقوِّي معنويات الجيش وتضعف (في الوقت نفسه) معنويات العدو، والشعار بنظر الإسلام هو المقولة التي نعرف بها أفرادنا في ساحة القتال، وفيها سرّ خفيّ. كما يقول الإمام الصادق (ع) في حديث: شعارنا «يا محمد يا محمد»، وشعارنا يوم بدر «يا نصر الله اقترب»، وشعار المسلمين يوم أحد «يا نصر الله اقترب»، ويوم بني النضير «يا روح القدوس أرحْ»، ويوم بني قينقاع «يا ربنا لا يغلبنَّك»، ويوم الطائف «يا رضوان»، وشعار يوم حنين «يا بني عبد الله يا بني عبد الله»، ويوم الأحزاب «حم لا ينصرون»، ويوم بني قريضة «يا سلام أسلمهم»، ويوم المريسيع، وهو يوم بني المصطلق «إلا إلى الله الأمر»، ويوم الحديبية «إلا لعنة الله على الظالمين»، ويوم خيبر «يا علي آتهم من علِ»، ويوم الفتح «نحن عباد الله حقاً حقاً»، ويوم تبوك «يا أحد يا صمد»، ويوم بني الملوح «يا منصور أمِتْ أمِتْ»، ويوم صفين «يا نصر الله» وشعار الحسين «يا محمد»، وشعارنا «يا محمد».
وقد استخدم أمير المؤمنين (ع) شعاري «يا منصورُ أمِتْ» و«حم لا ينصرون» في معركة الجمل لتقوية معنويات جيشه، وهي من الشعارات التي ابتكرها الرسول (ص) في قتال المشركين. وكانت هذه الشعارات مؤثرة في زلزلة معنويات الخصم، لأنها تذكرهم بالماضي وقتال المسلمين للمشركين. ولذلك كانت عائشة – ومن أجل تقوية معنويات جيشها – تقوم ببعض الأعمال تقليداً لرسول الله (ص).
3 – الشعر المقاتل والحماسي:
يندر أن تكون هناك حرب في تاريخ الإسلام لم يستخدم فيها الشعر أداةً لأضعاف معنويات العدو. فأصحاب الحسين (ع) كانوا يقدِّمون أنفسهم بأبيات من الشعر يؤكدون فيها رساليتهم وهدفهم في القتال، ليثبتوا بذلك حقانيتهم. وفي معركة أحد كان المسلمون يردّون على شعر الكفار بالشعر. مبيِّنين قوة منطقهم وسمَّوه، ففي معركة الجمل كن «حكم بن مناف» ينفخ في أصحاب الإمام علي (ع) روحاً جديداً من خلال الشعر الذي كان يلقيه عليهم ولهذا كان لشعره تأثير كبير ومهم على معنويات الجيش في ميدان المعركة.
4 – التظاهر بالقوة:
من الصفات المذمومة عند الفرد هو الاختيال والتظاهر، لكن هذا الأمر يعد من الصفات الحميدة في ساحة القتال وأمام العدو. كما كان الرسول (ص) يمتدح سلوك «أبو دجانة» في تحقير العدو والاستهانة به في معركة أحد. لأن التظاهر بالقوة يستتبعه – من زاوية علم النفس – حالة ردع عند العدو.
وعلى أساس حكم الآية الشريفة ((واعدوا لهم ما استطعتم من قوة)). يجب أن نحكم استعدادات وقوى المقاتلين في ساحة المعركة من كل جهة. ونقرأ في تاريخ الإسلام إن جيش المسلمين – وعند تجحفله ليلة فتح مكة – اشعل النار فخلقَ حالة من الرعب والفزع الشديد في قلوب الأعداء. وفي معركة أخرى – وبسبب قلة عدد المسلمين – يأمر قائدهم بأن تذهب مجموعة من المسلمين إلى مكان بعيد ثم تأتي وهي تكبِّر، لكي يفهم العدو وصول قوات مساندة إلى المسلمين، وبهذا التدبير تمكن المسلمون من خلق حالة من القلق والرعب في نفوس الأعداء. مما أدى بهم إلى الانسحاب.
5 – الخطابة والحث على الكلام خاصةً في بداية المعركة:
إن أيراد الخطب والتحدث في بداية الحرب هو في الحقيقة نوع من اتمام الحجة على الطرف المقابل. وقد كان لهذا الأمر دور كبير في التأثير على معنويات الطرف المقابل وأفكاره، خاصة في المعارك التي كان المقاتلون فيها من المسلمين المغرر بهم، أو الذين وقفوا بوجه جيش الإسلام الحقيقي. كالمعارك التي خاضها الإمام علي (ع) والإمام الحسن (ع) والإمام الحسين (ع). وقد أدت هذه الخطب في أغلب الأحيان إلى اعتزال جمع كثير من الطرف المقابل القتال، أو الانضمام إلى جيش الإسلام الأصيل، كما حدث ذلك في معارك الجمل وصفين وغيرها.
6 – التمسك بالمقدسات والهجوم على مقدسات الطرف المقابل:
عندما اختلت معادلة الحرب في صفين لصالح الإمام علي (ع) وأيقن معاوية قرب اندحاره الكامل. وجد أن أفضل خدعة هي أن يدعو، ومعه عمرو بن العاص، إلى رفع المصاحف على رؤوس الحراب، مع أنه لا يؤمن بالقرآن حقيقة. وهذه القضية التي هي في الحقيقة نوع من التمسك بمقدسات الطرف المقابل، أدت إلى ظهور الفرقة واختلاف الرأي في صفوف جيش الإمام علي (ع) الأمر الذي أجبر الإمام (ع) على القبول بالتحكيم. كما أن عائشة حاولت الاستفادة من كلمات رسول الله (ص) وأساليبه التي كان يستخدمها في الحرب مع المشركين، لتقوية معنويات جيشها، وحثه على القتال. وبالطبع إذا كان أفراد الجيش واعين فلن تنطلي عليهم هذه الخدع، بل ستزيد من وحدتهم وانسجامهم، كما حدث أن الإمام الحسين (ع)، ومن أجل تقوية معنويات أصحابه وأضعاف معنويات العدو، كان يستشهد بأقوال الرسول الأكرم (ص) ثم يذكِّرهم بنسبه وقرابته من رسول الله (ص)، وأنه أبن فاطمة الزهراء (ع)، وفي الوقت نفسه يهاجم يزيد ومعاوية والتقاليد الجاهلية التي جاءوا بها، وسيرتهم التي تتنافى مع الدين وقيادة المسلمين.
أهداف الحرب النفسية
الهدف النهائي في الحرب النفسية هو تسليم العدو، لكن أساليب الوصول إلى إركاع الخصم وطرقه متنوعة. ومن جملتها بث التفرقة بين صفوفه. كما فعل «نعيم بن مسعود» في معركة الخندق. مما أدى إلى إخفاق مخطط الأحزاب. أما الأهداف الأخرى التي يمكن أن نجد لها مصاديقها في تاريخ الإسلام، فهي باختصار:
1 – الاقناع والتسليم.
2 – بث الفرقة.
3 – خداع العدو.
4 - خلق الشكوك والشبهات في حقانية وإمكان انتصار الطرف المقابل.
5 – تحريك العواطف والأحاسيس.
6 – تقوية معنويات القوات الصديقة.
7 – خلق حالة من الرعب والخوف في قلوب الأعداء.
المصدر :مجلة التوحيد/العدد78/السنة1995م


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ