موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

عن الإرهاب والديمقراطية
فهمي هويدي



مجرد التساؤل عن علاقة الإرهاب بالديمقراطية في الأجواء الراهنة يمثل تطوراً نوعياً مهماً في لغة الخطاب، جدير بالتنويه والحفاوة ـ أولاً لأنه يعني أن هناك مَن يحاول التفكير في المسألة، بديلاً عن التصييح والتبكيت. وثانياً لأنه يوحي بأن بعضنا تخلى عن موقف المحاكمة وصار مهياً للفهم والتفاهم، بحثاً عن إجابة للسؤال: لماذا؟ ـ وثالثاً وأخيراً لأنه يلفت النظر إلى بديهية مهمة للغاية أسقطها الخطاب الغوغائي، وهي أن الإرهاب مرتبط أصلاً بالظروف الاجتماعية، وليس عيباً «خلقياً» في فئة بذاتها من دون كل الناس!
وما كان لنا أن نسارع إلى إثبات الحفاوة بالسؤال، بصرف النظر عن اتجاه إجابته، إلا لأننا صرنا نتشوق لحد كبير إلى موضوعية الحوار، الذي يحترم فيه العقل والحقيقة، ويتنزه عن الهوى والغرض. من هذه الزاوية ـ وبالمناسبة ـ فإن الإنصاف يقتضينا أن نسجل نقطة لصالح السينما في مواجهة الصحافة حيث جاء فيلم «الإرهاب والكباب» مستجيباً لتلك الموضوعية، بدرجة عالية من الأمانة والكفاءة، الأمر الذي عجزت الصحافة أن تثبته حتى هذه اللحظة.
ولئن بدا فيلم «الإرهاب والكبال» تعبيراً عن موضوعية التناول من جانب السينما، فأملنا كبير في أن يكون الحوار حول «الإرهاب والديمقراطية» بداية لانعطافة مماثلة في الخطاب الإعلامي.
الذي أثار المسألة، واستدعى تلك المقدمة، مقال لافت للنظر نشره «الأهرام» يوم الجمعة (23/ 4/ 93) بعنوان «الإرهاب والديمقراطية»، للدكتور أسامة الغزالي حرب، رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، هو لافت للنظر لأنه أثار السؤال، كما بينا توا، ثم لأنه تبنى خطابين في حقيقة الأمر. إذ ابتدأ معتبراً الربط بين الإرهاب وبين ضيق الممارسة الديمقراطية هو «من أخطر وأسوأ صور الخلط والتشويش»، ثم وجدناه قد انتهى إلى أن «الديمقراطية بالفعل هي السلاح الحاسم في مواجهة الإرهاب»! ثم فإنه بعد أن أقنعنا بانعدام الرابطة في مستهل المقال، كفانا عناء الرد والمنازعة في الختام، حين قرر قيام تلك الرابطة، معتبراً أن «الديمقراطية هي الحل»!
إزاء ذلك، فإننا لا نكاد نجد مجالاً للحديث في المنطوق الأخير، لكننا مع ذلك نعتبر أن الحيثيات التي أوردها لا تخلو من تخطيط وتغليط، الأمر الذي يستوجب التصويب والمراجعة.
رب قائل يقول إن الحيثيات تفقد أهميتها ما دمنا قد «كسبنا القضية»، وهو رأي لا يخلو من وجاهة، غير أنني اعتبرت أن الحيثيات تعرضت لموضوعات مهمة جديرة بالتحقيق والتحرير، والتعليق أيضاً. فضلاً عن ذلك، فلربما كانت مواصلة مناقشة القضية بمثابة تعبير عن الحضارة بموضوعيتها، وحافز لآخرين لكي ينتبهوا إلى أن الأمر أعمق وأعقد مما يظنون ويذهبون.
في خطاب النفي ذكر الباحث أنه «ليس هناك تلازم بين وجود الديمقراطية واختفاء الظاهرة الإرهابية». وبعدما استشهد بما هو حاصل في العديد من الديمقراطيات، من الولايات المتحدة إلى الهند واليابان، مروراً بالدول الأوربية، خلص إلى أن: «المناخ الديمقراطي ربما يساعد على إبراز الأعمال الإرهابية أكثر من أي مناخ سياسي آخر. فلم يعرف مثلاً عن الاتحاد السوفيتي ولا عن دول شرق أوربا سابقاً، أنها كانت تعاني من الإرهاب، وهي التي كانت ترزح تحت أنظمة شمولية قاسية».
لا محل للاستشهاد ابتداء بأن الاتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية لم تكن تعاني من الإرهاب. لسبب بسيط للغاية هو أن الإرهاب كان «مؤمما» ضمن التأميمات الأخرى التي شملت مختلف المصالح والمرافق. ومن ثم فإن السلطة ظلت هي الإرهابي الأكبر، وكان الزعيم هو «أمير» الجماعة الإرهابية الحاكمة. وفي هذا الصدد فربما جاز لنا أن نقول بأن أحد الفروق المهمة بين النظم الشيوعية والديمقراطية، إن الإرهاب في الأولى «قطاع عام»، بينما هو في الثانية تمارسه بعض «دكاكين» القطاع الخاص!
أيضاً فإن القول بعدم التلازم بين وجود الديمقراطية واختفاء الإرهاب، يحتاج إلى ضبط وتدقيق، لأن ظاهره يعطي انطباعاً هو من الخطورة بمكان.
فكون الدول الديمقراطية تعاني من ظاهرة الإرهاب، لا ينهض دليلاً كافياً على عدم التلازم بين المسألتين. وإنما هو دليل على أننا بصدد ظاهرة مركبة، تتداخل في إفرازها عوامل عدة، ولا نستطيع التعويل في تفسيرها على سبب واحد. ومن ثم فإن أحداً لم يقل بأن غياب المشاركة الديمقراطية وحده المسئول عن ظهور الإرهاب. وإنما قلنا، وقال غيرنا، بأنه أحد الأسباب التي أسهمت في صناعته. وأن هناك أسباباً أخرى لابد من الانتباه إلى دورها. وهي تتمثل في استحكام الأزمة الاقتصادية وشيوع الإحباط على المستوى الاجتماعي، الأمر الذي يفرز حالة من اليأس والسخط، يعد الإرهاب أحد تعبيراتها.
على صعيد آخر، فالقدر المتيقن أنه إذا لم تفلح الديمقراطية في أن تمثل دواء ناجعاً لمكافحة الإربها، فإنها في أدنى درجاتها تجفف من بعض ينابيعه وتقلص من مساحته واحتمالاته. الأمر الذي نستند إليه في القول بأنه إذا كان حضور الديمقراطية يسمح ببروز النشاط الإرهابي، نتيجة لما توفره أجواؤها من حريات، فإن غياب الديمقراطية يؤدي إلى شيوع الإرهاب وتقنينه. بحيث أنه إذا ما صار استثناء في الحالة الأولى، فإنه يصبح قاعدة في الحالة الثانية. ولا مقارنة بين نصف العمى والعمى كله، كما يقول المثل الشائع.
أشار الكاتب إلى هذا المعنى في خطابه الثاني الذي أثبته في ذات مقاله، حين حدثنا عن إفرازات الديمقراطية التي تسهم في امتصاص عوامل الإرهاب، وفي «تقليص البؤر التي يمكن أن تنمو فيها أعمال العنف»، على حد تعبيره. وقد ركز في عرضه لتلك الإفرازات على أمور ثلاثة هي: المشاركة الفعالة من جانب المجتمع في الحياة العامة ـ الكفاءة في أداء النظام السياسي التي تمكنه من مراجعة السياسات والقيادات أولاً بأول ـ توفير المزيد من أسباب الازدهار والنمو، ومن ثم القضاء على أهم مصادر «تفريخ» العناصر الإرهابية.
غير أننا نضيف عنصرين آخرين لصالح الديمقراطية في مواجهة الإرهاب، غفل عنهما الباحث. وربما اشار إليهما بغموض وتعميم شديدين، طمسا دورهما إلى حد الإغماط والظلم.
ذلك أن من شأن الممارسة الديمقراطية الحقيقية أن تشيع الأمل في إمكانية التغيير السلمي للأوضاع السياسية والاقتصادية، الأمر الذي يشجع المعنيين بالعمل العام على تنشيط مشاركتهم السياسية، إدراكاً منهم بأنهم إذا ما جدوا على ذلك الطريق، فإنهم واصلون إلى هدفهم يوماً ما. في حين أن انعدام الأمل في إحداث التغيير بالوسائل السلمية والديمقراطية، يدفع الناس دفعاً إلى محاولة التغيير بالعنف ويفتح الباب واسعاً لممارسة الإرهاب، باعتباره الخيار الوحيد المتاح.
على صعيد آخر فإن الديمقراطية هي الكابح الوحيد الذي يحول دون الإرهاب الذي قد تمارسه السلطة. حيث يلفت النظر هنا أن كثيرين عندما يتحدثون عن الإرهاب يركزون على الإرهاب الأهلي دون الحكومي. وكأن الأول وحده هو المحظور بينما الثاني هو المباح الذي يمكن غض البصر عنه. في حين أننا نحسب أن إرهاب المؤسسات السياسية هو الأخطر، بطبيعة ما يتوفر لديها من إمكانيات للقهر، فضلاً عن أنه في حالات لا تخطئها عين يظل الإرهاب الحكومي هو الأصل الذي أنتج الإرهابي الأهلي.
ما توفره الديمقراطية من آليات في الممارسة تسمح بالمساءلة فضلاً عن المشاركة، من خلال المجالس النيابية المنتخبة، وما تقتضيه من احترام للقانون والدستور والحريات العامة، ذلك كله يحول دون إرهاب السلطة، وذلك كسب كبير لا يقدر بثمن.
* * *
ـ إن هناك خطراً دستورياً وقانونياً على قيام أحزاب على أسس دينية في مصر.
ـ مع ذلك فإن القوى السياسية الإسلامية، هي أكثر القوى السياسية تمتعاً بمنابر ومنافذ التعبير، بما لا يمكن أن يقاس به على الإطلاق أي تيار سياسي آخر.
ـ إن قوى التطرف والإرهاب رافضة للشرعية من الأساس، ومن ثم فهي لا تشكو من عدم الحوار معها لأنها ترفضه أصلاً!
وهو كلام غلط في معلوماته، وخطر في إيحاءاته ..
فليس صحيحاً أن هناك خطراً دستورياً من أي نوع على قيام أحزاب إسلامية في مصر. إذ ليس في الدستور المصري أي نص حول هذا الموضوع، بل إن روحه تعطي انطباعاً معاكساً تماماً. فإذا نص الدستور على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وإن مبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع. فإن هذا الموقف يحمّل ضمناً بمفهوم الإباحة وليس الحظر. إذ كيف يتصور أن يحظر الدستور مباشرة نشاط ينبني على مادة أساسية فيه؟!
الالتباس في الموضوع مصدره قانون نظام الأحزاب السياسية وليس الدستور. إذ ينص القانون (في المادة 4 ثالثاً) على عدم جواز قيام أحزاب سياسية على أساس طائفي أو فئوي أو جغرافي، ولم يذكر الأساس الديني. لكن المشرع أضاف «أو على أساس التفرقة بين الجنس أو الأصل أو الدين أو العقيدة».
والفارق ظاهر هنا بين قيام الحزب على أساس ديني، وبين التفرقة بين المنضمين إليه أو المتعاملين معه على أساس الدين. إذ الخطر ينطبق على الحالة الثانية دون الأولى. والقول بخلاف ذلك يتعارض مع نص الدستور، ويجعل القانون مطعوناً فيه بعدم الدستورية، انطلاقاً من المادتين السابق الإشارة إليهما.
المسألة الثانية المتعلقة بما تتمتع به القوى السياسية الإسلامية من منابر في التعبير مردودة بدورها. ناهيك عن إننا نتحفظ ابتداء على اختزال الديمقراطية في مجرد حرية التعبير ـ وهو ما انتقده الباحث ذاته ـ الأمر الذي يحصرها في حرية الثرثرة والصياح.
ولا أعرف على أي أساس أمكن الإدعاء بأن القوى السياسية الإسلامية «أكثر القوى تمتعاً بمنافذ التعبير»، إذا كانت هي القوى الوحيدة المحجوبة عن الشرعية (مع الشيوعيين) ـ وإذا كانت المساجد أكثر مؤمم، والباقي في الطريق؟
إن الحالة الوحيدة التي يمكن أن ينهض بها معيار الكثرة، هي اعتبار جمعيات رعاية الأيتام ودفن الموتى ومراكز تحفيظ القرآن، هي قاعدة القوى السياسية الإسلامية!
وإذا ما افترضنا جدلاً أن الادعاء صحيح، رغم بطلانه يقيناً، فمن قال إن وسائل الاتصال والتأثير في مجتمعات زماننا تقاس فاعليتها بمعيار الكثرة؟ ذلك إن ما يبثه التليفزيون ونحده في عقول الناس ليل نهار، لا يقارن في أثره بما يتردد في آلاف المساجد كل يوم جمعة على مدار العام.
إن أهمية إضفاء الشرعية على العمل السياسي الاسلامي لا تكمن فقط في توفير فرصة أو حق المشاركة لتيار له حضوره المعتبر في الساحة، وإنما أيضاً لأن تلك الشرعية تتيح لعناصر ذلك التيار أن تتمثل قيم الديمقراطية وتتربى عليها من خلال الممارسة. فمن المفارقات المثيرة أن يطالب الشباب الاسلامي مثلاً باحترام التعددية والقبول بالآخر، وبغير ذلك من قيم الديمقراطية، بينما يجد نفسه ملفوظاً من التعددية. ويجد الآخر رافضاً له، ومنكراً عليه وجوده!
إن النفي من الخرائط السياسية الشرعية هو بحد ذاته نوع من التطرف السياسي من جانب الطرف الفاعل. أما المنفيون ـ المفعول بهم ـ فإنهم يوضعون بذلك الموقف على أولى مدارج الانحراف الفكري. الذي لا يستغرب أن ينتهي بالعنف والإرهاب. خصوصاً إذا اجتمع اليأس من المشاركة السياسية، مع اليأس والإحباط الاجتماعي والاقتصادي!
من هذه الزاوية يبدو الحديث عن منابر التعبير متهافتاً وفي غير محله. إذ التعبير ليس هدفاً في ذاته، ولكنه أحد أوجه المشاركة. والمشاركة جزء من الممارسة، وما لم تتم تلك الممارسة في النور وفي إطار الشرعية، فإنها تصبح طريقاً محفوفاً بالمخاطر التي لم نعد بحاجة إلى سردها. فأنباؤها صارت مادة ثابتة في صحف كل صباح.
نأتي إلى النقطة الثالثة والأخيرة، التي بدا فيها الباحث وكأنه يقلل من أهمية الشرعية، محتجاً بأن فصائل العنف والإرهاب رافضة لها أصلاً. وهو كلام يوحى بأن المنتمين إلى تلك الفصائل ولدوا أصلاً رافضين للشرعية ومخاصمين للمجتمع. في حين أن الأمر ليس كذلك بكل تأكيد، حيث رفض الشرعية هو موقف لاحق تنتجه «ظروف» عدة، تحتاج إلى دراسة وتحقيق.
من ناحية ثانية فإن هذا المنطق يتجاهل أن العجلة تدور، وأن ثمة أجيالاً جديدة تضاف إلى الساحة كل يوم، وإذا لم تجد مكاناً لها في ظل الشرعية. فالبديل هو العمل السري واللاشرعية، وبقية المسلسل معروفة.
لم يسأل الكاتب نفسه. ولا هو حاول أن يسألنا: لماذا يرفض أولئك الشرعية؟ أيضاً لم يخطر له أن يسأل: ما هو الجهد الذي بذل، أو الذي يتعين بذله لاستيعاب هؤلاء في إطار الشرعية؟ وإذا كان قد جرى ما جرى، فما هو الدرس الذي ينبغي أن نستخلصه حتى ننقذ الأجيال القادمة من الوقوع في براثن العنف الفكري أو المادي، لكي يكون الغد أفضل من اليوم أو الأمس؟
تلك أسئلة تثير قضايا جوهرية، وثيقة الصلة بالديمقراطية وبالإرهاب في الوقت ذاته. ولا يستطيع حديث مستقيم عن أي منها أن يتجاهلها. وإذا عجزت الديمقراطية عن أن تقدم إجابة مقنعة على هذه الأسئلة، فإجابة خطاب الإرهاب حاضرة!.
في الأخير. لا يسع المرء إلا أن يثبت حفاوته بالخلاصة التي أبرزها الكاتب في خطابه الثاني، والتي قرر فيها: إن الديمقراطية سوف تظل هي الإطار الأشمل والأوسع للقضاء الحقيقي على الظاهرة (الإرهاب)، واستئصال جذورها. ولكن الديمقراطية ليست فقط حرية التعبير. وهي أيضاً ليست فقط مجموعة من الإجراءات والقواعد الشكلية ولكنها منظومة متكاملة من القيم والمبادئ العليا الملزمة للدولة وللمجتمع، وللغالبية والأقلية. وبهذا المعنى العام، فإن الديمقراطية بالفعل هي الحل في مواجهة الإرهاب.
--------------------------
* احقاق الحق


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ