موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

الدعوة الإسلامية بين الوجوب والتطوع
د. عبد الغفار عزيز



إذا كان الله قد فرض على أمة محمد صلى الله عليه ضرورة تخصيص جماعة منهم لحمل الدعوة وتولى مسئولياتها، والعمل على حمايتها ونشرها ورد الشبهات عنها، فإن هذا يتطلب جهداً كبيراً وتخطيطاً جيداً وتمويلاً كافياً، لأن دعاة الإسلام هم ورثة النبي في تبليغ الرسالة وتوصيلها للعالمين.
وإذا كان يتحتم على أمة المسلمين ضرورة إعداد الدعاة المؤهلين لنشر الإسلام وتعليم المسلمين أحكام الدين، والنظر في كل ما يجد للمسلمين، ويحتاج إلى اجتهاد لاختيار ما يصلح للناس أمور دينهم ودنياهم، وليقوم بعضهم بواجب دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وشرح مبادئه وأحكامه والغوص في دقائقه وتفاصيله، فإن هذا لا يعني قصر الدعوة على هذه الجماعة الذين يطلق عليهم اسم (العلماء) حراس الدين، وإنما ـ وكما سنرى ـ سنجد أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو أساس الدعوة للإسلام واجب على كل مسلم قادر على شرح ما يعرفه من أمور الدين وبخاصة، الحلال والحرام، على ألا يتخطى حدود معرفته، وألا يتعرض لما لا يعرفه من دقائق وتفصيلات الأحكام.
وسنتعرض إن شاء الله لكل هذه الأمور حتى نعرف بالضبط: على من تجب الدعوة وجوباً عينياً؟ وعلى من تجب وجوباً كفائياً؟ وهل دعوة غير العلماء هي من باب التطوع أو من باب الوجوب؟.
كما سنتعرف إن شاء الله على مسئولية المجتمعات والأفراد تجاه الدعوة، والأمور التي تجب عليهم للقيام بها، والحدود التي يجب أن يتوقفوا عندها.
ونبدأ باسم الله وعونه بتعريف الدعوة حتى يتبين لنا حقيقة هذه الدعوة وأهميتها وضرورتها في كل عصر وحين، والله الموفق والمعين.
أ_ تعريف الدعوة
الدعوة من الدعاء إلى الشىء بمعنى الحث على قصده ـ والدعوة إلى الإسلام تعني المحاولة العملية أو القولية لإمالة الناس إليه.
نستطيع أن نتبين من التعريف اللغوي لكلمة دعوة أنها تفيد لغوياً المحاولات القولية والفعلية من أجل تحقيق هدف أو عمل، ولا شك أن الأقوال لها ثقلها وصعوبتها، لأن فيها المناداة والطلب والإلحاح، وفيها الجهد والعمل.
وقد لوحظ اختلاف العلماء في تعريفهم للدعوة وذلك تبعاً لاختلافهم في تحديد معنى الدعوة من جهة، وتفاوت نظرتهم إليها من جهة أخرى فكلمة الدعوة من الألفاظ المشتركة التي تطلق على الإسلام كدين، وعلى عملية نشره بين الناس، إلا أننا نستطيع أن نعرف المراد منها من سياق الكلام فمثلا إذا قيل هذا من رجال الدعوة إلى الله، كان معنى الدعوة هنا محاولات النشر والتبليغ، وإن قيل اتبعوا دعوة الله كان المراد بها الإسلام، ومن هنا فإن التعريف الاصطلاحي للدعوة التي هي بمعنى النشر والبلاغ يغاير تماماً الدعوة التي يراد بها الدين لأن التعريف الأول يعرفها كعلم من العلوم مثله مثل سائر العلوم الإنسانية له موضوعه وخصائصه وأهدافه.
ولا يزال هناك من يعرف الدعوة الإسلامية بتعريفات جديدة يرى أنها أدق وأشمل، ويرى أنها تجمع بين مراحل الدعوة التبليغية والتكوينية والتنفيذية مستخلصاً المعنى الاصطلاحي للدعوة من معناها اللغوي السابق ـ وهو الحث على الشئ والسوق إليه ـ فيرى الدكتور محمد أبو الفتح البيانونى أن التعريف الأدق للدعوة في نظره: [ هو تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم وتطبيقه في واقع الحياة]، ويرى الدكتور البيانونى ـ أن لفظ الدعوة إذا أطلق ينصرف عرفاً إلى الدعوة إلى الإسلام، لأنه هو المعنى الذي تواردت عليه معظم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومن هنا يعرّف علم الدعوة الذي أصبح علماً على علم معين بأنه: "تبليغ الإسلام للناس..." إلى آخر ما مر آنفاً.
ب_ هل الدعوة هي مجرد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
إذا كان هناك من العلماء من ينظر إلى الدعوة على أنه هي مجرد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهذا من وجهه نظري فهم خاطئ لحقيقة الدعوة، لان الدعوة إلى الإسلام لو كانت موجهة إلى المؤمنين فقط. أو مقصورة على دعوة اتباع هذا الدين وحده لكان ذلك صحيحاً ولأمكن أن نقرر من أول وهلة وجوب الدعوة وجوباً عينياً على كل مسلم.
والذي يجب أن نعرفه جيداً حتى نتمكن من تحديد موقف الناس من وجوب الدعوة عليهم أو عدم وجوبها، أن الدعوة للإسلام نوعان:ـ
1_ النوع الأول:ـ دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلى الإسلام، وأن يشاركوهم فيما هم عليه من الهدى ودين الحق.
2ـ النوع الثاني:ـ دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلى الخير،وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناههم عن المنكر.
ويحتاج هذا التقسيم إلى شئ من التفصيل:ـ
أما النوع الأول وهو دعوة الأمة المحمدية جميع الأمم إلى الإسلام؛ فهذا هو واجب الأمة ككل. ومسئولية حكام المسلمين، والقادرين على القيام بهذا العمل من الدعاة المؤهلين المدربين على العمل في مثل هذه المجالات، الدارسين لأصول وأساليب الدعوة الصحيحة لغير المسلمين، المستعدين للرد على كل ما يثار حول الإسلام من شبهات، الذين يعرفون أولويات العمل الإسلامي في مثل هذه المناطق، ويعرفون فن المناظرة والمحاورة، المسلحين بمعرفة أساليب التيارات المعادية لإسلام المستوعبين لأصول الفلسفات المادية والمذاهب الهدامة وأساليب ووسائل الرد عليها.
والذي جعلنا نفرق بين الدعوة للإسلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ونجعل الأخير مجرد جزء من الأول قوله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
فالآية فصلت بين قوله يدعو إلى الخير ويأمرون بالمعروف بواو العطف التي تقتضى المغايرة فلو كانت الدعوة إلى الإسلام هي بذاتها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ماجئ بواو العطف ولوجدنا الآية الكريمة تقول: (تدعون إلى الخير فتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).
وهذا التقسيم الذي ذكرناه سيفيدنا كثيراً في معرفة نوع الوجوب بالنسبة للدعوة إلى الله، والتي نرى أنها واجبة وجوباً عينياً بالنسبة لدعوة المسلمين بعضهم بعضا بوجه عام وإن اختلفت درجة هذا الوجوب بين الناس حسب قدراتهم وإمكاناتهم، وربما حدثت قضايا بعينها يكون الوجوب العيني فيها لعامة الناس. وقضايا أخرى يكفي فهيا الوجوب الكفائي، بل يتحتم أحياناً في بعض الحالات قصر الوجوب العيني على أفراد بعينهم.
أما النوع الثاني: من أنواع الدعوة: فهو دعوة المسلمين بعضهم بعضاً إلى الخير كما قلنا، وتأمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر، وقد اختلف العلماء في حكم هذا النوع من الدعوة. وهل هي واجبة وجوباً عينياً أم وجوباً كفائياً؟.
العلماء جميعاً اتفقوا على كونها واجبة لأن النص القرآني يفيد هذا الوجوب حيث يأمرهم بذلك فيقول: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
ومن هنا انعقد الإجماع على هذا الوجوب استدلالاً بهذه الآية وآيات أخرى كثيرة. بالإضافة إلى ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة الناس إلى ضرورة هذا التبليغ، ففي القرآن الكريم، بالإضافة إلى هذه الآية التي ذكرناها وردت آيات كثيرة تأمروهم بالدعوة صراحة.
من أدلة السنة التي دلت على وجوب الدعوة إلى الله تعالى وفرضيتها على الناس قول النبي صلى الله عليه وسلم: [ ليبلغ الشاهد منكم الغائب] وقوله صلى الله عليه وسلم: [جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم] وقوله صلى الله عليه وسلم [والذي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم] ـ وهذه الأحاديث تدل على الوجوب لأنها جاءت بصيغة الأمر.
أما اختلاف العلماء في نوع تبليغ الدعوة وهل هو فرض عين أم فرض كافية فإنما جاء من اختلاف تفسيرهم لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) الخ.
الذي يرون أن الدعوة واجبة وجوباً كفائياً. أي أنه إذا قامت بها جماعة سقطت عن الآخرين يفسرون لفظة (من) في الآية على أنها للتبعيض، أي وليكن منكم جماعة، أما الذين يرون أنها واجبة على كل المسلمين وجوباً عينياً فهم يرون أن (من) هنا بيانية وليست تبعيضية وأن المعنى هو (ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير... الخ)، ومن ثم فالدعوة مهمة للأمة بكل أفرادها على سبيل الوجوب.
فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب محتم على الجميع، ويشبهونه بفريضة الحج التي تجب على كل أفراد الأمة لا تسقط عن أحد منهم إلا بعدم الاستطاعة بل يقولون: إنها آكد من فريضة الحج، التي تؤدي بطريقة واحدة وأسلوب واحد لا يختلف فيها مسلم عن آخر.
وقد وصف الله سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقال سبحانه: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) ويتحدث المولى سبحانه عن المؤمنين، وكيف أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله فيقول: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (سورة التوبة: 71).
ولعلنا نلاحظ كيف قدم القرآن صفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر للمؤمنين على إقامة الصلاة، والمتتبع لآيات القرآن الكريم يجد كثيراً من الآيات القرآنية تصف المؤمنين بأنهم: الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر كما في سورة التوبة: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) [سورة التوبة: 112].
والفريق الذي يرى أن تبليغ الدعوة فرض كفاية وهي فرض عين على المستطيع فقط كالحج والزكاة يستدلون على ذلك بقوله سبحانه: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
ويقولون إن الآية تدل على أن التبليغ واجب على طائفة من كل فرقة ابتداء لأن معناها: لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً للقتال، بل على طائفة منهم البقاء للتفقه في الدين وإنذار القوم بما تفقهوا.
ويقولون أيضاً لو وجبت الدعوة على الجميع للزمت الشيخ الفانى والمريض والمرأة، وهم لا يقدرون عليها، ومن القواعد المقررة في الشريعة أنه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) وهذا يدل على أنها واجبة على العلماء وحدهم.
ونقول: إن ما دمنا قد فرقنا بين دعوة المسلمين ودعوة غير المسلمين. فإنه لا محل لهذا الاعتراض، وأن دعوة غير المسلمين إن كان يتحتم فيها ضرورة وجود العلماء المتميزين القادرين على تبليغ الإسلام بجميع دقائقه وتفاصيله، فإن ذلك غير مطلوب بالنسبة لدعوة المسلمين التي تتمثل في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتوجيه الناس بعضهم بعضاً إلى عمل الخير والابتعاد عن الشر، وكل الناس بلا استثناء يمكنهم القيام بهذا الأمر حتى الأطفال الذين يعرفون قليلاً من الدين كما يدخل تحت الحلال والحرام إمكانهم أن يفعلوا ذلك حتى مع أهليهم وذويهم.
أليست هذه دعوة؟
إن الدعوة للإسلام مجرد كلام يقال؟ أو خطبة تلقى في المسجد أو في مكان عام إنها أعم من ذلك وأوسع من ذلك، لكن كثيراً من الناس لا يعرفون؟.
شبه واعترضات
1_ هناك من يرون قصر الدعوة على العلماء وحدهم بحجة أن العلماء يتميزون بالعلم والإخلاص ومحبة الدعوة، وأن أمرهم بأشياء ونهيهم عن أشياء يستلزم سبق العلم بما يدعى الناس إليه وبالوسيلة المناسبة للدعوة، ويقولون إن الجهل في هذا المقام ربما يضر أكثر مما ينفع لأن الجاهل لا يفرق بين المعروف والمنكر.
ونقول لهم: لو كان الإسلام شيئاً واحداً أو محدوداً بقضايا معينة لكان لكم الحق فيما تقولون، فالدعوة للإسلام لا تتعلق بقضايا محددة معينة لا يمكن الابتعاد عنها، أو التعرض لغيرها وإنما الإسلام (هو الحياة بكل دقائقها وتفاصيلها).. وكل المسلمين بلا استثناء لابد لهم أن يعرفوا بعض قضايا الدين. أو على الأقل الحلال والحرام من هذا الدين، الأمر الذي يمكن أن ينفى عنهم كلمة الجهل بالدعوة لأن العلم قد يتعلق بجزئية بسيطة في الدين فمن تعلمها صار عالماً بها، ووجب عليه حينئذ أن يبلغها، كل ما في الأمر أنه لابد لكل إنسان أن يعرف قدره وألا يتخطى حدود معرفته فلا يتعرض لما يعرفه من أمور الدين، أو للقضايا التي تحتاج إلى المتخصصين ممن لهم قدرة على فهم أحكام الإسلام، واستنباط الأدلة ومعرفة مصادرها ولذا فإنه لا محل للقول بأن الجهل في هذا المقام ربما يضر أكثر مما يفيد لأن الجاهل لا يفرق بين المعروف والمنكر كما يقولون.
ومن هنا نكرر مرة أخرى أن من علم أي جزئية ولو بسيطة في الدين يصير بها عالماً ووجب عليه تبليغها، الأمر الذي يجعلنا نقرر بأن الدعوة للمسلمين واجبة على كل مسلم قادر عليها وجوباً عينياً على قدر طاقته واستطاعته، مع ضرورة الالتزام بالأسلوب الإسلامي الصحيح المتمثل في قول المولى سبحانه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
2_ الشبهة الثانية:
هناك من يقولون إن أمر الدعوة شاق وأنه فوق الطاقة، والله يقول: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) فيكون في هذا مندوحة لترك واجب تبليغ الدعوة.
ونحن نرد عليهم بأن هذه علة واهية ولا يصح الاحتجاج بهذا، لأن أي عمل من الأعمال يتطلب جهداً ومشقة ويبذل الإنسان النفس والنفيس في سبيل الحصول على مال أو جاه أو سلطان، فلم لا يبذل جهداً في الدعوة التي هي أفضل عند الله من كل شئ؟.
ثم أي جهد ومشقة ينالان المسلمين الآن وهم يدعون المسلمين ويوجهونهم فقط إلى عمل الطاعات والابتعاد عن المنكرات؟ لقد كان تبليغ الدعوة في عصر النبي وفي عصور غيره من الأنبياء السابقين أشق من كل ما نرى. ومع ذلك تحمله المسلمون وصحابة النبي وأتباع الأنبياء السابقين ولقوا في سبيله العنت والأذى والموت وكان شعارهم جميعاً:
ولست ابالى حين أقتل مسلماً
على أى جنب كان في الله مصرعى
كيف يكون هذا عذرا للمسلمين في الوقت الذي يشاهدون فيه المبشرين بالمسيحية رجالاً ونساء يتركون بلادهم الغنية والمتقدمة إلى أواسط إفريقيا في الأحراش والأدغال من أجل نشر الباطل.
كيف لا يكافح المسلمون وهم أصحاب حق وحملة الرسالة الصحيحة؟.
3_ الشبهة الثالثة:
وبعض المعارضين لوجوب الدعوة يقولون لا تكليف بتبليغ الدعوة، وليست الدعوة واجبة على أحد، إنما هي مجرد عمل تطوعى لا يأثم المسلم بتركه ويستدلون على قولهم هذا بقول الله سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) والحقيقة أنهم فهموا هذه الآية فهماً خاطئاً، فمعنى الآية أنكم إذا فعلتم ما وجب عليكم بالتزام الحق والدعوة إليه فلا يضركم تقصير غيركم بعد ذلك، وذلك مثل قوله تعالى:
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) وقد عرف أن الله أوجب علينا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وعليه فلا يكون المرء مهتديا مع تركه لهذه الفريضة، فإذا قام بها ولم يمتثل المخاطب فلا جناح عليه بعد ذلك لأنه أدى ما عليه وما عليه هو مجرد القول القبول، ولذلك يقول ابن تيمية، إن الآية تدل على وجوب تبليغ الدعوة، لأن الاهتداء يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال، وهذه شبهة قديمة العهد.
وقد شدد الله بالإنكار على كل قوم أغفلوا الفريضة وأهل كل دين أهملوها ـ فقال جل ثناؤه (لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) وواضح هنا أن سبب لعن بنى إسرائيل أنهم كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن منكر مهما اشتد قبحه وعظم ضرره، والنهى عن المنكر حفاظ الدين وسياج الآداب والكمالات، وإذا أهمل تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة، وإذا تعود العامة على رؤية المنكرات بأعينهم والاستماع إليها بآذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم، وتجرأ الكثيرون بعد ذلك على ارتكابها، وقد كان ذلك شأن بني إسرائيل الذين اعتادوا على المنكر وأصروا عليه فلعنهم الله أي حرمهم من لطفه وعنايته، وطردهم من باب رأفته ورحمته، وذكر الله ذلك للمؤمنين ليكون عبرة لهم حتى لا يفعلوا فعلهم، فيكونوا مثلهم ويحل بهم من لعنة الله وغضبه ما حل بهم، وقد روى أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم من حديث ابن مسعود رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أول ما دخل النقص على بنى إسرائيل أن كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده؛ فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لعن الذين كفروا إلى قوله فاسقون] ثم قال صلى الله عليه وسلم: [ كلا والله لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر، ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً ـ أو ليضربن الله على قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم] ومعنى هذا أنه لا يسقط وجوب الدعوة وتكليف الأمة بالقيام بها استناداً على هذا الفهم الخاطئ لمعنى قول المولى سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) وقد ذكرنا قبل ذلك الأدلة الصريحة الواضحة التي تؤكد فرضية القيام بهذا الواجب ومجئ كثير من النصوص القرآنية ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الأمر الموجهة إلى كل أفراد الأمة، وليس هناك من الدواعى الشرعية ما يصرفها عن الوجوب إلى غيرها.
4_ الشبهة الرابعة:
وهناك من يقول: إن الباطل قد انتشر والفساد قد عم وأنه لا حيلة ولا قدرة لهم على إصلاح هذا الفساد، وبخاصة إذا كان ما شاع بين الناس من فساد وانحراف بسبب حماية ولاة الأمر أو الذين يفترض فيهم مقاومة هذا الفساد، أو بسبب منع الحكام للدعاة من أداء واجبهم في إنكار المنكرات أو تقيد عملهم مما يعطل استجابة المدعوين أو يقلل من النتائج المرجوة منها، ولو حاولنا أن نقيس هذا العصر بعصور الأنبياء والمرسلين وعصور أخرى عم فيها الفساد وانتشرت المنكرات لوجدنا أن عصرنا أفضل من عصورهم وإمكانية الدعوة ووسائلها تتوفر عندنا ولم تكن كذلك عندهم، وتوقع استجابة المدعوين الآن أكثر من هذه العصور التي خلت، ومن هذه الأزمان التي أوذى الدعاة فيها أذى كبيراً ومع ذلك كانت النتائج عظيمة باهرة.
فالتهوين من أمر الدعوة في هذا العصر وادعاء أنه لا جدوى منها بعد أن عم الفساد وامتلأت الحياة بالأوزار والآثام هو سبيل الفساد والإفساد، وسبيل هلاك الإنسان والمجتمعات، وهو مخالف للدين الحنيف الذي أمر بالدعوة حتى قيام الساعة، ومخالف لما يثبته للواقع والتاريخ، ولن يخلو العالم من احتياجه إلى الدعوتين دعوة الإسلام والدعوة إلى الإسلام، أي معرفة مبادئ الإسلام ومحتوياته من العقيدة والشريعة والعبادات والمعاملات والنظم الخ، ومعرفة كيفية الدعوة إلى هذه المبادئ والعقائد والنظم والشرائع التي أسسها الإسلام وجاءت على ألسنة الدعاة من الرسل.
كل ما في الأمر أن هناك أموراً لابد للدعاة أن يلاحظوها حتى تنجح دعوتهم وتتحقق أهدافهم فما هي الأمور؟.
عرفنا أن دعوة المسلمين للمسلمين هي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وأن المسلمين جميعاً مطالبون بها كل على قدر طاقته واستطاعته بهذا الأمر وهذا النهى، وأنه ما دام الإنسان قادراً على ذلك فعليه أن ينكر المنكر على الأقل، وخاصة إن ظهر فعله وكان قادراً على منع هذا المنكر حتى لو لم يكن مأذونا بذلك، ولا يسقط احتساب المحتسب أي الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلا عن المجنون والصبي والكافر والعاجز، ولا يسقط عن الفاجر أو المرأة والرقيق، وإذا كان العلماء قد شرطوا التكليف فلا يعنى هذا عدم جواز فعله للصبي المراهق الذي بلغ حد التمييز ـ لأن الشروط السابقة هي شروط الوجوب لا شروط الصحة لكن ما دام هناك إمكان لفعل فللقادر عليه إنكار المنكر، وإن لم يكن مكلفاً بذلك لأنه ينال به ثواباً، وليس لأحد أن يمنعه من الاحتساب على أساس أنه غير مكلف؛ لأن إنكار المنكر قربة. وهو من أهلها كالصلاة والإمامة، وسائر القربات، وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف،ولذلك أجيز عمله للعبد وآحاد الرعية.
ومع أن الاحتساب وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب كما عرفناه وأن إنكار المنكر جائز لكل الناس حتى الصبي المميز إلا أن هذا الاحتساب له شروط لابد من توفرها حتى يسمح للمسلم بهذا الاحتساب، وربما كان عدم معرفة كثير من المسلمين لهذه الشروط هو السبب في ظهور ظاهرة تشدد بعض الشباب في الدين في هذا العصر، حيث إنهم يأخذون بظاهر نص الحديث الذي يدعو المسلمين إلى إزالة المنكر أعنى النص الذي يقول [ من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] وفسروه على أن الاقتصار على اللسان أو القلب لا يجوز لغير القادرين على التغيير باليد؛ لأن هذا هو أضعف الإيمان، وهم يرون أن إيمانهم ليس ضعيفاً باعتبارهم من الشباب المؤمن القادر على التغيير باليد.
ولا شك أن هذا التفكير يتناقض تماماً مع ما اتفق عليه علماء الأمة أنه لا يجوز التغيير باليد إلا لمن يملكه، ويشترط ألا يؤدي إلى مفسدة أو منكر أكبر.
ففي كتاب (مجموع الفتاوى)، وفي الجزء الخاص بالجهاد ـ وهو الكتاب الذي اعتمد عليه المتشددون من المنتمين إلى الجماعات الإسلامية ـ نجد ابن تيمية يقول في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، بعد أن ذكر أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما يندرج تحت هذا الأمر: (إنه لابد فيه من الرفق)، ويستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: [ ما كان الرفق في شئ إلا زانه، ولا كان العنف في شئ إلا شانه] وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف] ولهذا قيل: [ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر] ويوضح ابن تيمية بأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا كان من أعظم الواجبات والمستحبات فإن الواجبات والمتسحبات لابد أن تكون فيها راجحة على المفسدة، ويعلل ذلك بأنه بهذه المصلحة بعث الرسل ونزلت الكتب، "والله لا يحب الفساد" ويقول فحيث كانت مفسدة الأمر والنهى أعظم من مصلحته، لم تكن مما أمر الله به، حتى وإن كان ترك واجب أو فعل محرم ـ ويقول: "إن المؤمن عليه أن يتقى الله في عباده وليس عليه هداهم".
ويرى الإمام ابن تيمية أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يجب أن تتوافر فيه ثلاثة أشياء: (العلم ـ والرفق ـ والصبر) ـ العلم قبل الأمر والنهى، والرفق معه، والصبر بعده. واستدل على ذلك بما ذكره القاضي أبو يعلى في "المعتمد" حيث قال: "لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهاً فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه، رفيقاً فيما يأمر رفيقاً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به حليماً فيما ينهى عنه".
ويقول ابن تيمية أيضاً: يجب أن يفرق بين ما يفعله الإنسان ويأمر به ويبيحه وبين ما يسكت عن نهى غيره عنه وتحريمه عليه، فإذا كان من المحرمات ما لو نهى عنه حصل ما هو أشد تحريما منه، لم ينه عنه ولم يبحه أيضاً، ثم يقول: (ولهذا لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه) ويقول: (ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك للواجبات أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب) ثم يقول: (وإذا كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل للنهى مصلحة راجحة لم ينهوا عنها).
ويقول: (فالمنهى عنه إذا زاد شره بالنهى وكان في النهى مصلحة راجحة كان حسناً ـ وأما إذا زاد شره وعظم وليس في مقابلته خير يفوته لم يشرع إلا أن يكون في مقابلته مصلحة زائدة فإن أدى ذلك إلى شر أعظم منه لم يشرع مثل أن يكون الآمر لا صبر له فيؤذي فيجزع جزعاً شديداً يصير به مذنباً وينتقص به إيمانه ودينه، فهذا لم يحصل به خير لا له ولا لأولئك، بخلاف ما إذا صبر واتقى الله وجاهد، ولم يتعد حدود الله، بل استعمل التقوى والصبر، فإن هذا تكون عاقبته حميدة، وأولئك قد يتوبون فيتوب الله عليهم ببركته، وقد يهلكهم ببغيهم ويكون ذلك مصلحة كما قال تعالى: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).
وإذا كان مجرد إنكار المنكر حتى باللسان يجوز تركه إن أدى ذلك إلى منكر آخر أو أصاب الإنسان بسببه ضررٌ كبير لا يستطيع تحمله، فإن تغيير المنكر بإليد عند عدم القدرة، أو وقوع الضرر المؤكد له أو لغيره يصبح ممنوعاً ولذا يقول الإمام ابن تيمية (فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقى لهم أصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهى لغلبة الشح والهوى والعجب، سقط التغيير باللسان في هذه الحالة وبقى بالقلب).
وإذا كنا قد أثبتنا أن كل الناس يجوز لهم إنكار المنكر بإليد وأن الفقهاء قد شرطوا أن يكون هذا الإنكار لمن يملك ذلك، كالرجل في بيته ـ أو الوزير في وزارته كل من يرعى رعية هو مسئول عنها، ولا يصح أن يفهم أحد أنه إن ثبت أن لآحاد الرعية أي غير المأذونين من الإمام أو الوالي أن يحتسبوا على ما يرونه من منكر ومنع هذا المنكر حال وقوعه أن لهم أن يفعلوا ذلك في كل الأحوال ودون أية شروط، وإن لهم إيقاع العقوبة بالمخالفين فإن ذلك مشروط بشرط عدم وقو ع منكر آخر، أو قيام فتنة أو غير ذلك مما يؤدي إلى منكر أكبر.
وذلك أن جمهور العلماء لا يشترط ضرورة إذن الإمام أو الوالي لكل من ينكر منكراً أياً كان هذا المنكر، وإنما يشترطون ذلك فقط لمن تتوفر فيهم شروط معينة ويمنحونهم سلطة منع المنكر بالقوة باعتبارهم ممثلين لولي الأمر.
ويقول الإمام الغزالي في كتابه "إحياء عليوم الدين" (واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق له ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إن لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين: عدم إفادة الإنكار امتناعاً، والآخر خوف مكروه، ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال).
ثم يفصل الإمام الغزالي هذه الأحوال الأربعة، ويذكر الحالة الأولى هي اجتماع أمرين أولهما: علم الإنسان بأن كلامه في إنكار المنكر لن ينفع ولن يأتي بثمرة، وثانيهما: أنه إن تكلم ضرب، ويقول إنه في هذه الحالة يجب أن يتوقف عن إنكار المنكر؛ لأنه لا تجب عليه الحسبة في مثل هذه الأحوال بل ربما تحرم في بعض المواضع. ويرى الإمام الغزالي أنه يلزمه فقط: ألا يحضر مواضع المنكرات، ويعتزل في بيته حتى لا يشاهدها. ولا يخرج إلا للضرورة، على أن لا ينتظر في بلده لا يهاجر منها إلا إذا كان يستدرج إلى الفساد، أو يساعد الحكام في الظلم والمنكرات، حينذاك تلزمه الهجرة إن قدر عليها.
أما الحالة الثانية: فهي تأكد المسلم من زوال المنكر بقوله وفعله، وعدم اصابته بمكروه، وفي هذه الحالة يجب عليه الإنكار، ويأثم إن سكت.
أما الحالة الثالثة: فهي تأكده من إن إنكاره لن يفيد لكنه لن يصاب بأذى، وفي هذه الحالة يرى الإمام الغزالي أن الحسبة لا تجب عليه لعدم فائدتها، وإنما تستحب فقط \لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين.
وإن كنت أرى أنه في هذه الحالة يجب عليه أن ينكر ما دام لا يخاف المكروه، باعتبار أن الدعوة واجبة على كل قادر عليها، وأنه مطالب بذلك دون انتظار النتيجة التي يؤدي إليها قوله، وعلى أساس أننا قد أثبتنا قبل ذلك وجوب الدعوة على كل قادر عليها على قدر طاقته واستطاعته، وبالشروط التي قررها العلماء.
أما الحالة الرابعة: فهي عكس الحالة الثالثة، وهو أن يعلم أن إنكاره يؤدي إلى إصابته بمكروه، إلا أن المنكر يزال بفعله، ذلك كأن يريق الخمر،أو يرمى زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ويعلم أن من فعل معه ذلك سيرجع إليه ليضربه أو يؤذيه.
والإمام الغزالي يرى أن الاحتساب في مثل هذه الحالة ليس بواجب وليس بحرام، وإنما هو مستحب فقط، ما دام يؤدي إلى منع هذا المنكر.
الإمام الغزالي يرى أن فعل ذلك مستحب لأنه يرى أن منع المنكر أهم بكثير من إصابة المسلم بأذى في نفسه، على أساس أنه غالبا ما يصيب الدعاة الأذى، ولعل ذلك يتضح من قول الله تعالى على لسان لقمان كما يحكى القرآن: (يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك) بالإضافة إلى أن امتناع المسلم عن إنكار المنكر لمجرد الخوف من الأذى قد يؤدي إلى إحجام الناس جميعاً عن إنكار المنكرات. وهو حين يضحي بنفسه لا شك أنه يخدم أمة بأسرها قد يؤدي ترك المنكر فيها إلى انتشاره وإضلال كثير من الناس. وإذا جاز للإنسان أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز له أيضاً أن يضحي بنفسه في الحسبة، ولا يمكن اعتبار ذلك إلقاء بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله عنها في قوله: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، فقد يؤدي إنكار المسلم للمنكر، وجرأته في ذلك إلى كسر قلوب أصحاب هذه المنكرات، والحد من شوكتهم تماماً، كما يقاتل المسلم إلى أن يقتل وهو يعلم أنه بذلك يكسر قلوب بمشاهدتهم جرأته، واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة بالموت، وحبهم الشهادة في سبيل الله.
ويؤكد الغزالي أن استحباب الإنكار إذا قدر فقط على إبطال المنكر، أو ظهر لفعله فائدة، ويعود فيكرر ويقول: (وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه، فلا تجوز له الحسبة بل تحرم).
ويمكن أن يستدل من هذا على أن أولئكم الذين ينكرون المنكرات، فيزيلونها بأيديهم، كحرق الملاهي أن محلات الفيديو أو منع إقامة الحفلات الموسيقية والغنائية أو غير ذلك مما سمعنا أو قرأنا عنه في هذه الأيام ليس لمن يفعله الحق في ذلك، لأنه قد تأكد لهم ولغيرهم أن هذا لا يؤدي إلى منع المنكر أو إزالته، وإنما يؤدي إلى العكس تماماً، حيث يقع الضرر على عائلات وأسر، وجماعات و فرق، يصابون بأذى شديد، وتؤدي أفعالهم هذه إلى حرمانهم حتى من مجرد النصح والتذكير، لأن الدولة ترى أن الاعتداء الذي يقع على هذه الأماكن إنما هو اعتداء على هيبتها وكرامتها، وأنه إن ترك يؤدي إلى زوال هذه الهيبة،وهيمنتها على النظام، ولذلك يكون العقاب شديداً، بل قد يصل الأمر إلى حد تلفيق التهم لكثيرين من الأبرياء، وتضاف تهم أخرى لمن يرتكبون مثل هذه الأعمال، التي تبين أنها لم تؤدي إلا إلى إضعاف قوة المجتمع المسلم، واستغلال السلطة وأعداء النظام الإسلامي لهذه الأعمال لإثبات عدم إمكانية تطبيق النظام الإسلامي الذي لا يتعامل بالعنف والإرهاب.
ولا يعنى السكوت عن المنكر عند التأكد من توقع الأذى الاعتراف بهذا المنكر أو إقراره، وإنما هو مجرد سكوت مؤقت، وهو ما يعرف (بالمداراة). وعليه أن ينكر المنكر بقلبه، وعليه أن يراقب الله في تحديد موقفه، ويستفتى قلبه، ليزن أحد المحظورين بالآخر، هل المصلحة في الإنكار أم في عدم الإنكار؟ ويرجع ما يراه بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع، فإن رجح السكوت بموجب الدين سمى سكوته "مداراة" وإن رجحه بموجب الهوى سمى سكوته مداهنة" وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق. ولذا فحق على كل متدين أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه هل هو الدين أم الهوى؟.
وأعود مرة أخرى لأكرر بأن على المسلم أن يمتنع على الفور عن عمل ما يؤدي إلى الإضرار بأولاده وأقاربه، لأنه إن جاز أن يسامح في حقوق نفسه، وقبول الأذى لشخصه فليس له أن يسامح في حق غيره، لأنه في هذه الحالة يصبح دفع منكر يفضى إلى منكر آخر، ولا يصح أن يؤدي غيره، ولا أن يفعل شيئاً يؤدي إلى الإضرار بهم إلا برضاهم. وإيذاء المسلمين محظور، كما أن السكوت على المنكر محظور، وإن كان بعض العلماء يرى أنه إن لم ينالهم أذى في مال أو نفس وإنما ينالهم مجرد سب أو شتم ففي هذا نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها، ودرجات الكلام المحظور في نكايته في القلب، وقدحه في العرض، أي إن كان السب أو الشتم فيه فحش كبير، وقدح في عرض المسلم أو جرح لكبريائه وكرامته، فعليه أيضاً أن يتوقف حتى لا يؤذي غيره.
نخلص من هذا إلى أنه وإن كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو دعوة المسلمين للمسلمين، واجباً على كل مسلم، فإنه لا مناص من ضرورة الالتزام بالأسلوب الذي حدده المولى سبحانه في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) وبخاصة حين يختلط الصالحون بغيرهم والمسلمون بغيرهم؛ لأن استخدام القوة يؤدي إلى خطر كبير على الدعوة والدعاة معاً للأسباب التالية:
1_ ستتعرض فئات المجتمع جميعها دون تفرقة بينها لألوان البطش والإرهاب، وسيذهب البرئ مع غيره، والصالح مع الطالح، وسيعامل كل أصحاب الاتجاه الإسلامي بنفس المعاملة التي تعامل بها الدولة من يقاومون المنكرات فيه بأسلوب القوة والعنف.
2_ ستغيب الدعوة بالحكمة والموعظة والكلمة، ولن يكون هناك وسيلة للتفاهم سوى القوة.
3_ سيترك الدعاة أماكن التأثير في المجتمع، وسيبعدون أو يبتعدون، ويحاربون بدعوى الخوف منهم ومن أفكارهم التي قد يتصورها كثير من الناس على غير حقيقتها متأثرين بما تذيعه وسائل الإعلام الحكومية عنهم، واتهامهم بما ليس فيهم.
4_ستنفرد الأفكار المعادية بتربية المجتمع وتوجيهه، وتضطر الدولة إلى ترك أصحاب الفكر العلماني، وإن لم يقتنع به، ليساعدها في منع هذا التيار الديني وستخشى بعض الأنظمة على نفسها من هيمنة أفكار ستؤدي بالتالي إلى تغيير النظام، ولن تقبل دولة تعتمد على نظام معين ترك من يحاول إسقاط هذا النظام وإبعادهم عن السلطة والحكم.
5_ سيواجه الإسلام بالدعاية المضادة، وسيقال بأن رجاله لا يفهمون سوى لغة القوة والبطش.
6_ ستخسر الدعوة من رجالها من يصعب تعويضه، وسد العجز الناشئ عن فقده.
7_ سيحول هذا الأمر دون لحاق كثير من الناس بركب الدعوة؛ لأن الناس سيفهمون بسبب طيش وتصرفات بعض أبناء المسلمين أن الدعوة ليس لها هدف عميق صبور طموح يعمل ـ بإذن الله ـ على إيصال المجتمع إلى قبول الإسلام، وسيتصور الناس، بأنه لا توجد خطة واعية ناشطة للوقوف في وجه الفتن التي ستبقى تلاحق أبناءه وجيرانه وأتباعه، وليس مطلوباً أن يعرف الناس أن المسلم لا يريد سوى الموت في سبيل الله، وإنما على المسلم أن يضع اعتباره وحسبانه مقارنة قوته بقوة أعدائه، وإلا فإنه يحول العمل للإسلام إلى ضرب من الانتحار.
الفرق بين الجماعة والمجتمع:
هناك خلط كبير بين طبيعة الجماعة بالمفهوم السائد لها الآن في مجال الدعوة وطبيعة المجتمع، والذين يطالبون الجماعة بما يطالب به المجتمع إنما يفعلون ذلك لأنهم يفرقون بين الجماعة والمجتمع، ويظنون بأن الجماعة مجتمع.
ولا شك أن الجماعة هي مجرد أفراد من الناس التقوا على فكر معين، وولاء معين وخطة معينة، ولهم تنظيم وقيادة. وهؤلاء الأفراد يتناثرون بين فئات المجتمع لا يشكلون أكثرية عددية ولا يملكون القوة الفاعلة في أجهزة المجتمع ومؤسساته.
أما المجتمع فهو قطاع عريض من الناس يحكمهم نظام ويخضعون لسلطان، وهذا القطاع له مؤسساته وأجهزته، وهو يسيطر على هذه المؤسسات والأجهزة، ويضع لها السياسات، ويقوم هذا المجتمع على أرض لا ينازعه فيه أحد، وهذا القطاع العريض يعمل على صياغة الأفراد وفق قيمه وتطلعاته.
ونستطيع أن نتصور أن المسلمين في مكة قبل الهجرة، بحسب وضعهم في المجتمع المكي يمثلون حالة الجماعة. أما في المدينة المنورة بعد الهجرة وبعد أن تأسست الدولة، وسيطرتا هذه الدولة على أفراد المجتمع، ووضعت لهم من المؤسسات والأجهزة والسياسات ما يمكنها من إدارة هذا المجتمع وتوجيهه يمثلون حالة المجتمع. ويمكن لنا تخيل الفرق الكبير بين جماعة المسلمين في مكة والمجتمع الإسلامي في المدينة بعد الهجرة. وإذا فهمنا الفرق جيداً نستطيع أن نتبين الفرق بين مواجهة مجتمع لمجتمع آخر، وبين مواجهة جماعة لمجتمع فالجماعة لا يمكن أبداً ولا تستطيع أن تواجه المجتمع، وذلك لأن المجتمع نسيج كامل، وأجهزة فعالة ناشطة لا تتوقف عن العطاء والتنمية والتكاثر، ففي المجتمع تبقى المؤسسات التعليمية تعمل، وتبقى المؤسسات الاقتصادية تنتج، وتظل الدوائر التربوية تربى، ويحمى النظام عادة قوة منظمة قوية، عندها من الإمكانات البشرية والمادية والمساعدات الدولية ما لا يمكن إن يوجد عند جماعة لا تملك شيئاً من ذلك، حتى وإن ملكت سلاحاً؛ لأن سيكون سلاحاً محدوداً لا يمكن له أن يجابه سلاح أو قوة المجتمع الممثل في الدولة التي تحكم وتملك وتتحكم. بالإضافة إلى أن الجماعة ـ أي جماعة ـ إن كانت وسيلتها هي استعمال العنف والتغيير عن طريق القوة فستكون مرصودة رصداً كاملاً من السلطة الحاكمة التي ستعمل بشتى الطرق والوسائل ليس للعمل على مجرد إضعافها، وإنما للقضاء عليها، واصطياد أفرادها، بسبب المواجهة ورصد القوة الحقيقة لها عن طريق هذه المواجهة.
كما أن الجماعة إذا دخلت محنة القتال، فإن دوائرها التربوية والاقتصادية والعلمية وسائر وسائلها إن كانت عندها هذه الدوائر ستتوقف عن العمل، وفي النهاية فإنها ستضمر وستنزوى، وإلى جانب ذلك فإن المجتمع لا يهتز بخسارته فرداً من أفراده، أما الجماعة فستتأثر كثيراً بفقد من فرد من أفرادها، وبخاصة إذا كان أميراً أو زعيماً.
ولم يثبت أبداً في تاريخ أي دولة من الدول، ولا في أي دين من الأديان أن انتصرت جماعة على مجتمع عن طريق القتال أو العنف، وإنما انتصرت الجماعات الإصلاحية حين استعملت وسائل التربية والتعليم، والتغيير بالنصح والإرشاد، أو المساعدة والإغراء المادي أو غير ذلك من الوسائل السليمة التي تؤدي ـ غالباً بل دائما ـ إلى النتائج المرجوة، وإن كانت على المدى البعيد.
لم يفكر النبي صلى الله عليه وسلم لحظة واحدة في محاربة المشركين في مكة، أو استعمال أي أسلوب عنيف مع أهلها قبل الهجرة إلى المدينة، يوم أن كان يشكل مع أصحابه مجرد جماعة في مجتمع قوي متماسك يملك من المال والسلاح ما لا تملكه جماعة المسلمين. لم يفكر النبي في اغتيال زعماء مكة وقادتها. بل لم يتعرض للأصنام والأوثان التي كان يراها صباح مساء منصوبة حول الكعبة التي كان يتوجه إليها في صلاته، ويطوف حولها والأصنام تحيط بها من كل جانب.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على دعوة النبي، وإسلام عدد لا بأس من أهل مكة، وبيعة عدد آخر من الأنصار في العقبة، فإنه رفض أن يوافق الأنصار حين أستأذنوه في أن يميلوا على أهل منى بأسيافهم، وذلك بعد أن علموا أن البيعة هي على حرب الأحمر والأسود من الناس، وظنوا ذلك يجب فوراً، حتى بينه لهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنعهم منه حتى يأتي أوانه.
لم يأذن النبي في ذلك لأن الهدف من الدعوة، لم يكن مجرد الانتقام من رءوس الشرك، وإلا الأمر النبي أتباعه بقتلهم، ولو كان الهدف من الدعوة أن يصل المؤمنون إلى مرتبة الشهادة بأي حال، لقاموا بذلك في بداية أمرهم عند البيعة وهم في طور الجماعة. وهذا عمل لا ينسجم مع الأهداف والمصالح الكبيرة التي راعاها هذا الدين.
حتى في المدينة المنورة، وبعد أن أصبحت مجتمعاً استعاض الرسول صلى الله عليه وسلم عن حرب التصفية الجسدية بحرب الدعوة والجدل والإحسان للخصوم؛ لأن أهل المدينة لم يدخلوا في الإسلام مرة واحدة بل بقيت طوائف النفاق تعيث فساداً وتتآمر على المسلمين، ومع ذلك سكت النبي صلى الله عليه وسلم على المنافقين مع أنهم أخطر على الإسلام والدولة الإسلامية من المشركين واليهود على حد سواء.
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى عن ضرورة ترك إزالة المنكر إن أدى إلى منكر.
(ومن هذا الباب: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبى، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك، بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه).
ومما لا شك فيه أن الواقع الذي يعيشه المسلمون له تأثير كبير على فكرهم وممارساتهم ولا يصح أن يصل ضغط هذا الواقع إلى درجة يفقد المسلم معها قدرته على تصور الخط المنهجي، فيندفع المتحمسون إلى المواجهة والانتقام ولو على حساب الدعوة، يقول الشهيد سيد قطب (في ظلال القرآن) (إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً، قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة، عندما يجد الجد، وتقع الواقعة. بل إن هذه تكون القاعدة، وذلك لأن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال ـ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ـ فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والإنتصار بأي شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدافع والانتصار، حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا، فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً، على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ويعدون للأمر عدته) انتهى.
وعليه ، فإن الحل الصحيح هو أن يعرف دعاة الحق أن ضغط الواقع ينبغي ألا يسوقهم إلى الحل الخطأ، ومهما طال انتظار الحل الصحيح، فإن هذا هو الصواب، فطول الزمن لا يفقد الحق أحقيته، وقصر الزمن لا يعطى الخطأ صفة الصواب.
وأخيراً، فإن من يريدون إقامة شرع الله، وتطبيق النظام الإسلامي الصحيح يجب أن يركزوا على تكوين القاعدة، وإقامة المجتمع الإسلامي الذي يمكن أن يقف في وجه مجتمع يحارب الإسلام أو يمنع وصله إلى الناس. والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، هي الوسيلة إلى تكوين مجتمع الإسلام وقاعدته.
---------------------------------
* المصدر:مجلة المسلم المعاصر /العددان69-70/1994 م


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ