موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

الجدل والحوار
د.محمد أحمد خلف الله



الإقناع، هو السبيل التي سلكها القرآن الكريم في استقطابه الناس نحو الدين الحق الذي جاء به، وهو العقيدة الإسلامية. واستقطاب الناس نحو الدعوة الإسلامية، يأخذ مظهرين في الحقيقة:
الأول منهما: استقطاب الناس نحو الجديد من الآراء والمعتقدات التي تشتمل عليها الدعوة الإسلامية.
الثاني: استقطاب الناس نحو الرفض للمواريث الثقافية التي تتعارض مع الدعوة الجديدة، والتي أعلن القرآن الكريم انها غير صالحة للحياة لما فيها من باطل، وما فيها من فساد، يعود على الناس بالضرر.
والاقتناع هو الهدف من كل العمليات التي كان يقوم بها القرآن الكريم في عقول الناس وقلوبهم. الاقتناع الذي يؤكد الجديد في العقول وفي القلوب، ويهزم القديم في أنفس الناس. وإنه من هنا اعتمد القرآن الكريم في عملية الإقناع على أسلوبي الجدل والحوار. وليس على القسر والإكراه تجيىء بهما القوة، أو الالجاء تأتي به المعجزات. يقول الله تعالى من سورة البقرة: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم)، (البقرة/ 256) ويقول في سورة يونس: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )، (يونس/99) ويقول في سورة الأنعام: (ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة وكلَّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون)، (الأنعام/111) ويقول من سورة الإسراء: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها، وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً)، (59) ويقول من نفس السورة: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفورا. وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً. أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا. أو تسقط السماء، كما زعمت، علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً. أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه، قل: سبحان ربي، هل كنت إلا بشراً رسولاً. وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشراً رسولاً. قل: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً، قل: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، إنه كان بعباده خبيراً بصيراً)، (89_96)
والجدل والحوار إنما يتوجهان في الحقيقة إلى العقل البشري الأمر الذي ندرك معه إلى أي حد كان القرآن الكريم يعتمد على العقل في تكوين الإيمان. ومن هنا جعل القرآن الكريم الكفر آفة عقلية. والكفرة كالأنعام أو أضل. إنهم شر الدواب. جاء في القرآن الكريم: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) (البقرة/171) ويقول صاحب تفسير المنار، عند تفسيره للآية: "صفتهم في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم كصفة الراعي للبهائم السائمة، ينعق ويصيح بها في سوقها الى المرعى، ودعوتها إلى الماء، وزجرها عن الحمى، فتجيب دعوته وتنزجر بزجره بما ألفت من نعاقه بالتكرار. شبه حالهم بحال الغنم مع الراعي، يدعوها فتقبل، ويزجرها فتنزجر، وهي لا تعقل مما يقول شيئاً، ولا تفهم له معنى. وإنما تسمع أصواتاً تقبل لبعضها وتدبر للآخرين بالتعويد ولا تعقل سبباً للإقبال ولا للإدبار. الكافر كالحيوان، يرضى بألا يكون له فهم ولا علم، بل يقوده غيره ويصرفه كيف يشاء.
والآية صريحة في أن التقليد بلا عقل ولا هداية، هو شأن الكافرين. وليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان بل القصد منه أن يرتقي عقله، وتتزكى نفسه، بالعلم بالله والعرفان في دينه. فيعمل الخير لأنه يفقه الخير النافع المرضي لله. ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته، ودرجة مضرته، في دينه ودنياه... ولذا وصف الله الكافرين بعد تقرير المثل، بأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون".
والفرق بين الحوار والجدل، فيما هو الواضح من استخدامات القرآن الكريم لكل منهما: أن الحوار يكون عندما يضطرب الذهن، ويصبح العقل في حيرة من أمر نفسه وأمر قضية من القضايا أو مسألة من المسائل، ويراد من الحوار أن يخرجه من كل ذلك.
وتكون مرادّة الكلام في الحوار هينة لينة أو غير قاسية وغير عنيفة. أما الجدل فيكون عندما يكون هناك صراع فكري حول قضية من القضايا أو مسألة من المسائل، ويكون الهدف عند كل واحد من المتجادلين هو هزيمة الآخر فكرياً، والانتصار عليه.
والعمل على تحقيق هذا الهدف قد يدفع كل واحد من المتجادلين أو على أقل تقدير الواحد منهما، الى أن يعتمد على أي سلاح يمكنه من النصر والغلبة، حتى ولو كان اعتماداً على ما هو باطل إذ الغاية في هذا الموقف هي التي تبرر الوسيلة. وإنه من هنا سلك القرآن الكريم مسلكاً خاصاً في الجدل، ووضع للنبي (ص) القواعد التي يمارس الجدل على أساس منها، القواعد التي نعتبرها من آداب الجدل القرآني، وأخلاقياته. يقول الله تعالى لمحمد (ص): (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين)، (النحل/ 125) ويقول: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون...)، (العنكبوت/46).
ولم تقف آداب الجدل في القرآن الكريم عند طلب ان يكون الجدل بالتي هي أحسن فقط، وانما تجاوز ذلك إلى أخلاقية اخرى من أخلاقيات الجدل القرآني، وهي أن يكون الحق هو المستهدف من الجدل، وليس الباطل. إنه من هنا نهى القرآن الكريم النبي عليه السلام أن يجادل من ليسوا على الحق وهو نهي يقصد به جميع المسلمين.
يقول الله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوّاناً أثيما)، (النساء/ 107) ويقول: (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة، أم من يكون عليهم وكيلاً)، (النساء/ 109)
ولأن الجدل يجب أن يكون في سبيل الحق، بين الله لنا عقوبة الذين يجادلون في سبيل الباطل. يقول الله تعالى (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأخذتهم، فكيف كان عقاب)، (غافر/5).
وكما وضع القرآن الكريم لنا آداب الجدل وأخلاقياته، حدثنا عن طبيعة الإنسان وكيف أنه يحب الجدل والمراء. يقول الله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا)، (الكهف/54) ويقول: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً، إذا قومك منه يصدون. وقالوا: أألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلاً بل هم قوم خصمون)، (الزخرف/ 57_58). أما طبيعة الجدل والحوار فيمكن أن نمثل لهما بما يلي:
يقول الله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها، وتشتكي الى الله، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير...)(المجادلة/1). فنحن هنا أمام حقيقة وصفت أول الامر بأنها جدل، ووصفت في الآخر بأنها حوار. وذلك هو الأمر الذي لا غرابة فيه. لقد جاءت المرأة تشكو زوجها، وجاءت منفعلة من الظهار الذي أقسم به عليها، وشكروها بالجدل. لكن هذا الموقف قد تغير وهدأت نفسها قليلاً بالحديث مع النبي (ص)، واطمأنت إلى قوله، فتحول الجدل الى حوار.
أما الجدل الخالص فنستيطع أن نضرب فيه المثل التالي:
يقول الله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك، يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين..)(الأنعام/25).
وصور الحوار التي جاء بها القرآن الكريم تختلف عن صور الجدل. من حيث إن الجدل في العادة يكون بين طرفين، بينما الحوار قد يكون بين الإنسان ونفسه، أو بين الانسان وعقله. والحوار حين يكون بين طرفين يكون الطرفان في مستويين مختلفين من حيث المعرفة والعلم، بالموضوع الذي يدور من حوله الحوار. أما الجدل فيكون في الغالب بين طرفين في مستوى واحد، ويعمل كل منهما على أن يهزم القوم الذي يجادل، وينتصر عليه.
ونأخذ الآن في استعراض بعض صور الحوار القرآني، ونبدأ من ذلك بحوار الإنسان مع نفسه. والصورة البارزة في القرآن الكريم عن هذا النوع من الحوار، هي تلك التي تصور حوار ابراهيم عليه السلام مع نفسه، والتي تكشف عنها الآيات التالية:
يقول الله تعالى: (وكذلك نري ابراهيم ملكوتَ السمواتِ والارضِ وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني برىء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين..)(الأنعام/75_78). إن الحوار النفسي هنا إنما يتطلع إلى معرفة الحقيقة الدينية عن الإله الواحد الذي ليس له شريك.
والصورة الثانية من صور الحوار القرآني هي تلك التي لا يكون فيها الطرفان من مستوى ثقافي واحد، وإنما هناك من يحاور ليعرف الحقيقة ممن هو أكثر دراية بها. والصورة البارزة هنا هي تلك التي وردت في سورة الكهف والتي يقول الله تعالى فيها: (فارتدا على آثارهما قصصاً، فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علماً، قال له موسى: هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً. قال: إنك لن تستطيع معي صبراً. وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً. قال: ستجدني إن شاء الله صابراً، ولا أعصي لك أمراً. قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، قال أخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا، قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً. قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسراً. فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله، قال: أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً. قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً. فانطلقا، حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً. قال: هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً. أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً. وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً. فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منها زكاةً وأقرب رحماً. وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنزٌ لهما وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً)(الكهف/ 64_82).
وتشبه هذه الصورة أيضاً صورة الحوار الوارد في قصة الخلق، والذي دار بين المولى سبحانه وتعالى، والملائكة وإبليس.
والصورة التي تختم بها صور الحوار القرآني هنا، هي تلك الصورة التي يكون الاهتمام فيها بالفكرة ذاتها، وليس بأطراف الحوار. يكون الاهتمام بالفكرة لتجليتها وإبراز كل بعد من أبعادها، بصرف النظر عمن يقوم بينهما بالحوار.
وإنه في مثل هذه الصورة لا يلزم أن يكون طرفا الحوار من مستويات ثقافية مختلفة، فقد يكونان من مستوى واحد.
والصورة التي نستعرضها في هذا المقام، هي تلك الصورة التي أراد القرآن الكريم أن يدلل بها على إمكانية البعث، وعودة الحياة إلى الميت مرة أخرى. يقول الله تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قال: أني يحيى هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، قال: بل لبثت مائة عام، فانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، فلما تبين له قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير)(البقرة/ 259).
وتشبه هذه القصة من حيث التركيز على الحوار القصة الواردة في سورة الكهف والتي جرت مجرى المثل، وهي التي تبدأ بقوله تعالى: (واضرب لهم مثلاً، رجلين جعلنا لأحدهما جنتين...)(32).
تلك هي صور الحوار التي أردنا أن نضرب بها المثل من حيث إنها كافية للتعريف بحقيقة الحوار القرآني. نتركها على أمل أنا نجد في الصور الجدلية التي سوف نعرض لها ما يلقي مزيداً من الضوء على مفهوم الحوار والفرق بينه وبين الجدل.
وأبرز صور الجدل في القرآن الكريم هي الصور التي وقع فيها الجدل بين الأنبياء المرسلين وأقوامهم. تلك الصور التي استهدف منها القرآن الكريم إلقاء الضوء الكاشف على ما كان بين محمد (ص) وقومه من جدل. إن الموضوعات تكاد تكون واحدة من حيث إن عقيدة الأنبياء المرسلين واحدة، ومن حيث أن كل واحد منهم إنما يبلغ قومه رسالة الله إليهم. وأنه إنما يفعل ذلك تلبية لاحتياجاتهم الدينية، ولا يأخذ أجراً على ذلك. إنه البشير النذير الذي يحمل رسالة السماء إليهم. وكان الجدل يدور في الغالب حول محورين، وينتهي إلى نتيجة بعينها هي التي تخدم موقف النبي العربي محمد بن عبد الله (ص).
كان المحور الأول الذي يدور من حوله الجدل العقيدة الدينية التي يحملها الرسول. العقيدة التي يعارضونها والتي ينكرون مع معارضتهم لها، نبوة النبي ورسالة الرسول.
وكان المحور الثاني، المبادىء والقيم الأخلاقية والمعايير السلوكية التي كانت الحياة تمارس على أساس منها. وحول هذا المحور نستطيع أن نجد خصوصيات بعض الأقوام، ونعرف الفساد الذي كان فاشياً فيهم. أما من حيث المحور الأول فلم تكن هناك خصوصيات. وإنما هي العقيدة الدينية التي شرعها الله للناس. كل الناس، وفي كل زمان وفي كل مكان.
ونستطيع أن نستعرض هاتين الصورتين للجدل بين الأنبياء المرسلين وأقوامهم. يقول الله تعالى من سورة هود: (وإلى عاد أخاهم هودا، قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، إن انتم إلا مفترون. يا قوم، لا أسألكم عليه أجراً، إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين. قالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، قال: إني أشهد الله، واشهدوا أني برىء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم. فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ. ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من عذاب غليظ. وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ألا إن عادا كفروا ربهم، ألا بعداً لعادٍ قوم هود)(هود/ 50_60).
وواضح من الجدل ان المحور هنا هو الدعوة لله، ولكنهم يأخذون على هود ما يدفعهم إلى رفض هذه الدعوة. يأخذون عليه أنه لم يأتهم ببينة، وأنهم لن يتركوا آلهتهم التي يدعوهم الى تركها، وأنهم لن يؤمنوا به، ولا بما جاء به. وواضح أيضاً أنهم قالوا هذا القول على سبيل التحدي، وأنه واجه هذا التحدي في النهاية بإعلان أنه قد أبلغهم رسالة ربهم، وأن الله قد يستخلف قوماً غيرهم. ثم ينتهي الحوار بالحكم عليهم باللعنة في الدنيا، وفي يوم القيامة.
وهذا المشهد الأخير، هو النذير لقوم محمد (ص). ويقول الله تعالى من نفس السورة: (وإلى مدين أخاهم شعيباً قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، ولا تنقصوا المكيال والميزان، إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ. قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، ورزقني منه رزقاً حسناً، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم، لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح، أو قوم هود، أو قوم صالح، وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. قالوا: يا شعيب، ما نفقه كثيراً مما تقول، وإنا لنراك فينا ضعيفاً، ولولا رهطك لرجمناك، وما أنت علينا بعزيز. قال: يا قوم؛ أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً، إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم، اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب، وارتقبوا إني معكم رقيب، ولما جاء أمرنا، نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا، وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنوا فيها، ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود)(هود/ 84_95).
فهنا أيضا يدور الجدل حول العقيدة الدينية _ولكن تبرز في ثنايا هذا الجدل المفاسد المتعلقة بالمكيال والميزان وما الى ذلك. كما تبرز مجاملتهم له من أجل رهطه، ولي لأنه رسول الله. وكل هذا يذكرنا بموقف المعارضة في مكة من محمد (ص)، وكيف كان يأخذ عليهم التطفيف في المكيال والميزان، وكيف كانوا يحسبون حساب بني هاشم. وهذا كله الى جانب التحدي الواضح. والنهاية هنا هي الإنذار لقوم محمد (ص)، الذين يكذبونه، ولا يؤمنون بما جاء به من عند الله. إن العاقبة قد تكون واحدة.
والمادة اللغوية التي جاءت منها كلمة الجدل هي: ج د ل تقول: جدل الرجل جدلاً _ خاصم. والجدل هو المنازعة في الرأي، ويطلق على شدة الخصومة واللدد فيها. وتقول: جادل مجادلة وجدالاً _ خاصم. (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)(النحل/111). (قالوا: يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا)(هود/32).
والجدل قد يكون بالباطل ليصرف عن الحق، وقد يكون بالحق ليدحض الباطل. والمقام هو الذي يعينّ المراد. (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) (غافر/5). ويقول الراغب في كتابه المفردات في غريب القرآن:
الجدل: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. وأصله من جدلت الحبل +أي أحكمت فتله، ومنه الجديل. وجدلت البناء: أحكمته. والمجدل: القصر المحكم البناء. والأجدل: الصقر المحكم البنية. ومنه الجدال _فكأن كل واحد من المتجادلين يفتل الآخر عن رأيه.
وقيل الأصل في الجدال: الصراع ومحاولة كل واحد إسقاط صاحبه على الجدالة _ وهي الأرض الصلبة.
وأصل المادة اللغوية التي جاءت منها كلمة الحوار: ح و ر تقول حار يحور حورا: رجع (إنه ظن أن لن يحور) _ أي يبعث ويرجع للحياة مرة ثانية. وحاوره محاورة: راجعه في الكلام. وتحاورا تحاورا: تراجعا وتجاوبا. (قال له صاحبه وهو يحاوره)(الكهف/ 37). (والله يسمع تحاوركما)(المجادلة/1) ويقول الراغب في كتابه المفردات:
الحَوْر: التردد _إما بالذات وإما بالكفر. وحار الماء في الغدير: تردد فيه. وحار في أمره: تحير. ومنه المحور الذي تجري عليه البكرة لتردده. والمحاورة والحوار: المرادّة في الكلام.
----------------------
* المصدر:مفاهيم قرانية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ