لم تستطع أية رسالة، سماوية كانت أم أرضية، أن تواجه التحديات أو
تحقق إنجازات حقيقية على صعيد الدعوة ما لم تضمن ولاء أتباعها،
وهنا تأتي القدرة الذاتية للرسالة وصاحب الرسالة /نبي/ زعيم في
تعبئة ولاءات الأمة باتجاه هدف واحد. لذا سجل الإسلام بفعل الخصائص
الذاتية للرسالة وقوة التأثير الهائلة لشخصية الرسول الأكرم (ص)
فارقاً لا يدانى في اختطاف ولاء شعوب لم تمنح ولاءها يوماً ما لأحد
سوى القبيلة وقيمها، حيث كانت القبيلة تمثل سلطة فوقية في التوجيه
والمواجهة، وفي ظلها فقط يتأكد وجود الفرد وتتضح معالم شخصيته، أي
أنه يستمد قوة وجوده من قوة وجودها، ويعطي القبيلة كل شيء من أجل
تعزيز موقعه الاجتماعي الذي يتعزز بقوة موقعها. فلا غرابة في ظل
هذه الأجواء، أن يزحف انقطاع النسب على وجود الإنسان وينقض عليه
مرة واحدة، إلا إذا بادر من لا نسب له أو لا ينتسب إلى قبيلة
محترمة للانتساب إلى قبيلة أخرى بـ «الولاء» ليؤكد بها ذاته وحضوره
في المجتمع.
من هنا كان من الصعب أن تـتوحد الأقوام العربية، الموزعة في
ولاءاتها تحت مرجعية واحدة، وكان من الصعب أيضاً أن يتجرد الإنسان
العربي من ولائه القبلي ليوالي جهة أخرى. وما فعلته الرسالة
الجديدة أنها استطاعت أن توجه ذلك الولاء باتجاه سلطة فوقية (الله
ورسوله)، وفرت للإنسان عزة وكرامة لا تضاهيها القبيلة. وفعلاً كان
الإنسان المسلم يشعر من أعماقه بالعزة والكرامة في ظل قيادة الرسول
(ص)، فكان يندفع في التضحية في سبيل الله وينال الشهادة برضا
وسعادة.
وإنما تحقق الولاء الجديد بفعل الجهود المضنية التي بذلها الرسول
الأكرم (ص) في تفكيك بنية العقل الجاهلي وإعادة تشكيله وفق مقولات
عمّقت إيمان المسلمين الأوائل بالرسالة، فقفوا بصلابة أمام تحديات
القبيلة وتقاليدها، حتى حققوا بفعل الولاء الإسلامي انتصارات
باهرة.
لكن رغم الشوط الكبير الذي قطعه المسلمون على صعيد الولاء الرسالي،
إلا أن مسألة تعدد الولاءات، كما يتضح من أجواء الآيات القرآنية،
ظلت تثير جدلاً داخلياً لدى بعض المسلمين، لصعوبة تخلي الإنسان، لا
سيما في لا وعيه، عن ولاؤاته الأخرى، كولائه للوطن والتراث
والقبيلة وتقاليدها، وأن كان ولاء منفصلاً عن انساقه الجاهلية. لأن
الولاء صفة نفسية، والنفس هي الوعاء الطبيعي الذي يتشكل فيه ولاء
الإنسان، من هنا لا يمكن للإنسان أن ينفصل عنه، لأنه كما يبدو، أمر
فطري، لذا استجاب له الإسلام دون تعال على الظواهر الفطرية
والبشرية، وأعاد تنظيم علاقة الفرد المسلم مع قومه وماضيه على أساس
«الروح العدوانية والدخول في حرب مع المسلمين» وليس فقط على أساس
الولاء للإسلام أو عدمه.
قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم
يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين،
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم
وظاهروا على اخراجكم أن تولوهم…)).
ثمة ما دعا الرسول (ص) إلى اتخاذ تدابير فورية بشأن الولاء
الإسلامي للحيلولة دون صيرورته مجرد حب وعاطفة نفسية أو استجابة
تتحرك في أفق الحب / حب الرسول، ربما تنتهي أو تخفق في تحمّل
مسؤولياتها بموت الحبيب. أو يتحول الحب إلى قيمة مطلقة يكون معها
ميزاناً للأعمال، مجرداً عن العمل الصالح، فجعل ميزان الولاء طاعة
الرسول والاستجابة لأوامره ((قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله)). وهذه الآية صريحة في معارضتها لبعض الروايات التي
تعطي للحب قيمة مطلقة، حتى لا تضر معه الأعمال السيئة.
تأسيساً على ما تقدم يبقى الولاء منحصراً بالله تعالى ((أم اتخذوا
من دونه أولياء فالله هو الولي…))، بمعنى الاستجابة الكاملة لله
ورسوله، عَبر التبني المطلق للرسالة، وتحويلها إلى سلوك اجتماعي
وممارسة يومية تجلي الروح الإنسانية والرحمة الإلهية التي تشكل
القسط الأوفر من الحمولة الأخلاقية للرسالة. وهذا النمط من الوعي
سيوفر لنا، لو توفر، تماسكاً اجتماعياً يوحده ولاء واحد.
لكن يبدو أن شخصية الرسول (ص)، الرؤوفة الرحيمة، وقوة تأثيره
الروحي والسلوكي والأخلاقي في الفرد حالت دون أن تأخذ النفس
البشرية للمسلم أبعادها الحقيقية، فظل البعض يظهر الولاء المطلق
للرسالة لكن في اللاشعور، في أعماق نفسه، كانت تحركه أكثر من
إرادة، وقد تجلى ذلك بعد وفاته (ص)، وبشكل أكثر وضوحاً بعد انقضاء
عصر الخلفاء. إذ ثبت بعض في ولائهم للرسول، والذين آمنوا عبر
الولاء لله تعالى، بينما ارتد بعض عنصرياً، تحركه العصبية القبلية
باتجاه التمييز العنصري وحصر الأولوية في الحكم والتصدي لشؤون
المجتمع بعنصر دون آخر. وبادر قسم ثالث إلى وضع معادلات جديدة في
الولاء، أدخل فيها عناصر لا تشكل امتداداً لله ورسوله. فزحف الولاء
الجديد على الولاء لله وشريعته، يتمظهر عبر مسميات جديدة مثقلة
بروح طائفية وعنصرية وربما ايديولوجية. ثم تحول ولاء الأمة الواحدة
في ظل الصراع السياسي على السلطة إلى ولاءات متعددة ومتخاصمة افرزت
أجواء محمومة عمقت شقة الخلاف بين الفرق والمذاهب المتصارعة.
وهذا الأمر دعا كل فرقة أو حزب إلى الاستنجاد بالماضي أو تقديم
قراءة جديدة للنص الديني بغية التوافر على أسس نظرية تمكنه من
إثبات شرعيته في حلبة النزاعات المذهبية والطائفية، مما أكد ولاء
كل فرقة لعقائدها ورجالها على حساب الولاء للرسالة، بدعوى أن تكل
الفرقة أو المذهب هي الإسلام وغيرها باطل. من هنا ترشحت قيم جديدة
سادت المجتمع، لم يتعرف عليها المسلمون الأوائل، أو أنها قيم
استطاع الإسلام، ولو في حدود حياة الرسول الأكرم (ص)، تفكيكها
وإعادة بنائها بشكل تنسجم مع الإسلام. وبمرور الأيام تكوّنت لدينا
منظومة جديدة من القيم سادت العلاقات العامة في المجتمع، حتى
استوجب بعضها استحاقات أخلاقية واجتماعية، وربما كلفت الأمة ثمناً
باهضاً.
وقد بذل المصلحون قصارى جهودهم من أجل إعادة ترتيب أولويات تلك
القيم إلا أنها لم تنج إلا لمماً. فما أن جاء الإمام علي (ع) إلى
الحكم اعتمد قيم الإسلام في العطاء والعلاقات، وجعل الأولوية
للتقوى والإيمان، غير أن هذه السياسة تسببت في حروب ثلاثة كلفت
المسلمين غالباً وما زالت آثارها واضحة في وسط الأمة. كما اضطر
الإمام الحسين (ع) إلى تحدي جيش السلطة الأموية رغم عدم التكافؤ
بين الجيشين من أجل العودة إلى قيم الإسلام. وبقيت جهود المصلحين
تترى على هذا الصعيد إلا أن بعض القيم استعصت عليهم لتجذرها في
نفوس الناس، بل عاد بعضها خطوطاً حمراء لا يمكن الاقتراب منها،
فضلاً عن الاصطدام بها، أو التقليل من قيمتها، وقد يصل الأمر إلى
التكفير وإباحة الدماء بمجرد التشكيك بجذرها الديني، من هنا اصبحت
وظيفة الجميع الالتزام بتلك القيم واحترامها من أجل الحفاظ على
كرامة الإنسان، وان كان لا يؤمن بها أو أنه لا يشك في عدم انتمائها
إلى الإسلام.
فالولاء القبلي والأسري الذي عانت منه الرسالة في زمان الرسول (ص)،
وتسبب في سلسلة معارك وحروب وغزوات ربت على الثمانين، وحال دون
الإسراع في دخول الأقوام العربية إلى الإسلام، وأعاق مسيرة الدعوة
وانتشارها، هذا الولاء اليوم هو الحاكم لدى شرائح مختلفة من
المجتمع. بل لا يجد الإنسان صعوبة في ذكر مصاديقه على جميع
المستويات.
فالحكم يقوم في بعض الأنظمة، في دائرة الدول الإسلامية، على الولاء
الأسري والقبلي، وتوزيع الوظائف يرتكز إلى الولاء وليس الكفاءة،
فكم من شخص غير كفوء يتصدى لوظيفته مهمة في البلد على أساس ولائه
وانتمائه. وليست بعض المؤسسات الدينية أفضل حالاً، بل نجد الولاء
الأسري والقبلي والحزبي يلعب دوراً كبيراً في التصدي للمسؤوليات
الدينية، أو في تقديم شخص على آخر في الامتيازات، وربما حُرم
الكثيرون من العطاء ومن بيت المال لعدم وجود صلة قرابة أو معرفة
بهم.
ونجد الولاء القبلي على مستوى العلاقات الاجتماعية يتحكم في توجيه
العلاقات ويفرض على أفراد القبيلة سلوكاً خاصاً، ليس بالضرورة أن
يكون من باب التعاون مع البر والتقوى، بل ربما يكون تكاتفاً
وتناصراً على الإثم والعدوان.
والصراع الذي نشاهده على صعيد الأحزاب والمنظمات، هو الآخر محكوم
لقيم الولاء، إلى درجة نلاحظ أن مساحات الالتقاء رغم سعتها لا توحد
مواقف الطرفين، لأن نقاط الاختلاف مهما كانت ضئيلة إلا أنها تصبح
منفرة حينما لا يقوم الولاء على أسس دينية وأخلاقية تحفظ لكل طرف
حقه في الاختلاف.
وعلى صعيد القيم الاجتماعية، نلاحظ أن القيم القرآنية باتت مهملة
من قبل الأوساط الدينية نفسها، فلا يحظى المجاهد، الذي فضله الله
تعالى بالاحترام اللائق في مقابل غيره، فمن يجيد صناعة الكلام وفن
التدريس، في الحوزات العلمية – مثلاً – أو يجيد تدريس كتاب ما يقدم
على المجاهد الذي قضى سنيناً طويلة في سجون الظلمة وقارع الطغاة
ولم يدخر شيئاً لنصرة الحق. كما لا يحظى المثقف الواعي الرسالي
بالاحترام ذاته الذي يلقاه من يتزيّ بزي العلماء وان كان ليس منهم،
بل يهمل الأول ويحترم الثاني في كل مكان من المجتمع.
وهذا الكلام لا يعني عدم وجود قيم صحيحة في المجتمع، ولا يعني أن
القيم السائدة جميعها قيم لا إسلامية، وإنما هناك طيف من القيم لم
يتوافر على خلفية دينية، وإنما هي قيم تولدت بمرور الزمان عن
الولاءات المضادة اللاإسلامية، أو هي عودة إلى الجذور الضاربة في
عمق النفس البشرية، ولم يستطع الإنسان التجرد منها أو تجاوزها، رغم
تبنيه لبعض اجزاء منظومة القيم الإسلامية. لذا فان هذا النمط من
القيم يبقى على نسبيته ولا يمكن أن يكون مطلقاً بأي شكل من
الأشكال، ولا يجوز الاحتكام إليه إذا أفضى إلى تشويه أو مصادرة
القيم الإسلامية الأخرى. إذ أن الآيات المباركة رغم تأكيدها موالاة
الذين آمنوا، لأهميتها القصوى، إلا أنها جعلت لهذا الولاء أمداً لا
يمكن تجاوزه، قال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله
واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردوه إلى
الله ورسوله أن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
تأويلاً)).
أي أن الأصالة في الولاء لله والرسول، ويبقى تولي المؤمنين في
طولهما وعلى امتدادهما وينتهي حيث يبدأ النزاع والاختلاف بالشأن
المعارك والاختلافات في الدائرة الإسلامية، وذلك من خلال ثوابت
الدين ومعالمه الرئيسة.
ثمة حقيقة أن القرآن الكريم كان حساساً جداً في مسألة ولاء الإنسان
حتى استغرقت آيات الولاء ومشتقاته اللغوية مساحة متميزة في الكتاب
العزيز. ففي رده على سؤال يبدو حائراً على شفاه من لم يتول الإسلام
بعد، أو أنه يعيش في داخله صراع ولاءات متعددة: ((إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا…)) أو ((وما لكم من دون الله من ولي…))، ثم
يستغرق في تفصيل معالم الولاء الإسلامي ((ما لكم من دون الله من
ولي ولا نصير…))، ويصف الحالة النفسية في ظل الولاء الحقيقي: ((…
والذين آمنوا أشد حباً لله)) ((لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم
الآخر يوادون من حاد الله ورسوله…)).
إن خطورة الولاء وحساسيته الفائقة تفرض على المثقف الرسالي موقفاً
واعياً يتصدى لتفكيك اشكالية الولاء وإعادة تركيبها، كي يحتفظ
الولاء بتأثيرته الإيجابية، ويجنب المجتمع تداعيات الولاء المضاد.
وفي هذا المضمار تبدو الحلول آنية وغير مؤثرة ما لم يعتمد منهج
علمي يبادر إلى حل الأزمة جذرياً.
والمنهج الصحيح هو مراجعة الجذور الكلامية للولاءات المضادة والأسس
والنظرية التي ارتكزت إليها منظومة القيم المترشحة عن الولاءات
الجديدة، وما لم تفكك تلك المقولات وتُفحص بشكل جيد سوف تبقى البنى
الفكرية فاعلة في دعم القيم معرفياً. إذ لا شك أن تلك البنى
كوّنتها مقولات، بعضها لا ينتمي للرؤية الإسلامية الصائبة، وبعضها
الآخر قد استوحى من ثقافات ومعارف تنتمي إلى حضارات أخرى، فتداخلت
تلك المقولات وكوّنت البنية المعرفية. وهذه المهمة ليست سهلة وإنما
هي شاقة ومكلفة لا سيما بعد أن اكتسبت بعض المقولات درجة كبيرة من
القداسة وأصبحت لدى البعض نهائية وجزمية.
إن متطلبات الحالة الراهنة تفرض على المثقف، عالماً كان أو مفكراً،
تحمّل مسؤولياته التاريخية والتصدي بثقة وحزم لكل ممارسة خاطئة
تحسب على الدين ظلماً وعدواناً فيتحمل وزر سلوك لا يمت له بصلة.
وإنما تنحصر المهمة بالمثقف باعتباره صاحب مشروع تغييري، فهو يراقب
ويتابع وينقد من أجل حلول جذرية، لا تعيقه التحديات، وإنما يتصدى
لها بحكمة وروية، ويحاول التعرف على جذر الأزمة بدلاً من الانشغال
بظواهرها الفوقية، لأنها تتلون وتتخذ اشكالاً مختلفة تبعاً للظروف
والتحديات التي تواجهها، ولا تنقطع ما دام هناك جذر نابض بالحياة.
من هنا نعي جيداً أن الأزمات المستعصية سببها تجذّرها بفعل
التراكمات التاريخية، وليس بالضرورة أنها تتوافر على أسس نظرية
مستحكمة.
فمسألة الولاء بمنظومتها القيمية تبقى تؤثر بشكل وآخر، ولا يمكن
القضاء على ولاء الإنسان، ما دام الولاء نزعة بشرية. وإنما نستطيع
تغيير اتجاه ولاء الإنسان وجهة يرتضيها الله ورسوله. وهنا ينبغي
دراسة الظروف التي ساعدت على تكوّن ولاءات ابتعدت عن الولاء
الإسلامي، ومن ثم نقد أسسه النظرية وتقويض بنيته الفكرية كي يعود
الولاء بمنظومة قيم توحد مواقف المجتمع الإسلامي وتفتح الطريق أمام
الدين، بينما يتفاعل مع الإنسان المسلم بشكل طبيعي وينتج سلوكاً
رسالياً يستبعد المصالحة الشخصية المقرنة والأنانية الفائقة. ويعيد
الأمور إلى نصابها. فان إحدى أزمات المجتمع الإسلامي اليوم هي
تراجع القيم الدينية وسيادة قيم أخرى اختزلت الأبعاد الإنسانية
وكرست التمييز العنصري والطائفي والطبقي، بل ربما جاء الفهم الفقهي
القاصر ليعزز تلك الظواهر ويمنحها الشرعية اللازمة. وحينئذ لا يجد
المعترض ما يبرر اعتراضه أو رفضه لتلك القيم رغم قناعته بانحرافها
وانقطاعها عن الإسلام.
إذاً يتضح من خلال الإطلالة المكثفة على مسألة الولاء أننا أمام
أزمة حقيقية يفرض حلها علينا مراجعة جذورها الكلامية لتوافر على حل
أساس لها. وقد تتطلب المراجعة الكلامية إعادة النظر في نسق كبير من
المقولات، وربما أحدث ذلك خللاً في البنى الفكرية يتبعها اضطراب
سلوكي، إلا أن هذا الأمر رغم مخاطره في طريق الصواب، هو حاجة ملحة،
يقتضيها الاصلاح الديني والسلوكي الذي ينشده جميع المصلحين في
العالم الإسلامي. وهنا بالذات ينبغي أن يتوافر المثقف الرسالي على
قدر كبير من الشجاعة والصمود، فالإصلاح وفق هذا المنهج سيصادر
مواقع اجتماعية ومصالح شخصية ترتكز إلى تلك القيم المزورة، وانهاؤه
يعني القضاء التام على الاقطاع الديني، والتكسب اللامشروع باسم
الإسلام.
وبانهيار منظومة القيم الطارئة ستعود قيم الإسلام لتحكم العلاقات
الاجتماعية وتوفر للفرد، ولكل إنسان، فرص الحياة الكريمة الخالية
من التمييز العنصري والطائفي، وحينها سيتمتع الإنسان بكامل حقوقه
المشروعة. ومن ثم تختفي مظاهر الترف اللامشروع باسم الدين، وتزول
سلطات وقيم مجعولة كلفت المجتمع الإسلامي الكثير من عزته وكرامته،
كانت وما تزال حجر عثرة أمام التقدم والتنمية، سواء التنمية
الاقتصادية أو السياسية، لأن التنمية تتطلب شروطاً خاصة لا توفرها
منظومة القيم المترشحة عن الولاء المضاد. وتحقق التنمية بشكل كامل
يفرض على المجتمع التوافر على نمط جديد من القيم، يضمنه الإسلام
الأصيل، بعد أبعاده عن النفعيين والمتطفلين، وليست التنمية هي
الوحيدة مما يتوقف نجاحها على منظومة قيم جديدة، وإنما التقدم
العلمي والتكنولوجي وسيادة الصدق والإخلاص والاندفاع إلى العمل
والحرص على الصالح العام كلها تنتظر قيماً إسلامية تحكم علاقات
المجتمع وتعد تنظيمه وفق مبادئ العدل والمصلحة العامة.
أما مع بقاء القيم الحالية، فان دافع الإخلاص والجدية في العمل
ستنطفئ في نفس الإنسان المؤمن فضلاً عن الآخرين، لأنه سيلاحظ
ممارسات باسم الدين والإنسانية والوطنية والديمقراطية إلا أنها
تستبطن كذباً وافتراءً وتحايلاً واستغلالاً للإنسان وتزييفاً
للقيم. وهذا الإنسان سيصبح شخصاً متمرداً يتحين الفرص للأعراب عن
قناعاته، بل يتحول إلى قنبلة موقوتة داخل المجتمع تنفجر يوماً ما
للقضاء على قيم مزيفة تستعبد الإنسان وتذله بمختلف الأساليب
والطرق.
المصدر : مجلة التوحيد/العدد107/السنة 2001م