يكاد كل مثقف عربي يكون مسكوناً بهاجس رسالي! إنه صاحب رسالة: هكذا
يعرف نفسه ليضفي الشرعية عليها. لا قيمة للأفكار ـ في ما يرى ـ إلا
إذا أمكن تجنيدها في مشروع اجتماعي أو سياسي، فهو الذي يمنحها
دلالتها، وهو الذي يضفي عليها الأهمية. دون ذلك، يظل الفكر ترفاً
معرفياً ترفل النخب وحدها في حلله. وبسبب هذا الهوس الرسولي الذي
يستبد بقطاعات عريضة من المثقفين العرب، وبسبب تضخم النزعة
الخلاصية لديهم، تزدهر في أوساطهم ثقافة دعوية تبشيرية، ثقافة
مصممة تصميماً لأداء دور معلوم: التحشيد والتجييش وصناعة الجمهور:
جمهور الدعوة.
من الثابت أن هذا الضرب من الثقافة: الثقافة الدعوية التبشيرية، لا
ينتمي إلى ميدان المعرفة على نحو ما تعرفه نظرية المعرفة الحديثة،
وعلى نحو ما هو معروف في حقل العلوم الانسانية. الثقافة الدعوية لا
تقدم إدراكاً ما للالم، تصوراً ما عنه، إنها تنتج مواقف منه، بل هي
تنتجها في لغة استنهاضية حركية هي التجييش الايديولوجي. لذلك يتغذى
(عرفان) جمهور الدعوة ـ أية دعوة ـ من شعارات ومبادئ عامة
(مستوعبة) على مقتضى عام، ومفصولة عن أي بناء منهجي في وعي
متلقيها. لا يخاطب الداعية عقل جمهوره، بل يخاطب (وجدانه). وهو لا
يفعل ذلك لعي ما في أدوات الخطاب لديه، بل لأن وظيفة التبشير
والدعوة هي التأثير في (الوجدان) وليس استنهاض حاسة التأمل والنقد
لدى المخطاب.
أنجبت تيارات الفكر العربي الحديث والمعاصر جميعها هذا النوع من
الداعية. لا فارق بينها سوى في الدرجة: درجة التعبير عن النزعة
التبشيرية، وهي الدرجة التي يقررها مستوى الصلة بين التيار الفكري
وبين الشأن السياسي والاجتماعي. لذلك تضخم حضور الداعية في الثقافة
السلفية الإصلاحية، وفي الثقافة القومية ثم الماركسية، بينما ضمر
وزنه في الثقافة الليبرالية بسبب هشاشة علاقتها بحقل الصراعات
السياسية.
ولقد ارتضى جيش عرمرم من المثقفين العرب أن يتحولوا إلى فرسان
منافحين عن المؤسسة: الحزبية أو السلطوية، يخدمونها بما أوتوا من
همة و (كتاب). وقد سموا أنفسهم ـ لذلك ـ مثقفين (عضويين) أو
ملتزمين. والحق أنهم كانوا دعاة للسياسة أكثر مما كانوا مثقفين.
أما من لم يربط نفسه منهم بوثاق حزبي أو سلطوي، ومع ذلك مارس
الدعوة والتبشير، فقد كان ممن يجوز احتسابه في خانة الشعبويين.
لم تضخمل طاقة الداعية، لا بل هي شحنت أكثر من ذي قبل مع صعود تيار
(الاسلام الصحوي)، لكن اعتقاده في قدرته على صنع الأعاجيب اضمحلت
على أرض الواقع: فماذا في وسع جمهور مزود بشعارات أن يفعل، وماذا
في وسع مثقف يخطئ دوره المعرفي ويتقمص دوراً خلاصياً نبوياً في عصر
لم يعد فيه أنبياء أن يفعل؟ نعم، سيستمر الداعية، وسيكون له في كل
عصر جمهوره الذي يصغي إليه أو يمحضه الولاء. ولكن، ماذا بعد. ماذا
يستطيع أن يفعله خطاب يجافي منطق المعرفة لينتصر للمصلحة
الايديولوجية في زمن تتحول فيه المعرفة إلى سلاح استراتيجي لا غنى
عنه في معركة التقدم، بل والبقاء؟!
------------------
المصدر: نهاية الداعية