موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

العربي والمسلم في عين الرحالة الأوروبي
سعيد بنسعيد العلوي



منذ العصور الوسطى وإلى الأزمنة المعاصرة، مروراً بالأزمنة الحديثة، قام رحالون غربيون كثيرون بأسفار عديدة إلى البلاد العربية الاسلامية، ودونوا رحلاتهم في كتب وأسفار أصبح البعض منها متداولاً ومقروءاً جداً. كانت هناك أسباب كثيرة ومختلفة تحمل على تلك الرحلات: فتارة كان ذلك لطلب (الغريب والعجيب) والبحث عن (سحر الشرق) وعبقه الأسطوري (وربما كان من أشهر هذه الرحلات في الأزمنة الحديثة رحلة غوستاف فلوبير إلى مصر والشام، وكذا رحلة جيراردو نيرفال). وتارة أخرى كان الباعث على الرحلة هو التقصي الأركيولوجي (كما هو الشأن عند علماء الآثار الفرعونية أو البابلية مثلاً). وطوراً ثالثاً، لعله الغالب على رحلات الشطر الأخير من القرن التاسع عشر ورحلات مطلع القرن العشرين، كان الحافز هو التقصي الجغرافي والاستكشاف الميداني، الممهد الضروري لعمل السيطرة الاستعمارية. وعلى كل، وأياً كانت الأسباب الداعية إلى الرحلة، عند الرحالة الأوروبي إلى العالم العربي الاسلامي، وأياً كانت مواقفه الشخصية، فإن صورة ما عن الاسلام، قبلية ومهيمنة، كانت تقر في وعي ذلك الرحالة تحكم ما يدونه من انطباعات وما يسجله من ملاحظات ومشاهدات. وبالتالي فغن (رؤيته) كانت تقدر، من حيث لا يدري، سلفاً. فهو لا يكاد (يرى) في تلك البلاد إلى ما يحمله معه من معرفة سابقة عنها، وهذا ما يسهل التدليل عليه.
ربما كانت العلامة الأولى الدالة على وجود الصورة (القبلية) عن الاسلام وبلاده، في ذهن الرحالة الأوروبي، هو ما نجده عند ذلك الرحالة من الهم بل من القلق في شأن الهيأة التي يلزمه أن يكون عليها. فهو يتساءل: ما الأنسب والآمن بالنسبة للرحالة المستكشف: هل هو إظهار الهوية الحقيقية والإعلان عنها أم التنكر لها وإخفاؤها؟ أهو إدعاء التجارة واتخاذ هيأة التاجر وإخفاء أدوات الحفر والتنقيب ووسائل المشاهدة العلمية أم المجاهرة بالقصد وعرض أدوات البحث الأثري؟
في قراءة نصوص الرحلات الأوروبية المعاصرة نحو بلدان المغرب العربي، تلك التي كانت بهدف الاستكشاف (الميداني) التمهيدي لعمل الاستعمار، والتي كان من رجالها علماء مرموقون في الجغرافيا والجيولوجيا وفي الآثار، نجد الموقفين معاً ونجد الهم حاضراً. وفي الحالتين معاً، نلمس، بقوة، حضوراً قوياً لصورة ما، أولية ومهيمنة، سابقة على عمل الرحلة ذاتها.
يذكر أحد علماء الجيولوجيا (من رجال ((الاستكشاف العلمي)) للمغرب) أن نجاحه في مهمته العلمية يرجع إلى سببين إثنين: أولهما غياب كل تنكر أو محاولة لإخفاء الهوية، فلا شيء يزعج ((المسلم البربري)) أكثر من محاولات التنكر والتخفي وراء القناع، وثاني السببين هو وجود زوجته معه. ويعلل صاحب الرحلة ذلك بأن المرأة لا تزال تحظى، في هذه الجبال الشامخة، بأسباب الاحترام والتقدير، بل لا تزال محط تقديس وإجلال في بعض الأحوال.
والرأي خلاف ذلك عند فرنسي آخر هو من أشهر الرحالين الذين قدموا إلى المغرب في ثمانينيات القرن التاسع عشر. إنه أكثرهم شهرة وأهمية معاً، وهو الراهب الأب شارل دوفوكو. وتردده وحيرته في شأن الهيأة التي يتعين أن يكون سفره عليها لم تكن بدافع المهمة الفعلية التي كان مسخراً للقيام بها، بل إن الحيرة والتردد كانا بدافع (الصورة)، التي وقرت في ذهنه عن الاسلام وبلاده. وهكذا نجد أن دوفوكو ينبه قارئه إلى أنه لا توجد في المغرب سوى ديانتين إثنتين: الاسلام واليهودية، وأنه كان عليه، من جهة الهيأة واللباس، أن يعلن انتسابه لإحدى الديانتين. ثم يخبر قارئه أنه، لأسباب تاكتيكية وأمنية، فضل هيأة رجل الدين اليهودي ولباسه، أما الإعلان عن الهوية الحقيقية فلم يكن في تقديره، داعياً لاستجلاب السخط عليه والتذمر منه فقط، بل ربما دفع بأهل البلاد إلى محاربته وقتله، ففي الذهن العربي المسلم تقترن صورة المسيحي بصورة الجاسوس والعدو، ومن ثم فهي تحمل على القتل والإبادة.
الحق أن رحلة شارل دوفوكو (استكشاف في المغرب)، وهي التي قام بها صاحبها لغرض استعماري استكشافي كما يوحي بذلك عنوان الدال، مادة معرفية ثرية في الاطلاع على جوانب عديدة تتعلق بنظم المعيشة والمجتمع في مغرب القرن التاسع عشر. والحق أيضاً أن في ذلك السفر الضخم من جوانب الإفادة والمعرفة ما غفل عنه العديد من مؤرخينا الذين كانوا شهوداً على الفترة، بل كانوا، في بعض الأحيان، رجالاً فاعلين فيها. ومع ذلك تظل هذه الرحلة، من وجوه عديدة، شاهداً على الكيفية التي يكون بها المسافر القادم إلى المغرب (والمفروض عليه أن يتحدث عنه بلغة الواصف المخبر) حاملاً لموروثه الثقافي كاملاً، جالباً معه للمغرب صورة ذلك الموروث الثقافي من جهة أولى، وعاملاً، من جهة ثانية، على إعادة إنتاج ذلك الموروث وترسيخه في أذهان الأجيال اللاحقة عليه.
يعلم المهتمون بتاريخ الدراسات الاستغرافية في المغرب أن تلك الدراسات، مع تنوع مجالات اهتمامها بين التاريخ والاجتماع واللغة واللباس والعادات والتقاليد، وامتدادها لتشمل الثقافة في معناها الأنثربولوجي الفسيح، ظلت أسيرة جملة من الأوهام الإيديولوجية والأساطير المعرفية. وإنه لأمر عجيب حقاً أن نجد دراسات تتسم، في أحايين كثيرة، بالدقة في الملاحظة والقدرة على الاستقصاء الميداني، تسقط في أوهام وأساطير. وهذه قضية أخرى يسعفنا برنامج تاريخ الفكر وسوسيولوجية المعرفة بتقديم التفسيرات المناسبة لها. وما يهمنا (في رحلة) شارل دوفوكو على وجه التحديد، هو أن نشير، إجمالاً لا تفصيلاً، أن دوفوكو ظل أسير وهمين إيديولوجيين كبيرين في نظره إلى المجتمع المغربي وعبر تنقله في أرجائه الفسيحة في رحلة امتدت زماناً غير قصير، لم تكن تعوزه فيها أدوات الملاحظة ولا وسائل الاتصال، ولا القدرة على النفاذ إلى الأعماق البعيدة في ذلك المجتمع. أما الوهم الأول، ولعله الأكبر، فيتعلق بطبيعة الاسلام في المغرب وبممارسة المغاربة له خارج الحواضر خاصة. فالاسلام في المغرب، بموجب هذا الوهم، قشرة سطحية في الوجود الروحي والاجتماعي في المغرب سرعان ما تختفي وتزول بفعل تأثيرات حادثة لتظهر العادات والطقوس الوثنية السابقة على دخول الاسلام إلى المغرب. وأما الوهم الثاني، وهو خطأ معرفي أيضاً، فيتمثل في كون دوفوكو شأنه في ذلك شأن اللاحقين عليه ـ لم يفهم معنى الدولة وطبيعتها في المغرب، ولا وقف على كنه وظيفتها، كما أنهل م يقد على تلمس الطبيعة الاسلامية لتلك الدولة، وبالتالي حقيقة العلاقة بين الوجود السياسي والاجتماعي وبين الوجود الروحي في المغرب.
إن الموضوع، بطبيعته، يحملنا على المضي بعيداً في اتجاهات شتى ونحن نتلمس استقصاء ملامح الصورة التي يرسمها الرحالة الأوروبي للاسلام وأهله، وقد جعلنا المغرب نموذجاً وأرضاً لرحلات أولئك الرحالة. غير أننا لا نريد أن نختم حديثنا هذا دون أن ننبه إلى أمرين إثنين واجبين:
أولهما أن صورة الاسلام في الوعي الثقافي الأوروبي، على نحو ما يكشف عنها (أدب الرحلة) الغربية إلى بلاد الاسلام، لا تخرج عن الصورة المعتادة، بل هي تعميق لها. وبالتالي لم يكن الرحالة الأوروبي إلى أرض الاسلام ليجد في تلك الأرض إلا ما حمله معه إليها، فرؤيته قد تحددت سابقاً وتمت بصورة (قبلية) على الرحلة والسفر.
وثاني الأمرين أن علينا أن نعرف كيف نميز في قراءتنا في (أدب الرحلة) بين ما ينفعنا، مما يخبرنا به من جزئيات وتفاصيل تتصيدها عين المسافر الغريب أحياناً كثيرة، وبين ما لا نرى فيه نفعاً ولا فائدة ولا يكون سوى (إعادة إنتاج) لموروث ثقافي قديم ولمكونات إيديولوجية قديمة تمكنت من (الذهنية الغربية)، وعششت ثم فرخت فيها على نحو ما لا نزال نراه اليوم.
القدرة على هذا التمييز، والعمل بموجبه، يظل من شروط تحديد العلاقة بين (الأنا) وبين (الآخر)، وهو بالنسبة لنا مسؤولية وهدف في الوقت ذاته.
------------------------
المصدر: الاسلام وأسئلة الحاضر


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ