موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

المجتمع المدني الاسلامي
* محمد خاتمي
 


إن الأمة الإسلامية التي كانت يوماً حاملة لراية العلم والمعرفة والحضارة، أصيبت خلال القرون الأخيرة بالضعف والتخلف، وعانت الانهزامية المؤلمة مقابل الحضارة المهيمنة القائمة، حتى إنها لم تتح لها الفرصة والقدرة على الاستفادة اللازمة من ثمرات ومعطيات هذه الحضارة.
إن هزيمتنا التي دامت قروناً جاءت نتيجة أفول نجم حضارة كانت يوماً ما لامعة وضّاءة على جبين التاريخ. وإن الحضارة السائدة الآن مدينة بحق لتلك الحضارة العظيمة، وآثارها ومظاهرها ما زالت تدعو للإعجاب والثناء.
إن إحياء تلك الحضارة ذاتها ليس ممكناً اليوم، لأن سياقها الزمني قد انطوى. وإذا افترضنا جدلاً انه ممكن فلن يكون مناسباً.
وإذا كانت الحضارة تعني الإجابة عن التساؤلات التي تبحث عنها البشرية حول الوجود والكون والانسان. وإذا كانت الحضارة ثمرة الجهود التي يبذلها الانسان لسد احتياجاته، فإن الأمر الثابت هو أصل التساؤل والحاجة لدى الانسان، بيد أن نمط وطبيعة التساؤلات والحاجات تتغير بتغيير الزمان والمكان.
إن كل حضارة تبقى قائمة ما دامت قادرة على الإجابة عن التساؤلات المتجددة وتلبية الاحتياجات المنظورة للإنسان، وإذا لم تقدر على ذلك ستزول وتتلاشى. فالحضارة أمر بشري تولد وتزدهر وتأفل.
إن تساؤلات واحتياجات البشرية في عصرنا الحاضر تختلف في أحيان كثيرة عن تساؤلات واحتياجات الأسلاف، وإذا كنا قد أبدينا في غضون هذه العقود الأخيرة انهزاماً في مقابل الحضارة الغربية التي هي بحد ذاتها استجابة طبيعية لتساؤلات الانسان الغربي؛ فإن مغزى ذلك، يرجع إلى فقداننا روح التساؤل لأسباب مختلفة، والأمة التي تفقد التساؤل تحرم من الفكر وبالتالي يحكم عليها بالهزيمة والخضوع للآخرين.
المهم أن ندرك أن الهزيمة والضعف والتخلف ليس مصيرنا الحتمي وقدرنا الذي لا مفر منه، فالأمة التي صنعت إحدى ألمع وأروع الحضارات التاريخية قادرة أن تصنع حضارة جديدة شرط أن تتسلح بالفكر، ولن يتسنى حصول هذا الفكر إلا إذا تحققت:
1 ـ العودة المقرونة بالتأمل في ذاتنا التاريخية، التي تمتد جذورها إلى الوحي الإلهي الخالد من جهة، وتتمتع بمخزون ثقافي وتاريخي عريق من جهة أخرى.
2 ـ المعرفة الدقيقة والصحيحة بالعصر. وفي هذا المضمار ينبغي أن ندرك بأن ظاهرة الحضارة الغربية ذات النتائج الإيجابية العديدة والآثار السلبية لغير الانسان الغربي هي التي تفصل بين الحضارة الاسلامية، أو بتعبير أدق (حضارة المسلمين)، وواقع حياتنا المعاصرة.
إن عصرنا الحالي هو عصر، هيمنة الحضارة الغربية التي لا مفر من قراءتها قراءة فاعلة تجتاز المظاهر والظواهر وتتوغل في المبادئ النظرية والأسس القيمية لتلك الحضارة، وهذه المعرفة ضرورية.
إذاً؛ علينا أن نعرف ماضينا لا من أجل أن نرجع إليه بحذافيره ونتوقف عنده، لأن هذه هي الرجعية بعينها، بل الغرض العثور على جوهر ومغزى هويتنا، في سبيل تنقيتها وتهذيبها من العادات والقوالب الذهنية المرتبطة بالزمان والمكان؛ ونقد الماضي بحكمة من أجل الحصول على مرتكز لعزتنا الحاضرة. ولنجعل الماضي قاعدة انطلاق يومنا، إلى غدٍ أكثر إشراقاً حتى من أمسنا، ولا يحالفنا النجاح في هذا المسير إلا إذا اتصفنا بالإنصاف واللياقة بالاستفادة من المكتسبات الإيجابية، العلمية والتقنية والاجتماعية، لحضارة الغرب التي يتحتم العبور من خلالها إلى المستقبل.
ورغم أن انهزام المسلمين وتخلفهم حالة مؤلمة إلا أننا نستطيع أن نزيل مرارتها متى أردنا. فبالاعتماد على الوعي والإرادة والتضامن قادرون على تغيير مصيرنا.
وإذا نظرنا إلى الأفق الأبعد، ووقفنا إلى جانب بعضنا، وحققنا التفاهم فيما بيننا، ووضعنا أيدينا في أيدي بعضنا بأخوة وصدق، يمكننا حينذاك أن نقود مسيرة جيل اليوم والغد نحو الحضارة الاسلامية الحديثة. ومن أجل تحقيق ذلك، ينبغي لنا أولاً أن نعقد العزم على امتلاك الهمّة وبذل الجهود لتحقيق (المجتمع المدني الاسلامي) في بلداننا.
إن المجتمع المدني الذي نطالب باستقراره وتكامله في بلدنا ونوصي به الآخرين في جميع البلدان الاسلامية، يختلف ماهوياً بشكل جذري وأساسي مع المجتمع المدني المنبثق عن الفكر الفلسفي اليوناني والتجارب السياسية لروما. وإن كان ليس من الضروري أن يكون هناك تعارض بين الاثنين في جميع النتائج والعلائم.
المجتمع المدني الغربي متفرع من الوجهة التأريخية ومن حيث الأصول والمرتكزات النظرية عن الدولة ـ المدنية اليونانية؛ ومن النظام السياسي لروما بعد ذلك، على حين أن المجتمع المدني الذي ننشده، له من البعد التأريخي والمباني النظرية أصوله في مدينة النبي (ص).
فتبديل اسم (يثرب) إلى (مدينة النبي) لم يكن مجرد تبديل اسم بآخر، كما ان تبديل (أيام الجاهلية) إلى (أيام الله) لم تكن القضية مجرد تبديل اسم بآخر، فليست المدينة مجرد تراب وقطعة أرض محددة، كما إن أيام الله ليست أوقاتاً زمنية وحسب.
بمدينة النبي (ص) ويوم الله قام التاريخ المعنوي والجغرافية المعنوية في العالم، وهما بداية لانطلاق نمط من الفكر والرؤية والسلوك الذي تجلى يوماً في الحضارة الاسلامية. ولهذا الفكر رؤية خاصة وسامية للكون والانسان ومبدئهما، وترسخت حقيقة هذا الفكر وجوهره في أعماق المسلمين واستقرت في ذاكرتهم الجماعية قروناً متمادية.
والمسلمون اليوم بحاجة ـ أكثر من أي وقت مضى ـ إلى أن يسكنوا منزلهم وموطنهم المشترك الأصيل.
وبديهي ان التمايز القومي والجغرافي والاجتماعي للمسلمين أدى إلى اكتساب (حقيقة الفرد) ألواناً وأنماطاً متنوعة، وأما مدينة النبي (ص) فهي مكاننا الروحي جميعاً، أو ينبغي لها أن تكون كذلك، ويوم الله هو الزمن السائد في جميع لحظات وأيام حياتنا. أو ينبغي له أن يكون كذلك.
المدينة تظهر إلى الوجود وتقوم بعدا لهجرة من بلد الشرك والظلم، كما إن يوم الله يبدأ بانقطاع الزمن الجاهلي والدخول إلى وادي (الزمن) المقدس والحضرة الإلهية.
إن السكن في البيت الاسلامي المشترك لا يعني الرجعية، وإنكار المعطيات العلمية واعتزال العالم المعاصر أو التنازع مع الآخرين، بل العكس هو الصحيح، فنحن لا نستطيع أن ننعم بالسلام والأمن والاطمئنان مع بقية الأمم والشعوب إلا بعد أن نسكن بيتنا الاسلامي المشترك.
إن الحياة المقترنة بالسلام والأمن لا تتحقق إلا عندما نتمكن من التفهم والإدراك العميقين لثقافة وفكر الآخرين، بل وحتى رغباتهم وأذواقهم. والإدراك العميق، للوجود الروحي والثقافي لسائر الشعوب يستلزم الحوار معها.
والحوار الحقيقي معها لن يتسنى إلا عندما يكون طرفا الحوار في سياق الأصالة والحقيقة، وإلا فإن حوار المقلّد الفاقد للهوية مع الآخرين لن يكون له معنى، ولن يسفر عن خير وصلاح له. والسكن المعنوي في بيت المسلمين المشترك (مدينة النبي) هو اتخاذ الموقف الحقيقي والتوصل إلى الهوية الحقيقية للمسلمين.
على الرغم من إن المحور في المجتمع المدني الذي نطمح إليه هما الفكر والثقافة الاسلامية، إلا أن هذا المجتمع يجب أن يكون خالياً من الاستبداد الفردي والجماعي، بل وبعيداً حتى عن ديكتاتورية الأكثرية.
في هذا المجتمع يكون الانسان ـ بما هو إنسان ـ مكرّماً ومعززاً وحقوقه محترمة مصانة. المواطنون في المجتمع المدني الاسلامي هم أصحاب الحق في تعيين مصيرهم والإشراف على ادارة الأمور، ومحاسبة القائمين بادارة الأمور.
والحكومة في المجتمع المدني خادمة الشعب وليست سيدته، وهي في كل الأحوال مسؤولة عن أعمالها أمام الناس الذين جعلهم الباري ـ سبحانه وتعالى ـ أصحاب الحق في تقرير مصيرهم.
مجتمعنا المدني، ليس ذلك المجتمع الذي يكون فيه المسلمون وحدهم أصحاب الحق ومواطني النظام، بل هو المجتمع الذي يكون فيه كل انسان يؤمن بالنظام والقانون هو صاحب حق، والدفاع عن حقوقه من أهم وظائف الحكومة وواجباتها.
إن احترام حقوق الانسان ومراعاة حدودها وضوابطها ليس كلاماً نكتفي بترديده على ألسنتنا، أو نقوله بناءً على ما تقتضيه مصالحنا السياسية، أو من أجل مراعاة ومسايرة الآخرين، بل الأمر نتيجة طبيعية لتعاليمنا الدينية والأوامر الإلهية، فأمير المؤمنين الإمام علي (ع) يأمر عامله على أحد البلدان بالعدالة والإنصاف بين جميع الناس وليس المسلمين وحدهم ويقول له: (إن الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
مجتمعنا المدني لا يحاول التسلط ولا يقبل الخضوع، ويعترف بحق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادتها وتحقيق حياتها الكريمة، كما إن هذا المجتمع يرفض الخضوع لأي ظلم أو هيمنة أو قهر، وحتى يتمكن من الوقوف على قدميه عليه أن يمتثل لأوامر القرآن الكريم الواجبة والقاضية بالأخذ بأسباب التقدم المادي والقوة والتطور التقني، ورفض التسلط. وعدم الخضوع للهيمنة يعني رفض الخداع والاحتيال في العلاقة بين الدول، واستبدالها بالمنطق ومبدأ الاحترام المتبادل في العلاقات الدولية.
المجتمع المدني الذي نحن بصدد اقامته يرتكز على هويتنا الجماعية التي يتطلب تحقيقها، الحركة والسعي الدؤوب للمفكرين والعلماء. وهو ليس كنزاً يمكن العثور عليه واكتشافه فجأة بل ينبوع فيّاض بالمعنوية، ينبغي لنا أن نتمتع دوماً بعطائه المتفجر.
وبناءً على ذلك، فإن الانتفاع به سيكون تدريجياً ومنوطاً بالمعرفة الدقيقة للتراث والتقاليد العقائدية والفكرية للمسلمين من جهة، ورهناً بالفهم العلمي والفلسفي العميق والدقيق للعالم المعاصر من جهة أخرى، ولهذا السبب فإن علماء ومفكري الأمة هم مدار ومحور هذه الحركة، ونجاحنا في هذا الخط والمسار رهن بمدى كون السياسة في خدمة الفضيلة والفكر، لا أن ينحصرا في الإطار الضيق للسياسة.
إن استعادة كرامتنا الاسلامية التي أرادها الله لنا، وتحقيق القدرة اللازمة على نيل دورنا اللائق في العالم الحالي، وخلق حضارة جديدة أو على الأقل المشاركة الفعالة في خلق هذه الحضارة التي ستظهر على مسرح الحياة، شئنا أم أبينا. كل ذلك يستلزم منا ـ نحن المسلمين ـ أن نهتم بأمرين أساسين، أحدهما: العقل والفكر، والآخر التضامن والانسجام. فمن أجل تحقيق هذين الأمرين القيمين، هل هناك عمل يبعث على الاطمئنان بالوصول إلى النتيجة المطلوبة أفضل من التمسك بالقرآن الكريم، التركة الخالدة لنبينا العظيم (ص)؟
في أي كتاب أو رسالة ورد كل هذا التأكيد على التعقل والتدبر والتفكر في الوجود والكون وأخذ العبرة من مصير الأمم والشعوب والأقوام الغابرة. كما ورد في القرآن؟
إن القرآن هو العامل الرئيس لوحدتنا وعروتنا الوثقى وقاسمنا المشترك، على الرغم من التباينات القومية والعرقية واللغوية وحتى المذهبية. إذا ما عرفنا قيمته وأدركنا شأنه ورجعنا إليه بتعقل، بعيداً عن الجمود من ناحية، وفقدان الثقة بالنفس في مقابل الآخرين من ناحية أخرى، وأضأنا حياتنا المعاصرة وآفاقنا المستقبلية بنوره.
- نحو نظام عالمي جديد وعادل:
على الرغم من المساعي التي يبذلها السياسيون الأمريكيون بفرض إرادتهم كقطب وحيد، يجب ن يتحرك العالم على وفق مصالحه لأن نظام القطبية الثنائية السابق يمر الآن بمرحلة تحول جديدة من التاريخ في العلاقات الدولية.
ما يهمنا كدولة إسلامية هو أننا في الوقت نفسه الذي نبدي صموداً في مواجهة أي شكل من أشكال الهيمنة، علينا تطوير صيغة مناسبة تليق بنا، في النظام السياسي الجديد المتبلور للعالم والعلاقات الدولية المستجدة. وهذا الأمر يتطلب منّا التفاهم فيما بيننا، اضافة إلى البرمجة والتخطيط والسعي المشترك.
من الضروري أن تبادر الدول الاسلامية إلى إعادة النظر في مواقعها وامكاناتها، بشكل دقيق وبمعرفة ما يحيط بها برؤية واقعية وباتخاذ السياسات المناسبة لتحقيق التضامن السياسي والانسجام الكامل والتوظيف المشترك لكل الامكانات والطاقات الداخلية التي تتمتع بها الشعوب، وتبحث عن المجالات اللازمة على الصعيد العالمي، لغرض تحقيق الوجود المؤثر والدور الفاعل في اتخاذ القرارات على الساحة الدولية.
في البداية علينا السعي لتقريب وجهات نظرنا عبر العودة والتمسك بالمبادئ والأصول والتراث والمصالح المشتركة، من خلال التفاهم والبحث مع بعضنا البعض في جميع المجالات، ثم نقوم باستثمار الامكانات الموجودة ومراكمة القدرات المتكاملة في سلسلة من الحلقات المتواصلة.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ