إذا كان الإسلام اليوم، في ظل الشروط العالمية التي تحف به وبإزاء
المتغيرات الدولية التي يشهدها العالم في هذه المرحلة؛ والتي تقيم
للإسلام اعتباراً جلياً، هو مادة كثير من الاتهامات وموضع العديد
من الهجمات، فكيف يتأتى له أن يقوم بإسهام حضاري ما أو أن يكون له
مكان ودور في بناء الصرح الحضاري الإنساني المعاصر؟ وقد يلزمنا أن
نضيف إلى الهجوم والاتهام هذين ما تعيشه البلاد الإسلامية من أزمات
داخلية؛ وما يشهده عدد من البلاد، العربية منها خاصة من تحولات
اجتماعية، واضطرابات سياسية وتقلبات اقتصادية وما يصاحب هذا كله من
التلويح بالشعارات الإسلامية؛ تبريراً للجوء إلى العنف وتسويغاً
للامتناع عن الأخذ بمبادىء الحوار ومستلزمات التساكن الحضاري. ثم
يلزمنا أن نتساءل في شجاعة وصراحة معاً: أليس لخصوم الإسلام أن
يجدوا في سلوك بعض الجماعات الإسلامية، داخل بلاد الإسلام، ما يبرر
عندهم ما يلحقونه بالإسلام من نعوت السلبية وأوصاف الهمجية والبعد
عن روح الاجتماع البشري المعاصر؟ وبالتالي: فهل يكون هنالك من مبرر
معقول للحديث عن الإسلام وعن المشروع الحضاري العربي، أو من كلام،
بالأحرى، عن مشروع حضاري عربي قوامه الإسلام ووجهته المستقبل؟
الحق أن سؤالاً من هذا القبيل، متى طرح في الأزمنة التي نتحدث فيها
وفي ظل الشروط والملابسات التي نعيش فيها، لا يحتمل أن يكون سؤالاً
أكاديمياً صرفاً همه المعرفة النظرية المجردة أو البحث عن الحلول
النظرية الممكنة، ولكنه سؤال يرتبط بالعمل وبالحركة ما دام بناء
المستقبل غايته ومبتغاه. كان المفكرون النهضويون العرب يتساءلون،
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل وخلال العقود
الأولى منه، عما إذا كان في مقدور الإسلام أن يتوافق مع ما يشهده
العالم من أشكال التبدل الحضاري؛ وأن يواكب ما يحدث من تطور صناعي
وتقدم علمي وتغير في أنماط الوجود السياسي والاجتماعي. ونعلم أن
رجال السلفية وزعماء الفكر الإصلاحي الديني خاضوا معارك دفاعية
عنيفة للتدليل على "صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان"؛ ولحمل الناس
على وجود التفرقة والتمييز بين حال "المسلمين" وواقعهم من جهة،
وطبيعة "الإسلام" وحقيقته من جهة أخرى. ونعلم مغزى هذا الدفاع
والدور النضالي الذي قام به ذلك الفكر في العشرينيات والثلاثينيات
وفي معارك الدفاع عن الهوية وعن الوطن معاً. ولكن فروقاً وأسباباً
عديدة تفصلنا عن مفكري النهضة ورجال السلفية، هي مجمل الفوارق
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تفصل بين الوجود
العربي الإسلامي قبل فترات التحرر الوطني، قبيل الستينات، وبين ذلك
الوجود اليوم.
من الطبيعي أن تكون هنالك، عوامل ومعطيات موضوعية تزيد في أهمية
صورة الإسلام في الوعي الثقافي الغربي؛ ربما كان أكثرها أهمية
ثلاثة عوامل هي: الموقع الجغرافي والأهمية الاستراتيجية للبلدان
الإسلامية؛ واقع ما بعد "الاتحاد السوفياتي" أو التفجر الديني؛
إسلام المهاجرين العرب في أوروبا.
فأما العامل الأول فالأمر فيه يسير وواضح معاً، فالبلاد الإسلامية
ذات أهمية قصوى بالنسبة للاقتصاد العالمي وبالنسبة لرفاه العالم
الغربي منه خاصة، وذلك بما تتوافر عليه هذه البلاد من ثروات هائلة.
(وقد يكفي أن ينظر المرء في الأرقام والإحصائيات ليتأكد من الأهمية
القصوى للبلدان العربية في إنتاج البترول، ومن المكانة التي تحتلها
وتجعل منها خزاناً هائلاً لهذه المادة الاستراتيجية). ثم إن هذه
البلاد تشكل مناطق صناعية حيوية وكبيرة في إنتاج الصناعات التي
أخذت دول الشمال تأنف من وجودها في بلدانها، وترى فيها خطراً
بيئياً عظيماً بما تحدثه من تلوث (وهذا هو الشأن في صناعات النسيج
وفروعها).
أضف إلى ذلك رخص اليد العاملة وقرب منتوجها من دول البحر الأبيض
المتوسط الشمالية، (وهذا هو الشأن مثلاً، في صناعات الملابس
الجاهزة)، وإلى هذا كله تنضاف أهمية هذه البلدان بحسبانها سوقاً
هائلة لتصريف المنتوجات الغربية وتحقيق فائض اقتصادي هائل في
موازين المبادلات الاقتصادية مع البلدان الإسلامية لصالح الدول
الغربية، مما يجعلها في حال تبعية اقتصادية وما يترتب عنها من
انعكاسات عديدة في مستويات السياسة والتعليم والثقافة وما إلى ذلك.
ولا يخفى أن هذه الأهمية الاستراتيجية للبلدان الإسلامية، والبلاد
العربية في طليعتها، تقوى وتتعاظم بالنظر إلى المواقع الجغرافية
لهذه البلدان سواء بالنسبة لدول أوروبا أو لمجموعة دول الشرق
الأقصى، وإلى حد كبير بالنسبة للمصالح الحيوية لأمريكا وسياساتها
الاقتصادية.
وغني عن البيان أيضاً أن ما حدث في "العالم الشرقي"، وتفكك ما كان
يدعى سابقاً باتحاد الجمهوريات السوفياتية، قد كشف الحجاب عن
مجموعة من الصراعات والتناقضات العرقية التي تحدد الموقف من
المنتسبين إلى الإسلام، بوصف هذا الأخير عقيدة وثقافة معاً. ولعله
من المثير حقاً أن يتبين المرء كيف أن دولة "الاتحاد السوفياتي" لم
تكن عاجزة عن تجاوز بنيات الدول القومية أو الوطنية (فهي من
الناحية العملية، وبشهادة التاريخ، لم تقدر على الارتقاء إلى مستوى
الدولة "الأممية") فقط، بل إنها لم تقدر على احتواء الصراعات
العقائدية، ولم تتمكن من التحرر من نوع من العقد النفسية أو السلوك
المرضي ضد المجموعات المسلمة داخل الدولة الوحيدة.
ولو نظرنا في ما يحدث للأتراك في ألمانيا وفي مختلف البلاد
الأوروبية، لأدركنا أن الأمر في "صورة الإسلام" يرجع إلى مكونات
ثقافية عميقة؛ وإلى مخزون وجداني هائل لا يزال يطفو على السطح بين
الآونة والأخرى ليعلن عن وجوده وحيويته الدائمين.
يبقى العامل الثالث الهام والفاعل في رسم صورة الإسلام في الوعي
الثقافي الأوروبي، وهو يرجع إلى حال المهاجرين العرب في أوروبا.
ودون أن نبتسر القول في قضية عويصة وشائكة تمسنا، في منطقة المغرب
العربي خاصة، في وعينا الثقافي وفي كياننا الاجتماعي، نجمل فنقول
إن مسألة المهاجرين العرب، في الموقف الأوروبي منها، تؤول إلى
المخزون الوجداني الأوروبي وإلى المكونات الثقافية العميقة،
اللاشعورية، التي ترجع إليها جذور الصورة الحاصلة عن الإسلام
والمسلمين في ذلك الوجدان وفي تلك المكونات.
الحق أن إسلام المهاجرين في أوروبا يحضر، في الوعي الثقافي
الأوروبي، مثقلاً بالرموز والدلالات، ويكون ذريعة إيديولوجية
لإخفاء جملة من التناقضات الذاتية التي تحف ببنية المجتمع المدني
في الغرب الأوروبي (مسألة الدين في مقدمة تلك التناقضات)، ثم إن
إسلام المهاجرين يشكل وسيلة "سياسية" للهرب من جملة من القضايا
العويصة التي تتعلق بالاقتصاد ومشكلات البطالة والشباب (مثلما هو
الشأن في فرنسا بكيفية جلية)، وكذا بالمشكلات الكبرى التي تجابه
بناء أوروبا العظمى (قضايا الاندماج أو الإدماج، مثلما هو الحال في
المهاجرين الأتراك والبرتغاليين، وكذا في المهاجرين الجدد من دول
أوروبا "الشرقية" القديمة).
ولكن الحق أيضاً أن مسؤوليات الحكومات العربية خاصة (وحكومات دول
المغرب العربي على وجه أخص)، أمام قضية "الإسلام في بلاد المهجر
الأوروبي"، تبقى مسؤوليات جسيمة، وإن جهوداً كثيرة متصلة يطلب منها
القيام بها من أجل دحض محاولات تشويه الإسلام، ومن ثم حسن الدفاع
عنه من أجل مشروع البناء الحضاري المستقبلي؛ ومن أجل العمل
الإيجابي، الذكي والفعال، على تحصين الوجود السياسي والحضاري لدول
وشعوب مختلف البلاد العربية، واجهة العالم الإسلامي وعصب الحياة
فيه.
---------------------------------------
المصدر: الإسلام واسئلة الحاضر