موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الإعلام والتبليغ

الغزو الثقافي حقيقة أم وهم؟
ابراهيم العبادي



عادت قضية الغزو الثقافي تطرح نفسها بقوة من جديد مع تقدم الاتصالات وانتشار البث الموجي وشبكات الاقمار الصناعية، حيث أمكن للدول الصناعية المتقدمة أن تفرض هيمنتها على الفضاء وتنزل قيمها واخلاقها وافكارها ورموزها وانماطها الاستهلاكية _ وبالجملة ثقافتها _ على الآخرين.
ومع عدم امكانية بناء سواتر حديدية تمنع الامواج وتعوق الاتصال، وتحول دون بضاعة الدول "المصدرة" للانماط الثقافية، من اجل السيطرة على العقول والعواطف بعد ان جربت الهيمنة السياسية والاقتصادية، فان حرب الامواج الجديدة صارت تشكل خطراً يهدد ثقافة الشعوب الاخرى (المتلقية) وبما يدفعها الى وصف هذا الخطر بالغزو الثقافي، في محاولة منها لتعميق الوعي بأخطار هذه الحرب الجديدة، ولتحريك مشاعر الدفاع لدى الشعوب من أجل أن تعزز ثقتها بثقافتها، وصياغة مشروع ثقافي قادر على احتواء الهجوم وامتصاصه للتقليل من الخسائر التي يسببها.
ومن حيث المبدأ، فان الغزو الثقافي قد لا يعبّر في الواقع عن ثقافة متينة قوية تملك قدرة التغلب والهجوم في مقابل ثقافة خاوية قديمة ذات قيم أو مثل ماضوية أو سلفية لا تنسجم مع الواقع المعاصر كما قد يتصور، بل ان قدرة الهجوم والغزو تأتي في قدرة النموذج الحضاري والثقافي الذي تنتسب اليه الالة المحركة والدافعة للغزو.
فحيث ان الغرب استطاع بناء المعارف والعلوم الحديثة التي مكنته من بناء دوله المتقدمة والمتطورة. وبفعل تمازج بين الهيمنة والحاجة الى الامتداد والاسواق وفرض أنماط من التبعية السياسية على شعوب العالم الاخرى ودولها، فان سلاح الثقافة دخل بقوة كعامل مكمل لضرورات الهيمنة السياسية والاقتصادية. فعمق التأثيرات الثقافية واللغوية وترويج انماط التفكير والاستهلاك والسلوك العام تعطي المسوّغات لأن تكون الهيمنة السياسية والترابط الاقتصادي السلبي ناتجين طبيعيين للتبعية في الميدان الثقافي.
ان هدف الغازي يتجسد دائماً في محاولة التشكيك بقدرة العقائد والافكار والعادات والقيم والمعاني المحلية للآخرين على الأخذ بأيديهم الى التقدم والتطور، وبالتالي يصور مجتمعاتهم بشكل يشعرون معها بالدونية والنقص امامه ومن ثم يلجأون الى المجتمعات الاخرى في توليد مفردات الثقافة التي يحتاجونها باستمرار.
وقد تصرف الغرب مع المسلمين في ضوء هذه المعادلة مستخدماً أساليب مختلفة لم تقتصر على الارساليات التبشيرية وجهود المستشرقين في بناء تصور عن الشرق الاسلامي واعادة تصويره للمسلمين ليقرأوا تاريخهم وعقائدهم ومذاهبهم ورموزهم الدينية والقومية على ضوئه فحسب، بل إن الأمر جعل عقدة التفوق هذه تتخذ منحىً عندما اصطنع الغرب لنفسه رسالة تحديث الشرق ونقل ثقافته لتحل محل الثقافة التقليدية غير المنتجة علمياً!!؟ والمتخلفة والمنغلقة على نفسها!
لكن ثمة شيء ينبغي الاعتراف به وهو أن الغرب ظل مصدر التقنية والعلوم الانسانية وكان بالتالي مؤهلاً لان يصبح دائماً في موقع توريد التكنولوجيا والمعارف الانسانية الجديدة الى جانب فنونه وآدابه وعاداته وطرائق عيشه بحكم ايديولوجيا التقدم والتفوق التي تفترض آلية عمل مهاجمة.
وبسبب الطبيعة المادية للثقافة الغربية وجذورها الوثنية، والتي أنتجتها بطبيعة الحال فلسفة الغرب ورؤيته للمادة والطبيعة والانسان، فان ثقافة الغرب اكتسبت معانيها ورموزها من هذه المواصفات، وأصبح من المستحيل تفكيك نظمها العلمية والمعرفية وتنقيتها عن فلسفتها الجوهرية وتجلياتها في الادب والفن والسلوك الفردي والاجتماعي ورؤيتها عن ذاتها وعن الآخر. ان أي ثقافة تشعر بتفوقها، تميل ذاتياً الى تعميم نفسها من خلال فرض نموذج مدنيتها على الآخرين وتكريس ذلك كخيار واحد للحداثة والتطور والمعاصرة وحينما يضاف الى ذلك النزعة القومية والتنافي على مواقع النفوذ في العالم فان الاقوى عسكرياً واقتصادياً والاقدر على استخدام وسائل الاعلام وتوظيف التكنولوجيا، يسعى الى الفوز بموقع الصدارة.
ومثلما تسعى الثقافة القومية بشكل عام الى مصادرة خصوصيات ثقافية خارج المركز الغربي فإن دول الغرب نفسها تعاني من عقدة (الغزو الثقافي) فيما بينها، ولعلّنا نتذكر تصريحات وزير الثقافة الفرنسي في الثمانينات "جاك لانغ" الذي كان يعلن بصارحة عن غزو ثقافي أميركي لفرنسا عندما قال ان الاميركان يسعون لتعميم ثقافتهم الانگلوسكسونية على الثقافة الفرنسية عبر السينما والتلفزة وتقنيات الرواية وأنماط الاستهلاك والموسيقى الاميركية.
كما ان نزعة التقليد والتبعية لا تقتصر على الدول المتخلفة اقتصادياً، بل ان دولاً متقدمة صناعياً واقتصادياً تعاني من ميل شعوبها الى التقليد والتبعية في الانماط الثقافية، ربما تكون النمسا مثالاً على ذلك، اذ ان السينما النمساوية مثلاً فقدت هويتها المستقلة وصارت تقلد السينما الامريكية.
ان الهوية تصبح ذات رباط وثيق بالثقافة لان الثقافة هي المولد الادراكي للشعور الخاص بالهوية والتمايز، بل هي احدى وظائفها الاساسية، ومن خلال سعي الغرب، كمنظومة حضارية موحدة، لتهميش الآخرين وتفتيت مدنياتهم وثقافاتهم، واستيعابها في منظور اُحاديّ تحت عنوان عالمية الثقافة الغربية، فان الغزو يصبح هو التعبير الطبيعي لهذا النوع من التعامل، ولعل الاصرار الكبير على مدّ شبكات التلفزة عبر الاقمار الصناعية وتحويلها الى شبكات كونية تتحدث بلغات متعددة وبمضمون ثقافي واحد، هو البداية الاولى لتسخير الاجواء والفضاءات، وتحويل مفهوم سيادة الدول الى مفهوم نسبي ما دامت غير قادرة على فرض سيادتها على اجوائها.
هناك منطقان يتصارعان ويعكسان وجهتي نظر مختلفتين في البلدان العربية والاسلامية.
الاولى: تقول برفض مطلق الثقافة الغربية لانها مادية غازية وخطرة تفسد القيم والأخلاق وتمارس عملية إحلال واستبدال، أي إحلال قيم غريبة محل القيم الاسلامية، وهذه الظاهرة تشكل عملية استلاب مقصودة لابد من الوقوف في وجهها بغلق الابواب والانعزال ومكافحتها مكافحة شديدة.
اما الثانية فنقول ان العالم أصبح قرية صغيرة وأن الشعوب لم تعد قادرة على الانعزال والتقوقع على الذات والهروب من الواقع، بل ان الثقافة باتت عالمية وعلى كل فريق ان يعرض (بضاعته) ليتم التبادل والتثاقف بحرية وبدون قيود، لاسيما وان حضارة الغرب وثقافته أصبحت ملازمة مع علومه وتقنياته، ومن يفكر بالانعزال لن يخسر فرض التقدم وحسب، بل ويجعل ثقافته انطوائية فقيرة غير ملقحة بايجابيات الآخرين، ثم بالتدرج تفقد الشعوب والامم ثقتها بها. وكلا المنطقين بالطبع ينطويان على قدر متساو من السلبيات والايجابيات، اذ يستحيل اغلاق الأبواب والنفوذ بفعل ثورة الاتصالات والاحتكاك المستمر بين الشعوب والتبادل السلمي والانتاجي وامكانية الانزال غير متوفرة بل غير ممكنة.
اما الإنفتاح بلا قيود تحت شعار التبادل الحر، فان الامر ليس بهذه السهولة.
اولاً: لان الغرب يمتلك صورة مسبقة عن الاسلام كوّنها بنفسه واستمر يعيد انتاجها ويغذيها أجياله وبالتالي فهو ليس في موضع تأثر جماعي وان كان باب التأثر الفردي مفتوحاً.
ثانياً: لان المسلمين لا يمتلكون الامكانيات المالية ولا السيطرة على وسائل الاعلام والدعاية والتقنيات لايصال رسالتهم الثقافية على قدر متساو من العدالة والتكافؤ مع الغرب.
ثالثاً: ان الوضع الاسلامي بشكل عام يعيش حالة دفاع ثقافي بسبب التخلف العلمي والتقني وقد حمّلت الثقافة الاسلامية مسؤولية ذلك حيث ألصقوا بها تهم الخرافة واللاعلمية والعجز والسحرية. ومع اطراد تقدم الغرب وبطء خطوات المسلمين، فإن الثقافة الغربية احتفظت بمواقع التفوق والهجوم، لأنها تقدم نفسها كأداة تقدم اقتصادي واجتماعي وفكري، وبصرف النظر عن سلامة المحتوى الأخلاقي والقيمي ومستواه، فان ميزان القوى الاقتصادي والسياسي وقوة النفوذ الدولي هو الذي يمنح الثقافة قدرة الهجوم وعدمها، وكذلك قوة التأثير وقدرة التغلغل فانه لا تخضع لمقياس عقلي او منطقي بقدر خضوعها للقوة الدافعة لها.
في مثل هذا الواقع لا مناص من مشروع ثقافي محلي يحدد نقاط القوة والضعف في الثقافة المحلية وآلية تحرك فعالة وديناميكية في الوسط الثقافي لتنظيم عملية التبادل الثقافي بشكل يسمح بتدوين استراتيجية للعمل الثقافي تقلل بأعلى نسبة مخاطر التدفق الخارجي، وتعزز ثقة الشعب وارتباطه بهويته وثقافته من خلال عملية إحياء ونقد دائمين حتى لا تصبح الثقافة المحلية جامدة ومنغلقة فتوفر أكبر الذرائع للقبول بالثقافة الوافدة كما حصل مع العالم الاسلامي حينما اصطدم لأول مرة بالغرب وأفاق على هول التخلف الذي رتع فيه.
-------------------------------
المصدر : جداليات الفكر الاسلامي المعاصر


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الإعلام والتبليغ