ثمة تساؤلات، يثيرها موضوع هذا المطلب من أهمها: ما هي المبادىء
السياسية الحاكمة للعلاقة الخارجية لدار الإسلام كما تجلت في
القرآن الكريم؟ وما السبيل إلى منع الإكراه في الدين؟ وهل يعامل
غير المسلمين جميعاً معاملة واحدة، أم تتنوع تلك المعاملة حسب
سلوكياتهم؟ وما هو الحد الأدنى، الذي يلزم ألا تتجاوزه تلك
العلاقة؟ وما هو مركز كل من: السياسة والقوة في مجال تلك العلاقة؟
وما هي ضوابط إعداد القوة الإسلامية وإستخدامها؟ وما هي التدابير
السياسية لترتيب أوضاع ما بعد الحرب؟
وفي حين أن العلاقة بين الدول، القائمة على غير أساس إسلامية تخضع
لقواعد قانونية بشرية الصنع، وتحكمها، في أرض الواقع، اعتبارات
موازين القوة بين أطرافها، حتى في عملية التفاوض لترتيب تلك
العلاقة، وحسم ما يعتورها من أزمات سلما، وحربا، فإن إرادة الدولة
الإسلامية غير طليقة في المجال الدولي، إذ تخضع الشريعة الإسلامية،
التي هي من صنعها، وليس العكس مما تعتبر القوة معه أداة محكومة
بالشريعة، لا حاكمة لها، في المجالين الداخلي، والخارجي على
السواء.
فالعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين تخضع لأسس التشريع الإسلامي
في القرآن المتمحورة حول: نفي الحرج وتقليل التكاليف، والتدرج في
التشريع، المرتبط بالإجمال، ثم التفصيل، مع أخذ كل النصوص القرآنية
سواء العام منها، والخاص، المرتبطة بموضوع معين، على أنها سياق
واحد.
ولذا لم يهتم القرآن ولا الصحابة بإيراد ما يدل على أن أحد النصوص
المتعلقة بموضوع معين، سابق على النصوص الأخرى المرتبطة بذات
الموضوع، أم لاحق لها، أو ترتيب حكم على البعض دون الاخر وفي ضوء
هذه القاعدة، نتناول أبرز التوجيهات القرآنية الحاكمة لضوابط هذه
العلاقة. فيما يلي:
أولا: حظر الإكراه في الدين: فلقد قال الله تعالى: (لا إكراهَ في
الدّينِ قد تَبينَ الرُّشد من الغي). والملاحظ في هذه الآية
الكريمة، أنها ربطت بين منع الإكراه وبين إلقاء عبء على كاهل
المسلمين، يتمثل في إزاحة كل ما من شأنه عدم ظهور الحق وتبين الرشد
وظهوره. وثمة فارق ضخم، بين ممارسة الإكراه، لإخضاع أئمة الكفر
للتسليم بحق الدعوة الإسلامية، في الوصول إلى غير المسلمين، كشق
مقترن بعدم الإكراه في الدين، مع إتاحة الفرصة أمام كل إنسان لأن
يختار متمكنا، وبكامل حريته، الدين الذي يقتنع به، وبين ممارسة
الإكراه على الدين، كسبيل لقسر الناس على تغيير عقيدتهم، والدخول
في الدين الإسلامي فهذا هو رأس المحظورات.
ويرتبط بهذا المبدأ أمر آخر، هو: تكريم الله آدم (وَلَقَد كرمنا
بني آدمَ وحَملناهمُ في البرِ والبحرِ ورزقناهُم من الطيباتِ
وفضلناهُم على كثيرٍ ممن خَلقنا تفضيلا) (الاسراء: 70).
وهو تكريم يشمل الأدميين جميعاً، بصرف النظر عن أي اعتبار آخر وهذا
التكريم يَجب كل الحقوق، والضمانات، ويرفع قيمة الإنسان فوق كل
قيمة أخرى بشكل يطرد مع درجة التقوى وبذا فإن مبدأ عدم الإكراه في
الدين، وتكريم الإنسان يحمي الحريات المعنوية، ويضمن حقوقا وضمانات
بالغة الأهمية، لحرمة النفس البشرية بعيداً عن أي اعتبار آخر.
فبجانب تقرير القرآن الكريم أن أحدا من الداعين إلى الإسلام وفي
مقدمتهم الرسول نفسه ليس بالذي يكره الناس على الإيمان (لست عليهم
بمُسيطر) (الغاشية:22) كما أنه ليس من حق والد أن يُكره إبنه على
الإيمان إذ نزلت آية (لا إكراه في الدين) للرد على سعي بعض
الأنصار، إلى إكراه أبنائهم على الإسلام، فإن النص القرآني ألزم
الدعاة إلى الإسلام بمراعاة ضوابط ثلاثة في الدعوة: أولها، أن تكون
الدعوة خالصة في سبيل الله، وثانيها، مراعاة دواعي الحكمة والموعظة
الحسنة، وثالثها، مراعاة المجادلة بالتي هي أحسن.
فالقرآن يوجه إلى ضرورة ترويض نفس الداعية، وتوسيع آفاقه بحيث يغلب
عليه طابع التسامح، والقدرة على مراعاة ظروف المخاطبين، وتفهم
واقعهم النفسي، والعقلي، والنظر إلى مهاجمتهم لدعوته، على أنه أمر
طبيعي تماماً، وأن مهمته ليست إفحام الخصم، وإنما هي السعي إلى
تحريره من رواسبه، وإشعاره بأن الهدف هو الوصول إلى الحقيقة، عبر
تفكير هادىء بعيد عن أي تشنج.
وأشار القرآن الكريم إلى مجموعة من الأساسيات التي يتعين أن تتسم
بها أساليب الدعوة إلى الإسلام من بينها:
أـ تحاشي الهجوم السافر، وذلك بالسعي إلى إثارة شك المخالفين
للإسلام في معتقداتهم، وذلك _بتعبير ابن كثير _ "باللف والنشر".
ومن قبيل ذلك (قُل من يَرزُقُكُم مِنَ السمواتِ والأرضِ قُل الله
وإنّا وإيّاكُم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين) (سبأ:24).
وهو أسلوب يرمي إلى تحقيق الحياد الفكري، كخطوة على الطريق إلى
تبني الحقيقة.
ب_ ويدعو القرآن إلى دعوة المخالفين إلى التفكير الهادىء في
الرسالة الإسلامية، والتشاور بعيدا عن الغوغائية الجماعية. ويحظر
على الدعاة المسلمين، مجادلة اليهود والنصارى، إلا بالتي هي أحسن
باستثناء الظالمين منهم. كما يلفت النظر إلى التركيز على القاسم
المشترك لتجلية الحجة، وعدم الإنتقال من الجدال إلى الجلاد إلا لرد
العدوان، مع قصر المقبول من قولهم على ما يثبت أنه منزل وليس
مبدلاً ولا مؤوّلاً.
ج_ ويوجه القرآن إلى أهمية الوضوح بعدم البحث عن أوجه الإلتقاء،
حيث لا ألتقاء بين ملة الكفر وبين الإسلام، وخير نموذج لذلك هو
سورة الكافرون التي أبرزت انعدام أي وجه للإلتقاء بين الشريعة
الإسلامية وبين وثنية قريش.
د_ ويرتبط بقاعدة عدم الإكراه في الدين، مبدأ مهم يتمثل في قصر
مهمة الداعي إلى الإسلام على التبشير والإنذار، وأما أمر الهداية
فموكول إلى الله ليس لأحد قدرة عليه ولا الحق في أن يدعى القيام به.
فالدعاة وفي مقدمتهم الرسول نفسه، ليسوا بمسيطرين على المشركين
وليس عليهم هداهم، وغاية دورهم هي تبليغ رسالة الله إليهم، دون أي
إكراه على الدخول في الدين.
وتأسيساً على هذه المبادىء: عدم الإكراه في الدين وتكريم الله
للإنسان وقصر مهمة الداعي على التبليغ دون الهداية، فإنه إن اقتصر
أمر الآخرين على مجرد الكفر بدون تعدي ذلك إلى نهي الآخرين عن
الدخول في الإسلام ومحاولة فتنة المسلمين، فإن على المسلمين
الإلتزام الصارم بالإقتصار على الدعوة، السابق بيان أسسها فيما
سلف.
ثانياً: حتمية التنوع في أسلوب التعامل مع غير المسلمين: يدور هذا
الضابط القرآني للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين بدوره، حول
مجموعة من المحاور تتعلق بنظرة الإسلام إلى الإنسان كإنسان، وإلى
الكفار بوجه عام، وإلى الإختلاف النوعي بين الكفار بوجه خاص، كأحد
أطراف العلاقة محل البحث.
1_ فبادىء ذي بدء يقرر القرآن الكريم، بصراحة، أمرين:
الأول: المساواة بين البشر، وجعل أساس العلاقة بين الشعوب قائماً
على التعارف والتواصل (يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقناكُم مِن ذكرٍ
وأنثى وجعلناكُم شعُوباً وقَبائلَ لِتعارفوا).
والثاني: هو النظر إلى الكفار، على أنهم بمثابة رصيد مستقبلي
للإسلام.
2_ إلا أن القرآن، ركز على بيان أن وجوب عدم قطع الأمل في تحول
الكفار إلى الإسلام، لا يجب أن يحول دون أخذ المسلمين حذرهم،
ومعاملة الكافرين ككل، في ضوء موقفهم العام من الدعوة الإسلامية،
مع معاملة خاصة للعناصر الفردية، والجماعية منهم، حسب تنوع موقفها
ودرجة عدائها للمسلمين.
وبين الله أن ثمة مخاطبين بالدعوة تنعدم عندهم القابلية للإستجابة
تماما، ولكنهم لا يكتفون بذلك بل يتعدونه إلى القيام بنشاط غايته
النهي عن الدين (وَمنهُم من يستمعُ إليكَ وجعلنا على قلوبهم أكنّةً
أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يَرَوا كُلَّ آيةٍ لا يؤمنوا بها
حتى إذا جاءوكَ يجادلونَكَ يَقُولُ الذين كفروا إن هذا إلاّ
أساطيرُ الأولينَ، وهُم ينهونَ عنه وينئونَ عَنهُ) (الانعام:25،
26).
وبيّن القرآن أن كثيراً من غير المسلمين تنصب إرادتهم على حربه بلا
هوادة، ولا يتسنى الحصول على رضاهم إلا برجوع المسلمين عن الإسلام
(ودَّ كثيرٌ من أهلِ الكتابِ لو يردُّونكُم مِن بعد إيمانكُم
كُفّاراً حَسَداً من عندِ أنفُسهم) (االبقرة: 109 ). والحد الذي
ترضى عنده اليهود عن المسلمين هو اتباع ملتهم، (وَلَن ترضى عَنكَ
اليهودُ ولا النصارى حتّى تتَّبعَ ملتهُم قُل إنَّ هُدى الله هو
الهدى ولئنِ اتبعتَ أهواءهم بعد الذي جاءَكَ من العلمِ ما لكَ من
اللهِ من وليٍ ولا نصير) (البقرة:120). ووصل اليهود إلى حد قتل
الأنبياء (وقتلَهُمُ الأنبياء بغيرِ حق) (ال عمران: 181).
3_ وبين القرآن بجلاء، أن ثمة اختلافا نوعيا، في صفوف غير
المسلمين، يتعين معه معاملتهم بأنماط متباينة:
أـ فبالنسبة لليهود، فإنهم يضمون أصنافا تشكل طرفي نقيض، وإن كان
الغالب عليهم هو العنصر الفاسد. فهم يحتلون في جملتهم، جنبا إلى
جنب، مع المشركين قمة هرم العداء للأمة الإسلامية (لَتَجدنَّ أشدَّ
الناس عَدَاوةً للذينَ آمنوا اليهود والذينَ أشركوا) (المائدة:82).
وتتسم أكثريتهم بصفات، ينبغي في ظلها استبعاد الأمل في انقيادهم
للمسلمين طواعية، منها على سبيل المثال لا الحصر: تحريف كلام الله
عن مواضعه، ومحاولة التشكيك في الإسلام بالدخول فيه ثم الإرتداد
عنه، والتواصي في اجتماعاتهم السرية بحجب أية معلومات بحوزتهم تبين
استقامة المنهج الإسلامي وتقيم الحجة للمسلمين على غيرهم، وجمع
عامتهم بين سوء القصد، والكلام بغير علم، والنفاق والصد عن سبيل
الله، وزعمهم أن النار لن تمسهم، مهما فعلوا إلا أياماً معدودة
تماثل فترة عبادتهم للعجل، هذا إلى جانب طغيان المادة على عقولهم،
وحرصهم الشديد على ماديات الحياة، وتشبع طبعهم بالغش في الكيل
والميزان والتعامل بالربا، وإنكار حرمة أموال المسلمين بالنسبة لهم
بحكم اختلاف الدين، وزعمهم أن الوثنية خير من الإسلام وتحريضهم
الكفار على حرب المسلمين، وهي سمات وصفهم القرآن، من أجلها، بأنهم
"شياطين الإنس". ووصل الغي بهم، وبالنصارى إلى حد ادعاء أنهم أبناء
الله (وقالت اليهودُ والنّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه)
(المائدة:18).
ب _ إلا انه في مقابل الصنف السابق، يوجد نوع من أهل الكتاب، على
النقيض من كل السمات السابقة، يتسم بالقصد في الخصومة، والبعد عن
السعي في الفساد) ولا يرى اختلاف الدين مبرراً لجحد الأمانة مهما
كانت كبيرة.
ج _ وفي الوقت الذي حذر فيه القرآن، من الإفراط في أمل انقياد
اليهود طواعية للمسلمين، فإنه أشار إلى أمل واضح في انقياد النصارى
لاعتبارات السلام الإسلامي وذلك لأنهم، في جملتهم يتسمون بسمات
تحول دون إفراطهم في الخصومة، من بينها: التواضع، وانقياد عناصر من
علمائهم، إلى البحث عن الحق، وتلمس الإنصاف وعدم التركيز على
القتال كأداة للتصدي للدعوة الإسلامية، ومن المنطقي ألا تكون علاقة
المسلمين مع كل هذه الأصناف، وإن شملها مفهوم "أهل الكتاب" معاملة
واحدة.
د_ وبالمثل فإنه مع توضيح القرآن، أن الموقف المرتقب من المشركين،
في جملتهم، هو: العداء السافر للدعوة الإسلامية، وهو موقفهم الثابت
مع كل الرسل (وَقالَ الّذينَ كفروا لرُسُلهِم لَنُخرجنَّكُم من
أرضنا أو لَتَعُودُونَّ في ملّتنا) (ابراهيم:13). فإن القرآن بين
أن درجة عداء الملأ من الكفار، أي السادة والكبراء فيهم، للمسلمين
ودورهم في تأجيج الخصومة، والسعي إلى منع وصول الدعوة إلى أقوامهم،
في ظروف تضمن حرية الإختيار تفوق قدرة العامة من الكفار، بما يتعين
معه ضرورة مراعاة ذلك في ترتيب العلاقة بين المسلمين، وبين ملأ
الكفار من جهة وبين المسلمين وبين عامة الكفار من جهة أخرى.
ه _ واهتم القرآن بالتنبيه على امتداد عضوي للكفار داخل الصف
الإسلامي نفسه، يتمثل في "المنافقين" وهم في حقيقتهم في خندق واحد
مع الكفار، ينبغي الحذر منهم، ومجاهدتهم والغلظة عليهم، ومنع وصول
أسرار المسلمين إلى الكفار عبرهم، أو وقوف الكفار على عورات
المسلمين عن طريقهم.
4_ ضوابط العلاقة في ضور تنوع شركاء الدور غير المسلمين:
وفي ضوء هذه الرؤية، لطبيعة شركاء الدور غير المسلمين، حدد القرآن
الكريم للصفوة الإسلامية، مجموعة من الأساسيات التي يتعين إخضاع
العلاقة بين المسلمين وبين غير المسلمين لها:
أ_ حظر موالاة غير المسلمين: ويتصدر هذه الأساسيات، مبدأ عام يشمل
العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين قاطبة بجميع أصنافهم، ألا وهو:
حظر موالاة غير المسلمين، ولقد ركز القرآن على هذا المبدأ، وأبرزه
بكل جلاء، والأدلة على ذلك كثيرة.
أولها، أن الله جعل اتخاذ الكافرين أولياء من سمات المنافقين، الذي
سبق القول بأنهم في حقيقتهم جزء لا يتجزأ منهم: (بَشر المنافقينَ
بأنَّ لَهُم عَذاباً أليماً، الّذينَ يتخذونَ الكافرينَ أولياء من
دونِ المؤمنينَ أيبتغونَ عِندهم العزّة فإنَّ العزَّة لله جميعاً)
(النساء: 138، 139).
وثانيها، تحذير القرآن من أن اتخاذ أولياء من الكافرين يفتح باب
فتنة مستطيرة، وفساد كبير (والّذينَ كفروا بعضُهُم أولياءُ بعض
إلاّ تفعلوهُ تَكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير). وبين الشارع
بصراحة أن موالاة الكفار، برهان ساطع على استحقاق المساءلة الصارمة
(يأيُها الذينَ آمنوا لا تتَّخِذوا الكافرينَ أولياء مِن دونِ
المؤمنينَ: أتُريدونَ أن تَجعَلوا لله عليكُم سُلطاناً مُّبيناً).
وثالثها: نهى الله عن اتخاذ الآباء والإخوان الكفار أولياء (يا
أيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءَكُم وإخوانَكُم أولياءَ إن
استحبُّوا الكفر على الإيمان) (التوبة: 23). ونهى الله عن إتخاذ
أولياء من أهل الكتاب، وحذر من أن من يفعل ذلك يصير منهم (يا
أيُّها الّذين آمنوا لا تتَّخذوا اليهود والنَّصارى أولياء بعضهم
أولياء بعضٍ ومن يتولهم منكم فإنّه منهُم) (المائدة:51).
ورابعها، أن الله تعالى بين أن علاقة الولاء بالنسبة للمسلم يجب أن
تكون قاصرة تماما، على الولاء لله، ولرسوله، وللذين آمنوا، ويجب أن
تتأسس على حب الله، وعلى التواضع للمؤمنين، والتعزز على الكافرين،
وألا يردهم عن إقامة أمر الله لومة لائم (إنّما وليكُم الله
ورَسُولُهُ والّذين آمنُوا الّذينَ يُقيمونَ الصّلاةَ ويؤتُونَ
الزّكاةَ وهُم راكعونَ، ومَن يتولَّ الله ورَسُولَهُ والّذينَ
آمنُوا فإنَّ حزبَ الله هُمُ الغالبون) (المائدة:55، 65).
وخامسها، أن القرآن جمع بين أهل الكتاب والكفار معا، في تحذير
المؤمنين من اتخاذهم أولياء، وبين أن الحد الأدنى الذي لا يقبل من
المؤمن أقل منه في علاقته بالكفار، أياً كانت الملابسات، هو: نفي
الولاء القلبي تماما، مع السماح بقدر من افتعال الولاء باللسان،
حالة الخشية على النفس (لا يتَخِذ المؤمنونَ الكافرينَ أولياء من
دُونِ المؤمنين، ومَن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتَّقوا
مِنهُم تقاة ويُحذركُم الله نفسه) (ال عمران:28). وهو الحد الأدنى
المتعلق بحالة يعيش مسلمون فيها في أوضاع ليس الإسلام قويا في
ظلها.
ب_ أما المبدأ الثاني الواجب مراعاته في ظل مبدأ نفي الولاء للكفار
بوجه عام فهو: أن من المسموح به شرعا، بل من المندوب أن يراعي ان
يكون المبدأ الحاكم لعلاقة المسلمين مع الكفار غير المحاربين، وغير
الساعين في الكيد للإسلام وأهله، هو معاملتهم بالبر والعدل (لا
ينهاكُم اللهُ عن الّذينَ لَم يُقاتلوكُم في الدين ولَم يُخرجوكُم
من دياركُم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يجبُّ المقسطين)
(الممتحنة:8). أي أن الشارع ندب إلى الإحسان إلى غير المقاتلين من
الكفار، كنسائهم وأطفالهم والضعفاء منهم، وأمر بالعدل فيهم
انطلاقاً من مبدأ عام هو: حب الله للعادلين في حكمهم في أهلهم
وفيمن ولوا عليهم.
ج_ أما المبدأ العام الثالث، الحاكم للعلاقة بين المسلم وغير
المسلم، فهو: حتمية سعي المسلمين للإمساك بزمام القدرة على دعوة
المخالفين إلى التوحيد، وإلى إقامة التوحيد في أنفسهم، على نحو
يفضى إلى شهادة المخالف للمسلمين في الدين، لهم بأنهم موحدون
بمعنى:إقامة نموذج قاطع الدلالة لسلوكيات التوحيد (قُل يا أَهلَ
الكتابِ تَعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكُم ألا نعبد إلاّ اللهَ
ولا نشركَ به شيئاً ولا يتّخذَ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله
فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مُسلمُون) (آل عمران:64). ويقوم
هذا المبدأ، على محاور يستحيل تحقيق مبدأ "عدم الاكراه في الدين"
بدونها، تشمل:
اولا، حتمية السعي إلى إبعاد ما يوقع الإنسان، في هاوية استعباد
غيره (ولا يَتّخذَ بَعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله) (آل
عمران:64). وحماية المستضعفين (وما لَكُم لا تُقاتلونَ في سبيلِ
اللهِ والمستضعفين من الرجالِ والنساءِ والولدانِ الذينَ يقولونَ
ربَّنا أخرجنا من هذهِ القريةِ الظّالمِ أهلها واجعل لنا من
لَدُنكَ ولياً واجعل لنا من لدُنكَ نصيرا) (النساء:75).
وثالثا، إعلان الشارع رفضه لأي رضوخ مخالف لمبدأ: نفي الولاء
للكافرين ما دامت هناك أية حيلة أو سبيل لعدم الوقوع في ذلك (إنَّ
الذينَ توفاهُم الملائكةُ ظالمي أنفسِهِم قالوا فيما كُنتم قالوا
كُنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرضُ اللهِ واسعةً فتهاجروا
فيها) (النساء:97).
ومعنى ذلك أن العلاقة بين المسلمين، وغيرهم، يتعين أن تتأسس على أن
يكون للمسلمين اليد الطولى في الإمساك بزمام المبادرة في ضبط هذه
العلاقة، على نحو يتمشى مع جملة الضوابط المنصوص عليها في القرآن
والسنة، الحاكمة لهذه العلاقة بما يحقق هدفين في آن واحد: عدم
إكراه الغير على الدخول في الإسلام كالتزام إسلامي ذاتي، ومنع
الأخرين طوعا وكرها عن فتنة المؤمنين في دينهم.
ويبين من الشكل الأول أن الوظيفة الأساسية للأمة الإسلامية، هي:
توظيف شتى الوسائل والقدرات والأوضاع في المجتمع، بحيث يحتل قمة
سلم غايات المجتمع، السعي إلى اقامة مشروعية إسلامية عليا، قوامها
أن تكون كلمة الله هي العليا، مؤسسة على العدل المستمد من التوحيد،
ويستلزم ذلك تحقيق مبدأين: التضامن في تنفيذ ما أمر الله به،
والتضامن في منع ما نهى الله عنه، وهما يستلزمان إعداد قوة إسلامية
ذات مواصفات خاصة تمكن من القدرة على المبادرة في ضوء حقيقة عموم
الرسالة الإسلامية، التي يشمل عالم التكليف المخاطب بها، البشرية
جمعاء.
أما الشكل الثاني، فيوضح أن تحقيق جعل كلمة الله هي العليا، ومنع
فتنة المؤمنين في دينهم، أمر لا يتسنى تحقيقه إلا بحيازة قوة
مانعة، وبالاستعداد الدائم للجهاد. ذلك أنه إذا كان العدل في
الإسلام قيمة عليا، فإن ذلك يستتبع بالضرورة حتمية أن تكون الدولة
الإسلامية في مركز القوى، لأن الضعيف لا يستطيع إقامة ميزان العدل،
ولا يتأتى له أن يوصف بالسماحة المجسدة لمبدأ عدم الإكراه في
الدين، بالاضافة إلى أن بالإسلام مبادىء يتعين الدعوة لها، ويستحيل
ألا يكون لها خصوم. ولا يمكن أن تكون الدولة الاسلامية حرة في
اختيار نظامها السياسي القادر على تحقيق هذه المتطلبات، ما لم يكن
مركزها الدولي قويا. ذلك أن المركز الدولي يضغط على النظام
الاقتصادي، فيضغط على النظام الاجتماعي، فيضغط بدوره على حرية اداء
الشعائر الدينية، وبذا ينفتح باب فتنة الناس في دينهم ومعنى ذلك،
ان العلاقة بين المسلمين وغيرهم لا تقبل غير بديلين: اما أن تكون
علاقة مبنية على العزة الاسلامية، أو التردي في علاقة فتنة.
وتستلزم علاقة العزة الإسلامية تحقق أمرين:
أولهما، حيازة المسلمين لقوة تمكنهم من ترتيب العلاقة بينهم وبين
غير المسلمين، وفق قواعد مستقاة من القانون الإسلامي الداخلي، وليس
بقواعد اتفاقية دولية، وذلك فيما يتعلق بما ورد في شأنه نص بالقرآن
والسنة، بما يضمن تنفيذ هذه القواعد، في قمة عنفوان قوة الأمة
الإسلامية، حتى في مواجهة أضعف الأمم غير الإسلامية.
والثاني: استعمال تلك القوة وفق ضوابط إسلامية خاصة: ولقد عنى
القرآن عناية بالغة توضيح نوعية القوة الواجب إعدادها. والعناصر
المأذون في مجابهتها بالقوة العسكرية، على سبيل الحصر وقواعد
الإشتباك المسلح بين المسلمين وغير المسلمين، والحد الأدنى الذي
يتحتم عنده وقف القتال، وقواعد ترتيب العلاقة فيما بعد الحرب.
ثالثا: المرتكزات القرآنية للجهاد الإسلامي، لخص أحد الباحثين
الإسلاميين، فلسفة الجهاد الإسلامي، كإطار للعلاقة بين المسلمين
وغير المسلمين بقوله: "إنه تحرك يدور نظرياً وتطبيقيا، حول: مبدأ
التوحيد من أجل الجهاد، والجهاد من أجل التوحيد" وهو مبدأ تتفرع
عنه كافة الضوابط المتعلقة بالقوة إعداداً، واستخداماً، في العلاقة
بين المسلمين، وغير المسلمين ويحكم الشق الأول من هذه القاعدة
(التوحيد من أجل الجهاد)، عملية إعداد القوة الإسلامية. في حين
يضبط الشق الثاني منها: (الجهاد من أجل التوحيد)، الجانب المتعلق
باستخدامها.
1_ ضوابط إعداد القوة الإسلامية: حدد القرآن الكريم، نوعية القوة
المبتغى حيازة المسلمين لها، وبين ضوابط إنشائها. ومن أهم
الإرشادات القرآنية في هذا المجال، الحرص على صبغ القوة الإسلامية
بقيمة التوحيد، والتعبئة الشاملة، والتركيز على النوع وليس الكم،
والتحصين ضد أفتى: الغرور بالقوة، والوهن حالة التعرض لهزائم.
أ_ صبغ القوة بقيمة التوحيد: ركز القرآن، من حيث الحرص على صبغ
القوة الإسلامية بقيمة التوحيد، فترة طويلة على إعداد، وبناء
المسلم القدوة في السلم والحرب، بتحصينه بعقيدة التوحيد، التي تغرس
فيه الإهتمام المتوازن بالمادة والروح، وتربي فيه قيم الولاء
والثبات، وتجعل من ضميره رقيباً عليه، يأمره بالمعروف وينهاه عن
المنكر، وترسي الأساس للألفة والمحبة والأخوة في الدين، في المجتمع
الإسلامي.
ذلك أن الغرض الأول من إعداد القوة الإسلامية، هو تلبية حاجة
النظام الإسلامي للعدل المنبثق من قيمة التوحيد، والتي تتأسس حتما
على تحرير الإنسان من عبادة غير الله، وإنشاء وازع ضمير يخشى
المخالفة، إيمانا بحتمية الحساب، والأخذ بالأسباب، والترهيب من
كافة أسباب التردد المفسدة للعزم، والتوكل على الله، والرضا
بالنتائج التي تقع أياً كانت، ما دام قد تم الأخذ بالأسباب، مع
العزم والتوكل على الله.
وهكذا يركز القرآن، على جعل محور بناء المجاهد المسلم، أن يصير
بالتوحيد حرا من العبودية لكل ما سوى الله، كمنطلق لدعوته إلى حرية
تفضي إلى التوحيد الخالص.
--------------------------
المصدر: الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام