أ _ الوعي الاستعلائي: إنّ من عوامل تخلّف المسلمين وعطالتهم
الحضارية ما يستشعره الفرد المسلم في نفسه من إحساس بالدّونية
والضآلة بحكم المغلوبية الحضارية التي هو فيها، فذلك الشعور من
شأنه إرخاء إرادته وتثبيط عزمه، ودفعه إلى الاستكانة والقعود،
وحينما يصبح ذلك شعوراً جماعياً فإنّه يؤدّي إلى قعود جماعي،
وانكفاء دون الانطلاق والمبادرة في مجال العمل البنّاء. ولإدراك
هذا المعنى إدراكاً واعياً من قبل أعداء الأمة الإسلامية، فإنهم ما
فتئوا منذ زمن يعملون بأساليب متنوّعة على بثّ الشعور الانهزامي في
نفوس المسلمين وترسيخه فيها، وكان ذلك محوراً أساسياً من محاور
الغزو الثقافي، فمن نظرية رينان Renan التي تتّهم العقلية الشرقية
عموماً والإسلامية خصوصاً بالنقص الطبيعي بالنسبة للعقلية
الأوربية، إلى حملة المستشرقين بادّعاء أنّ التراث الإسلامي ليس
إلاّ إعادة خالية من الابتكار للتّراث اليوناني والمسيحي القديم،
إلى الحملات الإعلامية الراهنة التي تظهر أنّ كلّ نقص وشرّ إنما هو
من قبل المسلمين، وأنّ كلّ خير وكمال إنما هو من قبل الغرب
وحضاراته. إنّها أساليب تلتقي كلّها عند قتل العزّة في نفس المسلم،
وتعطيل انطلاقه بإركاسه في الانهزامية واستنقاص الذات.
وتفادي هذه الحالة من الانهزامية واستنقاص الذات لايكون إلا
بمعالجة النّفوس ببثّ روح العزّة والاستعلاء فيها، وذلك بإشعار
الفرد المسلم بطرق مختلفة ومتنوعة برفعة ذاته وعلّو شأنه باعتباره
مسلماً، وذلك في الحدود التي لا ينقلب فيها الشعور بالاستعلاء إلى
كِبر واستعظام مرضي للنفس يُستنقص فيه الآخرون ويُستحقرون، وإنما
في حدود الاعتزاز بالنفس والشعور بقيمة الذّات، والتخلّص من مركّب
النّقص والانهزامية.
وقد يبدو أنّ معالجة المسلم على هذا النّحو في الواقع الذي يعيشه
اليوم أمر بعيد المنال؛ إذ هو يعيش عملياً واقع النقص ويتشرّب
أنفاسه صباح مساء، فمن مظاهر التخلّف الذي عليه المسلمون في
الإنجاز المادّي بأنواعه مما يجعلهم عالة على عالم الغرب، إلى
مظاهر الإذلال التي يتعرّض لها العالم الإسلامي في كل شبر منه على
يد قوى الاستكبار، إلى حملات الدّعاية المتنوعة ضدّ المسلمين في
أبواق الصّحافة، ومنابر الثقافة الغازية، فكيف إذن يمكن مع هذه
الحال انتشال المسلم من هذه الهاوية النفسية ليحقن بأمصال العزّة،
وتنتعش نفسه بدبيب معاني الاستعلاء فيها؟
إن ذلك أمر ممكن من خلال حملة دعوية تتّجه إلى عامّة أفراد
المسلمين على مختلف مستوياتهم من خلال برامج التربية، وما هو مُتاح
من وسائل الإعلام، ومن خلال سبل الدّعوة العامّة التي تستعمل فيها
اليوم أساليب تجعلها واسعة الانتشار، عميقة الأثر في القطاع العريض
من الناس، نذكر منها خصوصاً الشرائط السّمعية والبصرية فقد أضحت
واسعة الانتشار ميسورة التناول والتداول، ذات تأثير بالغ في
الخاصّة والعامّة. ولا تهمل هذه الحملة الدّعوية أيضاً ما هو أرفع
وأعمق من طرائق البحث العلمي المؤيّد بالتحليل والاستدلال فإنّ لها
تأثيراً في قطاع غير يسير من المسلمين الذين يستجيبون لنشريات
الخطاب العلمي العميق أكثر مما يستجيبون لغيرها. ومع اختلاف وسائل
هذه الدّعوة فإنها تلتقي جميعاً عند بثّ العزّة والاستعلاء في نفس
المسلم، وذلك من خلال توعيته بجملة من المقدّرات التي يتوفّر
عليها، والتي من شأنها أن تشعر من يعيشها بوعي بالعزّة والاستعلاء،
فيكون إذن الوعي بها مكوّناً لوعي استعلائي، ولعلّ من أهمّ روافد
ذلك الوعي الملتقية عنده والمكوّنة له ما يلي:
أوّلا: الوعي الإيماني:
وذلك بأن يبصّر المسلم بأنّ إيمانه بالإسلام وانتماءه إلى أمّته هو
مبعث عزّة واستعلاء، وذلك بالنظر إلى ما ينطوي عليه هذا الإيمان من
الحقّ المطلق الذي لا يدانيه حقّ في جميع فروعه وشعبه، وبالنظر إلى
ما يتأسّس عليه من توحيد لله تعالى الذي يتحرّر به المسلم من
عبودية كلّ ما سواه، كما أنّه يتحرّر به من أن يخضع لرأي بشر مثله
يحكّمه في حياته، وآراء البشر حبالى بالنقائص والنقائض، فذلك كلّه
من شأنه أن يشيع في النفس الشعور بالكرامة والعزّة، إذ الإنسان
يفخر ويزهو بعلوّ مصدره في الاهتداء، وقوّة ملاذه في الاحتماء،
وكفى المؤمن بالله هادياً وحامياً، فهو مصدر فخره وزهوه.
إن هذه المعاني حينما تتشرّبها النفوس في حركة دعوية ناجحة فإنّ من
شأنها أن تحدث في نفوس المسلمين اليوم انقلاباً من استشعار الهوان
والدونية إلى استشعار العزّة والاستعلاء، وذلك ما حدث في صدر
الدّعوة حينما انقلب حال المستضعفين في مكة بما اُشربوه من إيمان
من استشعار للهوان إزاء الأسياد من قريش إلى استشعار للقوّة
والاستعلاء والشموخ على أهل الكفر كافّة. وذلك هو أيضاً ما جاء في
البيان القرآني في قوله تعالى: (وَلا تَهِنُوا ولا تَحزَنُوا
وأنتُمُ الأعلونَ إن كُنتُم مُّؤمنينَ) (آل عمران/ 139) فالإيمان
يثمر في النّفس الاستعلاء والعزّة.
ثانياً الوعي الحضاري:
وذلك بأن يبصّر المسلم بأن الأمّة التي ينتمي إليها هي أمّة ساهمت
في البناء الحضاري للإنسانية بقسط وافر من شأنه أن يكون سبباً
للاعتزاز والفخر، وهي أمّة تحمل من القدرة في كلّ زمن ما تستطيع به
أن تساهم في التحضّر الإنساني باستمرار، وإن تعطّل عطاؤها في بعض
الأزمان فإنما ذلك لظروف عارضة ما إن تنقضي حتى تعود إلى العطاء،
وذلك لأنّها تتوفّر في بنائها الدّيني والثقافي على مقوّمات أساسية
للبناء الحضاري، وهي مقوّمات ثابتة إذا ما استنهضت فإنها تثمر
الحضارة في كل حين.
يمكن إحداث هذا الوعي الحضاري من خلال المقارنة بين الحضارة
الإسلامية وبين الحضارات الأخرى بما فيها الحضارة القائمة الآن،
وإبراز المزايا التي كانت عليها الحضارة الإسلامية بإزاء العيوب
والنقائص التي عليها الحضارة الرّاهنة خاصّة فيما يتعلق بالبعد
الإنساني الرّوحي الذي أولته الحضارة الإسلامية أهمية بالغة، فكان
فيها محقّقاً للقدر الكبير من الأمن والأمان في النفس والمجتمع،
بينما أهملته الحضارة الراهنة فكان ما نشهده اليوم من الخواء
الروحي الذي أثمر ثماراً مرّة من الحيرة والقلق واليأس في النفوس،
ومن التسلط والهيمنة والاستبداد والعنف في المجتمع البشري كما تشهد
به حركات الاستعمار القديم والجديد.
ولا يفوت أن نشير إلى أنّ إشراب النفوس لهذه المعاني ينبغي أن يكون
بحكمة تُتفادى فيها أثار سلبية قد تتمثّل في حصول ضرب من الانتماء
إلى الماضي انتماء مرضياً يكشف عن مجرّد هروب نفسي إليه كتعويض عن
دونية الحاضر إزاء الحضارة القائمة، وهو ما نراه حاصلاً عند الكثير
من المسلمين اليوم.
ب _ الوعي الخلافي: إن من دواعي قعود الإنسان، وقصوره عن العمل
التعميري، هو عدم وعيه بمهمّته في الحياة وغايته من الوجود، فغياب
ذلك الوعي يجعله تائهاً لا يمضي في طريق بيّن يثمر فيه ما يؤدّي
إلى غاية، ويكتفي إذن بأقل قدر يكفيه لحفظ الوجود، ويسلك في ذلك
أيسر طريق ممكن، وإذا كان الإسلام قد رسم للإنسان غاية واضحة
لحياته، وكلّفه بمهمّة بيّنة يؤدّيها أثناء وجوده، وهي مهمّة
الخلافة في الأرض، فإنّ العامّة من المسلمين اليوم لا يستقرّ في
نفوسهم تصوّر واعٍ لهذه المهمّة، بل هم بين جاهل بها أصلاً، وبين
مختلط عليه شأنها، فلا يعيها الوعي الصحيح، وقلّ منهم من يتصوّرها
على حقيقتها، ويؤمن بها كما هي مطلوبة منه في أوامر الدّين. ولو
افترضت سؤالاً يُلقى على أفراد المسلمين يطلب فيه تحديد غايتهم في
الحياة ومهمتهم فيها لكانت الأجوبة مصدّاقاً لهذا التقرير.
ولمّا كان واقع العموم من المسلمين على هذا النّحو من غيبة الوعي
بغاية الحياة فإنّ سبباً مهمّاً من أسباب الاندفاع إلى العمل
البنّاء قد غاب عن نفوسهم، فإذا هم على نحو ما يُرى من فتور في
المبادرة، وقعود عن النهوض لتحقيق الغاية الخلافية التي كلّفوا بها
بتحقيق التعمير في الأرض بفصوله المختلفة، وغفلة عن أن يدرجوا ما
يبذل من بعض الجهود في إطار تلك الغاية، فإذا هو شتات لا يربطه
رابط.
------------------------------
المصدر : عوامل الشهود الحضاري