موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

التسعير
محمد علي التسخيري



بالرغم من ان الموضوع المطلوب بحثه هو مسألة تحديد أرباح التجار، ولكننا نقصر البحث هنا على موضوع تحديد الأسعار لأن الموضوع الأول واسع الأبعاد، يشمل مساحات مختلفة، كتحديد الأجور والرواتب، وتحديد موارد الاستثمار الصناعي والزراعي والتجاري، وتحديد الأسعار، وتحديد الدخل بشكل عام. ومن الطبيعي عدم إمكان البحث في كل هذه الأمور، إلا أن يقال بوحدة الملاك فيها جميعاً، ويتم التركيز على هذا الملاك ليعرف الجواب في الجميع. ومن هنا فقد ركزنا على موضوع تحديد الأسعار للأمور التالية:
أولاً: لتحديد محل البحث.
ثانياً: لأنه أكثر من غيره محل الخلاف والبحث من قبل علمائنا.
ثالثاً: لأن الموقف فيه، إذا عرف، عرفت أغلب المواقف في الموارد الأخرى.
وعلى أي حال، فإن الأصل في البين هو حرية البائعين والمشترين في التعامل بأي سعر كان. أما التحديد فيجب أن يتم طبق حركة استثنائية، وعلى أساس من سلطة حكومية ولائية، أو قواعد ثانوية تنفي الضرر والحرج وغيرها. وسنلاحظ اختلاف المواقف فيما يلي:
ـ أقوال العلماء:
ذكر مؤلف رسالة (التسعير) بعض هذه الأقوال وأكد أن كلماتهم مختلفة في ذلك، والأكثر على المنع. بل في كتاب (مفتاح الكرامة): ((إجماعاً وأخباراً متواترة، كما في السرائر، وبلا خلاف كما في المبسوط، وعندنا كما في التذكرة للعلامة)).
وجاء في نهاية الشيخ الطوسي: ((ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى، ولا يمكنه من حبسه أكثر من ذلك)).
ـ وفي (المبسوط) للشيخ الطوسي: (لا يجوز للإمام ولا النائب عنه أن يسعر على أهل الأسواق متاعهم من الطعام وغيره، سواء كان في حالة الغلاء أو في حال الرخص، بلا خلاف ... فإذا ثبت ذلك فإذا خالف انسان من أهل السوق بزيادة سعر أو نقصانه، فلا اعتراض لأحد عليه)).
ـ وفي كتاب (الغنية) لابن زهرة: ((ولا يجوز إكراه الناس على سعر مخصوص)).
ـ وفي كتاب (الشرائع): ((ولا يسعر عليه، وقيل: يسعر. والأول أظهر)).
ـ وفي (المختصر) للمحقق الحلي: ((وهل يسعر عليه؟ الأصح، لا)).
ـ وفي (المقنعة): ((وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة، ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها)).
ـ وفي (الدروس) للشهيد الأول: ((ولا يسعر عليه إلا مع التشدد)).
ـ وفي (مفتاح الكرامة) وفي (الوسيلة) و(المختلف) و(الايضاح) و(الدروس) و(اللمعة) و(المختصر) و(التنقيح): ((أنه يسعر عليه إن أجحف في الثمن لما فيه من الإضرار المنفي)).
ـ وقال العلامة في (المنتهى): ((على الإمام أن يجبر المحتكرين على البيع، وليس له أن يجبرهم على التسعير، بل يتركهم يبيعون كيف شاؤوا)). وبه قال أكثر علمائنا، وهو مذهب الشافعي. وقال المفيد وسلار (ره): ((للإمام أن يسعر عليهم فيسعر بسعر البلد، وبه قال مالك)).
وجاء في موسوعة الفقه الاسلامي: ((نص المالكية على أن مَن اشترى الطعام من الأسواق واحتكر وأضرّ بالناس، فإن الناس يشتركون فيه بالثمن الذي اشتراه به)).
وجاء في الموسوعة نفسها: ((صرّح الحنابلة بأن لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل، عند ضرورة الناس إليه، مثل مَن عنده طعام يحتاج إليه الناس في مخمصة، فإن مَن اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل، ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره أخذه منه بقيمة المثل)).
وهكذا نجد العلماء بين موافق ومخالف في هذا الموضوع.
ـ الأدلة الشرعية:
أما النافون للجواز فقد استندوا إلى أدلة، أهمها:
أولاً: كل الأدلة العامة تدعو إلى احترام الملكية الخاصة، والسلطنة على المال، وعدم التدخل في ذلك، وأن الأصل هو تحريم نقل مال الغير عنه بغير إذنه، وأن البيع معاملة وقعت عن تراض، فما المجوز للتدخل؟ وأمثال ذلك.
ثانياً: الروايات الخاصة الواردة في هذا الموضوع، منها:
1 ـ ما رواه محمد بن يعقوب بسنده عن حذيفة بن منصور، عن الإمام الصادق (ع) قال: ((نفذ الطعام على عهد رسول الله (ص) فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول الله، قد نفذ الطعام ولم يبق منه شيء إلا عند فلان فمره يبيعه، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا فلان، إن المسلمين ذكروا أن الطعام قد نفذ إلا شيء عندك، فأخرجه وبعه كيف شئت ولا تحبسه)).
ورواه الشيخ الطوسي بسنده، إلا أنه قال: ((فقد)) مكان ((نفذ)). قال (صاحب الرسالة) في سنده: إنه لا كلام في رجاله إلا في حذيفة، ومحمد بن سنان. والظاهر أن الأمر فيهما سهل.
2 ـ ما رواه الشيخ بسنده عن الحسين بن عبيدالله بن حمزة، عن أبيه، عن جده، عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: ((رفع الحديث إلى رسول الله (ص) أنه مر بالمحتكرين فأمر بحركتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها. فقيل لرسول الله (ص): لو قوّمت عليهم. فغضب رسول الله (ص) حتى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوم عليهم! إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)).
ورواه الصدوق أيضاً في (مَن لا يحضره الفقيه) مرسلاً. وفي (التوحيد) بسند موثوق به.
3 ـ ما رواه الصدوق في (الفقيه) قال: ((قيل للنبي (ص) لو سعرت لنا سعراً فإن الأسعار تزيد، وتنقص)). فقال (ص): ((ما كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إليّ فيها شيء، فدعوا عباد الله يأكل بعضهم من بعض، وإذا استنصحتم فانصحوا)). ورواه في (التوحيد) أيضاً.
4 ـ وفي سنن أبي داود، بسنده عن أبي هريرة، أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله سعر، فقال: ((بل أدعوا)). ثم جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر، فقال: ((بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة)).
5 ـ وفيه أيضاً، بسنده عن أنس بن مالك قال: ((قال الناس: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا: فقال رسول الله: إن الله هو المسعر الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال)) ورواه ابن ماجة أيضاً وأحمد، في المسند.
6 ـ وهناك روايات أخرى رواها ابن ماجة، وعبدالرزاق في (المصنف) وروى بعضها أبو يوسف في (الخراج)، والشوكاني في (نيل الأوطار) وغيرهم.
وأما المجيزون للتسعير فهم يستندون إلى أدلة، منها:
أولاً: مسألة الولاية التي يملكها الحاكم الشرعي على الأوضاع العامة لتحقيق العدالة الاجتماعية، فله حق التدخل لتعديل الأسعار، كما أنه له حق التدخل في مختلف المجالات المباحة. ومن الطبيعي أن الحكومة والقدرة على الادارة العامة تتطلبان، بلا ريب، هذه الولاية لملء منطقة الفراغ التنظيمي.
أما الأساس الذي يقوم عليه تدخله في الأمور، فقد يكون هو الضرورة، وقد لا تكون هناك ضرورة، وإنما تقتضي المصلحة العامة، أي تقتضي مسألة السير الاجتماعي المتوازن، أن يتدخل في هذه المنطقة. ومن الواضح أن التسعير لا يعني الإجبار على البيع إذا كان هناك ما يتطلب ذلك. ويقوم أصل الولاية هذا على أساس من أمر الشريعة بإطاعة ولي الأمر فيما رآه.
ثانياً: وجود الضرر، وهو منفي في الاسلام، والمقصود به هنا أن المنع من التسعير، أو عدم التسعير، يؤدي إلى ضرر العامة وهم محتاجون إلى المتاع. ويتأكد هذا الموضوع إذا قلنا إن الضرر يفسر بسوء الحال، فيشمل الضرر الاجتماعي العام.
ثالثاً: كما استند في ذلك إلى سد الذريعة إلى الحرام، والمصالح المرسلة، باعتبارها أصولاً قائمة برأسها. ونحن لا نقول بذلك.
وعلى ضوء هذه الأدلة التي نقلناها، وما نفهمه من طبيعة الاسلام والنظام الاداري فيه، نستطيع طرح النقاط التالية التي تساهم في تفهم الموقف الصحيح:
أولاً: بالرغم من أن الاسلام اعترف تماماً بالملكية الخاصة، والحرية الاقتصادية في مجالات ترشيد الثروة، والتملك، والاستهلاك، وأعطاها دورها الخاص الأصيل في الحياة الاقتصادية تماماً، إلى جانب الاعتراف بالملكية العامة والمصالح العامة ولكنه أكد من جهة بعض المفاهيم التي تبعد هذا الاعتراف عن صورته الرأسمالية الجشعة. وتلك من قبيل مفهوم الخلافة الإلهية على المال، وأن الإنسان إنما خوّل التصرف في المال بما يريده المالك الحقيقي له: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) الحديد/ 7، (وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم) الأنعام/ 94.
وإن الأموال إنما أعطيت، ونظم لها نظام ملكية معين، باعتبار مالها من وظيفة اجتماعية عامة، لا وهي قيام المجتمع بها، ولذا يمنع السفهاء من التلاعب بها واستغلال ملكيتهم الخاصة في هذا الصدد: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً) النساء/ 5.
وربما جاءت نصوص تذكر حقيقة المالكية الإلهية، والهدف منها، ثم تعقب على ذلك بأحكام تحدد فيها هذه الملكية، مما يوضح لنا أن الملكية في الاسلام ليست حقاً مطلقاً، وإنما هي حق تستتبعه مسؤولية. وعلى ضوء هذا، فإذا أريد استغلال الملكية لصالح جشع المالك واستفادته من حاجة الناس إليها للتضييق عليهم والوصول إلى الربح المضاعف، فإن ذلك مما يتنافى وطبيعة المسؤولية التي أشرنا إليها.
والذي يشخص الضرورة الاجتماعية، أو المصلحة الاجتماعية العليا، هو ولي الأمر العادل، عبر تشاوره مع ذوي الخبرة. وعبر هذا المعنى يملك ولي الأمر القدرة على توجيه الاقتصاد السياسي المطبق الوجهة التي يريدها الاسلام، فيمنع من انحسار الأموال بيد طبقة خاصة (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) الحشر/ 7، ويحقق للتداول طبيعته الاقتصادية المنسجمة مع المسؤولية الاجتماعية، مبعداً إياه عن دوره الاستثنائي الرأسمالي المنحرف والمؤدي إلى تضخم القيمة وإهدار الطاقات، ويوفر التوازن الاجتماعي المطلوب. لذا فعملية التسعير، إذا نظر إليها في هذا الإطار، كانت عملية طبيعية بلا ريب.
ثانياً: إذا أردنا أن نوضح موقف الاسلام من حرية قوانين العرض والطلب في السوق الاسلامية، نستطيع الوصول إلى نتيجة ملخصها:
1 ـ أن هذه القوانين لا محل لها في مرحلة ما قبل الإنتاج البشري، أي مرحلة الطبيعة الخام. فالمؤثر في هذه المرحلة هو العمل على الطبيعة وبدونه لا يحصل أي اختصاص أو توزيع.
2 ـ أما في مرحلة ما بعد الإنتاج البشري فإن هذه القوانين تعمل عملها، ولكن في أطر معينة يرضاها الاسلام للسوق الاسلامية السليمة، والتي تذكرها لنا النصوص الاسلامية الكثيرة. إذ لا يوجد في هذه السوق (احتكار) ولا (اجحاف) ولا (غش) ولا تبان لرفع القيم (حتى التباني الرسمي)، ولا ندرة مصطنعة. كما يتوفر فيها ما يحتاجه المجتمع، حيث يجب كفاية توفير ذلك، وهكذا نصل إلى منع أي معاملة محرمة، وسيادة روح التعاون والخدمة، وغير ذلك من أحكام السوق الاسلامية السليمة. وفي مثل هذه الحالة الطبيعية لا معنى لتدخل الدولة في عملية العرض والطلب، حيث الأصل حريتهما وربما يحمل على ذلك ما جاء في الأخبار: ((إنما السعر إلى الله يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء)) أو ((إن غلاء السعر ورخصه بيد الله)) وأمثال ذلك. وإذا رأيناه (ص) يغضب ممن طلب إليه التدخل فهو ـ الظاهر ـ لأنه طلب إليه التدخل في حالة عادية. وقد روى عبدالرزاق في (المصنف) بسنده عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل للنبي (ص): سعّر لنا الطعام، فقال: ((إن غلاء السعر ورخصه بيد الله وأني أريد أن ألقى الله لا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في مال ولا دم)). فليس غلاء السعر، أو كون الطعام غير مسعّر، وأمثال ذلك سبباً للتدخل. أما إذا حصل اجحاف في البين، أو احتكار، وما إلى ذلك مما يتنافى والشكل الاسلامي للسوق، فإن لولي الأمر التدخل لإرجاع الحالة إلى الوضع الطبيعي بلا ريب. قال الصدوق في كتاب (التوحيد): ((فما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها فإن ذلك من الله ـ عزوجل ـ ويجب الرضا بذلك والتسليم له. وما كان من الغلاء والرخص بما يؤخذ الناس به لغير الأشياء وكثرتها، من غير رضى منهم به، أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فيغلو الطعام لذلك من المسعّر والمعتدي بشراء طعام المصر كله، كما فعله حكيم بن حزام، كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي (ص) فقال: يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر)).
وقد روي عن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أنه كتب إلى مالك الأشتر، عامله على مصر، يقول: ((فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لا تجحف الفريقين من البائع والمبتاع)).
ويقول الشهيد الثاني: ((ولا يجوز التسعير في الرخص مع عدم الحاجة قطعاً، والأقوى أنه مع الإجحاف حيث يؤمر به، لا يسعر عليه أيضاً، بل يؤمر بالنزول عن المجحف، وإن كان بمعنى التسعير، إلا أنه لا ينحصر في قدر خاص)).
والظاهر ان النصوص تؤكد حرية التسعير، ما لم يتطلب الموقف ذلك، وحتى لو أمكن تلافي الحاجة بالأمر بتقليل السعر، دون تحديد، لتعين ذلك، فهي حالة استثنائية لا يصار إليها إلا عند الضرورة أو اقتضاء المصلحة العامة الملزمة لذلك. وإننا، إذا تأملنا الخلاف بين العلماء ونصوصهم واستدلالاتهم، وجدنا أن هذا يشير إلى الحالة الطبيعية فيحرّم، وذاك يشير إلى الحالة الثانوية فيجيز فهم في الواقع متفقون كما يظهر.
إذن يتخلص من ملاحظة الأدلة والنصوص والفتاوى ما يلي:
1 ـ إن الأسعار متروكة للمالكين يسيرون بها حسب العرض والطلب، وفي الجو الطبيعي لهما، دونما صيرورة إلى ندرة كاذبة واحتكار مذموم.
2 ـ في الحالات التي تتطلب الضرورة أو المصلحة الاجتماعية تدخل ولي الأمر، فإن له، بمقتضى ولايته، التدخل. والله أعلم.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد