موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

مركز الفرد في الدولة الإسلامية من حق الإحياء
محمود المظفر



حينما وضع الإسلام أحكامه وبخاصة منها الأحكام المتصلة بعلاقات الأفراد مع المجتمعات وهذه مع بعضها، وضعها باعتبارها قائمة في الأصل على وجود كيان دولي متكامل تتوافر فيه عناصر الدولة المختلفة، لذلك فلا غرابة لو جاءت بعض أحكامه مبنية على التفرقة بين الأجانب والمواطنين، أو بين ما يسمى بأهل دار الحرب وأهل دار الإسلام في مصطلحاتنا الفقهية.
على أنه لا يشترط في الأساس الذي تقوم عليه هذه التفرقة: أن يكون ـ كما هو السائد الآن ـ إقليمياً دائماً، بمعنى إنه لا يصح أن ينتسب شخص إلى دولة معينة ما لم يكن مولوداً أو ناشئاً على أراضيها وإقليمها الخاص، لأنه قد يكون هذا الأساس عقائدياً أو عنصرياً، مثلما يكون إقليمياً، فذلك تابع لإرادة كل دولة وما تقضي به دساتيرها وقوانينها المرعية.
والإسلام كدولة قد جعل من بين هذه الأسس .. جعل العقيدة وكذلك العهد أساساً للتفرقة بين الأجانب والمواطنين، لذلك فإنه صنف الناس من حيث انتسابهم لدولته إلى:
ـ مسلمين.
ـ وغير مسلمين .. وهؤلاء إلى:
ـ ذميين، وإلى مستأمنين، وحربيين.
ثم حدد مركز الفرد في الدولة على هذا الأساس. فالمسلم يتحمل في الأصل العبء الأكبر من:
الالتزامات:
والتكاليف، التي تقضي بها مسؤوليات الدولة واحتياجاتها المتنوعة. أما الذمي فإنه وإن كان في الأصل كالمسلم في تحمل هذه الالتزامات، لما قيل من أن ((له ما للمسلمين وعليه ما عليهم)) إلا أن هناك بعض القيود والإستثناءات كما أن هناك بعض الإضافات والتبعات، التي يجب أن يتحملها الذمي، والتي تقضي بها طبيعة تنظيمات الدولة القائمة على أساس من العقيدة التي يدين بها الفرد.
هذا ومن الطبيعي أن لا يتحمل ـ من حيث الأصل ـ المستأمنون ولا الحربيون باعتبارهم غير مواطنين أو غير مكتسبين الجنسية الإسلامية: أي شيء من تلك الالتزامات ولا ما يترتب عليها من أحكام وفروض.
الحقوق:
أما بالنسبة إلى الحقوق، فلعل أهم ما يميز فيها المواطن عن غيره هي الحقوق المتعلقة بالأراضي وحيازتها بالإحياء ـ موضوع بحثنا ـ لأن لهذا القطاع من الأموال في تشريعات الدولة أهمية خاصة بالنسبة إلى غيره من القطاعات.
وحيث إن الإسلام قد بنى تفرقته في علاقاته مع الأشخاص المنتمين إلى دولته وغيرهم على أساس من العقيدة كما قلنا، فمن الطبيعي أن يكون:
المسلمون:
في مقدمة مَن يستفيد من تلك الحقوق دون أن يختلف الحال فيه بين المسلم الذي يستوطن البلاد الإسلامية وبين غيره من المسلمين الذين يقيمون خارجها، لأن المناط أو الأصل في ذلك هو العقيدة التي يدين بها الشخص، وليس الاستيطان في إقليم معين، كما قلنا.
وهذه الحقيقة لا تجد الدولة الإسلامية فيها ضيراً ولا خوفاً على سلامتها أو ثروتها الوطنية، لأن ما قد تخشاه الدول عادة من امتلاك غير المواطنين للأراضي نحوها من مواردها الإنتاجية الأساسية غير وارد في رأي المشرع الإسلامي بالنسبة إلى المسلم المقيم خارج حدود الدولة الإسلامية، على اعتباره متجاوباً ـ حسب الفرض ـ مع هذه الدولة شعوراً وعاطفة وعقيدة.
وعليه فله الحق المطلق ـ كالمسلم المواطن ـ في حيازة الأراضي الواقعة داخل حدود الدولة الإسلامية وإحيائها، ولم نجد بين الفقهاء لذلك مخالفاً أو مثيراً للمسألة على الأقل، ولو من باب المناقشة. ولذا جاء الشرط عند بعض الفقهاء في (كون المحيي يجب أن يكون مسلماً) .. جاء مطلقاً دون تخصيصه بمسلم معين .. استوطن البلاد الإسلامية أو لم يستوطنها.
أهل الذمة:
ما بالنسبة إلى الذميين من أهل الكتاب، فقد اختلف الفقهاء في حكم حيازتهم أو إحيائهم للأراضي الواقعة داخل حدود الدولة الإسلامية إلى فريقين كما يلي:
رأي القائلين بجواز الإحياء:
فذهب بعض الإمامية والأحناف كما ذهب الحنابلة والمالكية في قول إلى عدم الفرق بين الذميين والمسلمين في جواز الإحياء وما يستتبعه من حكم في التملك أو الاختصاص بالأرض الموات.
واستدل هؤلاء بالاطلاقات الكثيرة ومنها قوله (ص): ((مَن أحيا أرضاً ميتة فهي له)) ونحوها، كما استدلوا بالأحاديث الخاصة ومنها صحيحة أبي بصير التي يقول فيها: ((سألت أبا عبدالله عن شراء الأرضين من أهل الذمة؟ فقال: لا بأس بأن يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم)).
وعللوا لهذا الرأي: بأن الذميين هم من أهل دار الإسلام، فلازمه مساولتهم في الحكم بغيرهم من أهل هذه الدار .. ومن ذلك جواز الإحياء.
وبأن الإحياء من أسباب الملك فملك به الذمي كسائر أسبابه.
رأي المانعين من الإحياء:
وذهب آخرون وهم كل من الزيدية، والشافعية، والظاهرية، وفريق من الإمامية وكذلك المالكية في قول آخر إلى منع أهل الذمة من الإحياء ساء أذن لهم الإمام في ذلك أو لم يأذن .. يقول في نهاية المحتاج ـ وهو من الشافعية ـ : ((وليس للذمي تملك الأرض بالإحياء ولا لغيره من الكفار بالأولى وإن أذن ل الإمام)) وبمثله صرح الزيدية في البحر الزخار، والإمامية في التذكرة وغيرها قالوا: ((إذا أذن الإمام لشخص في إحياء الموات ملكها المحيي إذا كان مسلماً، ولا يملكها الكافر بالإحياء ولو بإذن الإمام، فإن أذن الإمام فأحياها لم يملك عند علمائنا، وبه قال الشافعي)).
ويحتج أصحاب هذا الرأي بقوله (ص): ((موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم)) أو قوله: ((عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم)) .. ونحوها من هذه الأخبار التي أضافت عموم الموات إلى المسلمين فلم تبق شيئاً منه لغيرهم.
ويمكن أن يحتجوا أيضاً بقوله في صحيحة الكابلي المتقدمة: ((فمن أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها)).
كما عللوا بأن: موتان الدار من حقوقها والدار للمسلمين فكانت لهم كمرافق المملوك إلى نحوها من الأخبار والتعليلات الفقهية.
المناقشة:
وهذه الأخبار والتعليلات الأخيرة لا تنهض في رأينا ـ مقابل الأدلة السابقة ـ بما ذهب إليه أصحاب القول الأخير من منع أهل الذمة من الأحياء، وذلك من حيث إن الخبر الأول الذي احتج به هؤلاء لا يعرف ـ كما يقول ابن القيم ـ في شيء من كتب الحديث .. نعم جاء بلفظ آخر، وهو ما أوردناه بعده أو ما أورد بصورة أخرى، بيد أنه مع ذلك خبر مرسل.
ولا يبعد أن يريد (ص) بقوله: ((هي لكم)) ... هي لأهل دار الإسلام، ومن الواضح إن أهل الذمة منهم، تجري عليهم أحكامها كما تجري على المسلمين.
والإضافة الصريحة في بعضها إلى المسلمين كما في صحيحة الكابلي المذكورة وغيرها لا تدل على تخصيصها بهم وإنما كل ما تدل عليه هذه الرواية ونحوها: إنه إذا ما عمد واحد من المسلمين إلى إحياء الموات فعليه تعميرها واستثمارها .. وبذلك يكون أحق بها من غيره وأولى بالتصرف، وأما إذا ما عمد إلى إحيائها واحد من الذميين أو غيرهم فليس في هذه الرواية ما يدل أو يشير إلى بطلان فعلهم ومنعهم من الإحياء، لأنها في نفسها غير ناظرة إلى هذه الحالة.
أما التعليل المذكور فهو من باب المصادرة على المطلوب، لأن من أول الكلام أن يكون الموات من حقوق الدار، وأن من أول الكلام أيضاً أن تكون دار الإسلام خاصة بالمسلمين، وهذا كمن يقول في العراق مثلاً: بأنها بلاد أو دار العرب، مع أن فيها من غير العرب أناساً توارثوها أباً عن جد.
لذلك نرى أن الاعتماد على الأدلة والحجج التي ساقها أصحاب الاتجاه الأول هو أولى، وهو أقرب إلى الصحة، لما في بعضها من صراحة وما في بعضها من قوة في السند.
وعليه، وبناءً على ما نراه من قوة هذا الاتجاه: يكون للذميين ـ إذا التزموا الشروط المطلوبة ـ الحق الكامل كما للمسلمين في إحياء الموات الواقع داخل حدود البلاد الإسلامية .. من حيث إن الذميين في المقاييس الشرعية يعتبرون من حاملي جنسية هذه البلاد أصالة أو بالتجنس .. فكان ((لهم ما لنا وعليهم ما علينا)) كما ورد في الحديث.
المستأمنون:
أما المستأمنون ـ وهم فريق من أهل دار الحرب استجاروا أو وفدوا إلى دار الإسلام لمدة مؤقتة ولغرض من الأغراض السياسية أو التجارية ـ فالظاهر أن حكمهم مع الذميين واحد في حق الإحياء عند مَن يقول بالمنع لهؤلاء، بل إنه من باب الأولى .. يقول صاحب نهاية المحتاج ـ وهو من الشافعية القائلين بمنع أهل الذمة من الإحياء ـ : ((وليس للذمي تملك الأرض بالإحياء ولا لغيره من الكفار بالأولى)) وتشمل كلمة ((غيره)) كما هو واضح، فيمن تشمل (المستأمنين) من أصناف الكفار.
ويقول الحلي ـ وهو من قسم الإمامية القائلين بالمنع أيضاً ـ ((فالمستأمن كالذمي في الإحياء وفي الاحتطاب ونحوه)) وذلك بعد تصريحه بمنع الذميين من الإحياء.
أما حكمهم عند مَن يقول من الفقهاء بجواز الإحياء بالنسبة إلى الذميين، فلا يلزم أن يكون واحداً مع هؤلاء، وهو ما نراه فعلاً لدى الأحناف ولدى الحنابلة وغيرهم، حيث منعوا المستأمنين من الإحياء في حين أجازوه بالنسبة إلى أهل الذمة، لأنه إذا ما وجد المسوغ لإعطاء الحق للذميين في الإحياء في دار الإسلام وتملك أراضيها، فإنه قد لا يوجد مثل هذا المسوغ بالنسبة إلى المستأمنين الذين هم في الواقع صنف من الحربيين .. أعداء الإسلام الألداء، أما وفادتهم المؤقتة لديار الإسلام فإنها لا يمكن أن تخلع عليهم صفة المواطنة وما يترتب عليها من حقوق والتزامات.
وبناءً على هذا ـ أي بناءً على جعل المستأمنين صنفاً من أهل دار الحرب ـ وعلى أن وفادتهم المؤقتة لا تشفع لهم باكتساب جنسية الوطن الإسلامي، فالمفروض أو اللازم الحاقهم بالحربيين في الحكم من ناحية إحياء الموات الواقع في البلاد الإسلامية.
الحربيون أو أهل دار الحرب:
هذا والظاهر أنه لا نزاع بين الفقهاء ـ خلا من شذ ـ في حرمان (الحربيين) من إحياء أو حيازة الأراضي الواقعة داخل حدود البلاد الإسلامية، أو نحوها من القطاعات المهمة التي تتصل بسلامة الدولة وثروتها الوطنية.
صرح بذلك كل من: الإمامية والشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب .. وهو لازم قول الأحناف بعد أن منعوا المستأمنين من الإحياء .. ولازم قول الزيدية والمالكية والظاهرية أيضاً بعد أن منعوا الذميين منه كما رأينا.
ولكن خالف في قول بعض الإمامية وبعض الحنابلة فسمحوا للحربي أو الكافر مطلقاً إحياء الموات في دار الإسلام، ونظراً لشذوذ هذا الرأي حاول البعض حمل الإطلاق في كلمة (الكافر) على أهل الذمة خاصة .. بدلالة (ال) العهدية، لأن الأحكام في الغالب جارية عليهم.
هذا ولا أجد في النصوص أو غيرها ما ينم عن ترجيح الرأي المقابل لرأي الجمهور السابق، والقاضي بحرمان الحربيين ومن إليهم من حق الإحياء، على أن حكم التفرقة بين هؤلاء الحربيين وبين المسلمين ومن في حكمهم من الذميين هو في ذاته حكم متجه، من حيث إن مركز الحربيين لا يمكن أن يكون على حد سواء مع مركز المواطنين من المسلمين ومَن في حكمهم في حق الإحياء أو حق التصرف بأراضي الدولة الإنتاجية.
رأي القانون في التفرقة بين الأجانب والمواطنين:
لذلك نجد أن هذا النوع من التفرقة قد تسالمت عليه ـ فيما نحسب ـ قوانين وأنظمة الدول المختلفة الحديثة، فعمد العراق مثلاً، كما عمدت جمهورية مصر العربية وغيرهما من الدول والأنظمة القديمة كالرومانية والمحدثة في النص على منع الأجانب من حيازة أو تملك العقارات والأراضي الزراعية إلا بناء على استثناء خاص أو مقابلة بالمثل.
إحياء الأراضي الواقعة في دار الحرب:
كان كل ذلك في حكم إحياء الموات الواقع ضمن الحدود الإقليمية للبلاد الإسلامية، أما حكم إحياء الأراضي الموات الواقعة خارج هذه الحدود والتي تعتبر في الاصطلاح من أراضي دار الحرب، فقد أعطى الفقهاء أيضاً للمسلم في إحيائها حقاً كاملاً دون ما فرق بينها وبين الأراضي الواقعة داخل تلك الحدود، وإن قيدوا هذا الحق بما إذا لم يذب المسلمون عنه ويمنعوا من قبل سلطات تلك الدار، وفيما إذا لم تكن من الديار التي صولح أهلها عليها.
وقد صرح بإعطاء هذا الحق سائر الفقهاء ومن بينهم فقهاء الإمامية والزيدية وكذلك الشافعية والحنابلة وغيرهم.
وهذا الحكم الذي تؤيده ـ فيما ذكر ـ عموم الأخبار مع انتفاء الدليل المعارض، هو من حيث المبدأ، أمر لا غبار عليه، لأنه ليس من الحكمة، عادة، أن تمنع الدولة ـ أية دولة ـ رعاياها من حيازة أو تملك الأراضي الواقعة خارج حدودها إذا ما كان ذلك بدون عوض أو مقابلة، كما هو الحكم فعلاً بالنسبة إلى مَن يحوز شيئاً من الموات بالإحياء.
ولكن العبرة في هذا الحكم ونحوه بإمكانية التنفيذ، إذ كيف تسمح دولة لها ذاتيتها ولها استقلالها لرعايا دولة أخرى هي في موقف معاد معها حسب الفرض .. كيف تسمح لهؤلاء بالتجاوز على أراضيها إحياء أو استيلاء ومذ نفوذها على أهم عنصر من عناصرها الإنتاجية، وخاصة إذا ما كان ذلك دونما عوض.
أما موضوع الحق لأهل دار الحرب ونحوهم في إحياء الموات الواقع داخل حدودهم، فمع أن البحث فيه ـ في رأينا ـ هو غير ذي موضوع حيث لا ينتظر من رعايا دار الحرب ـ وهم في ديارهم ـ أن يربطوا عملهم في الإحياء ونوه بحكم الشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع والأنظمة الأجنبية عن تلك الدار، والتي هي ي موقف معاد لها حسب الفرض.
أقول: مع أن البحث فيه غير ذي موضوع، إلا أن جمهور الفقهاء فيما يظهر قد تناولوه بالبحث، فأجازوا للحربي بصورة عامة أن يقوم بإحياء الموات الواقع داخل حدوده، وبالتالي تملكه، وإن كان البعض ـ ظاهراً ـ قد قيد هذا الحق بأخذ الإذن فيه من الإمام القائم بشؤون الدولة الإسلامية باعتباره من الأموال التي تعود في ملكيتها إليه أيضاً، كما هو الحال في الأراضي الواقعة داخل حدود هذه الدولة الإسلامية.
--------------------------------
* المصدر :احياء الاراضي الموات


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد