موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

الصِّلة بين الإنتَاج وَالتَداول
محمد باقر الصدر



من الواضح: أن التداول بمعناه المادي نوع من عمليات الإنتاج. لأن نقل الثروة من مكان إلى مكان يخلق في كثير من الأحيان منفعة جديدة ويعتبر تطويراً للمادة إلى شكل أفضل بالنسبة إلى حاجات الإنسان، سواء كان النقل عمودياً _ كما في الصناعات الاستخراجية، التي يمارس الإنتاج فيها عملية نقل المواد الأولية من أعماق الأرض إلى سطحها _ أو أفقياً كما في نقل السلع المنتجه إلى الأماكن القريبة من المستهلكين، وأعدادها في متناول أيديهم، فإن نقلها بهذا الشكل نوع من التطوير إلى شكل أفضل، بالنسبة إلى حاجات الإنسان.
وأما التداول بمعناه القانوني، ونقل الحقوق أو الملكية من فرد لآخر، كما نشاهد في عمليات التجارة، فهو بوصفه عملية قانونية لابد أن يكتسب مفهومه، وتحدد علاقته بالإنتاج على أساس مذهبي.
ولهذا يمكننا أن ندرس رأي الإسلام في الصلة بين الإنتاج والتداول وطبيعة العلاقة التي يقيمها بينهما في مخططه المذهبي العام.
مفهوم الإسلام عن التداول"
والذي يبدو من دراسة نصوص المفاهيم والأحكام، واتجاهها التشريعي العام: أن التداول في نظر الإسلام من حيث المبدأ شعبة من الإنتاج، ولا ينبغي أن ينفصل عن مجال العام.
فأن التداول في أكبر الظن لم يكن موجوداً على نطاق واسع في المجتمعات التي كان كل فرد فيها يكتفي عادة بما ينتجه مباشرة، في إشباع حاجاته البسيطة. لأن الإنسان الذي يعيش هذا الاكتفاء الذاتي لا يشعر بحاجة غالباً، إلى الحصول على منتجات فرد آخر ليمارس مع ذلك الفرد لوناً من ألوان التداول والتبادل. وإنما نشأ التداول في حياة الإنسان نتيجة لتقسيم العمل، الذي أصبح كل فرد كمية أكبر من حاجته ويحصل على سائر السلع التي يحتاجها من منتجي تلك السلع عن طريق التبادل، وإعطائهم حاجتهم من منتوجه لقاء الحصول على منتوجاتهم فأن تنوع الحاجات وكثرتها فرض تقسيم العمل بهذا الشكل وبالتالي أدى إلى انتشار التداول ووجوده في حياة الإنسان على نطاق واسع.
إن سيطرة الدوافع الأنانية على التجارة أدت إلى تطويرها، وانحرافها عن وضعها الطبيعي، الذي كان ناتجاً عن حاجة موضوعية سليمة، وبخاصة في عصر الرأسمالية الحديثة ونتج عن ذلك انفصال التداول والتبادل في كثير من الأحيان عن الإنتاج، وأصبح نقل الملكية عملية تقصد لذاتها، دون أن يسبقها أي عمل إنتاجي من الناقل وتمارس لأجل الحصول على فوائد وأرباح. فبينما كانت التجارة التجارة مصدراً لهذه الفوائد والأرباح، بوصفها شعبة من الإنتاج، أصبحت مصدراً لذلك لمجرد كونها عملية قانونية لنقل الملكية. ولذا نجد في تجارة الرأسمالية: أن العمليات القانونية لنقل الملكية قد تتعدد على مال واحد، تبعاً لتعدد الوسطاء بين المنتج والمتسهلك، لا لشيء، إلا لكي يحصل أكبر عدد ممكن من التجار الرأسماليين على أرباح تلك العلميات ومكاسبها.
ومن الطبيعي يرفض الإسلام هذا الانحراف الرأسمالي في عمليات التداول، لأنه يتعارض مع مفهومه عن المبادلة ونظرته أليها بوصفها جزءاً من الإنتاج ولهذا فهو يعالج قضايا التداول وينظّمها دائماً في ضوء نظرته الخاصة إليه، ويتجه إلى عدم فصل التداول تشريعياً، في التنظيمات القانونية لعقود المقايضة.. عن الإنتاج فصلا حاسماً.
النصوص المذهبية للمفهوم:
فمن النصوص المذهبية التي تعكس هذا المفهوم، وتحدد النظرة الإسلامية إلى التداول، ما جاء في كتاب علي عليه السلام إلى واليه على مصر، مالك الأشتر، وهو يضع له برنامج العمل، ويحدد له مفاهيم الإسلام "ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً. المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه. فأنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجّبرون عليها".
وواضح من هذا النص أن فئة التجار جعلت في صف واحد مع ذوي الصناعات، أي المنتجين، وأطلق عليهم جميعاً أنهم مواد المنافع، فالتاجر يخلق منفعة كما يخلق الصانع وعقب ذلك بشرح المنافع التي يخلقها التجار، والعمليات التي يمارسونها، في جلب المال من المباعد والمطارح، ومن حيث لا يلتئم الناس لمواضعها، ولا يجّرئون عليها.
فالتجارة في نظر الإسلام _ إذن _ نوع من الإنتاج والعمل المثمر. ومكاسبها إنما هي في الأصل نتيجة لذلك، لا للعملية في نطاقها القانوني فحسب.
وهذا المفهوم الإسلامي عن التداول ليس مجرد تصور نظري فحسب، وإنما يعبر عن اتجاه عملي عام لأنه يقدم الأساس الذي تملأ الدولة على ضوئه الفراغ المتروك لها في حدود صلاحياتها.
الاتجاه التشريعي الذي يعكس المفهوم:
وأما الأحكام والتشريعات التي تعكس المفهوم الإسلامي في التداول، فيمكننا أن نجدها في عدد من النصوص التشريعية، والآراء الفقهية كما يلي:
1 _ في رأي عدد من الفقهاء كالعماني والصدوق والشهيد الثاني والشافعي وغيرهم: إن التاجر إذا اشترى حنطة مثلا ولم يقبضها لا يسمح له أن يربح فيها عن طريق بيعها بثمن أكبر، وإنما يجوز له ذلك بعد قبضها مع أن عملية النقل القانونية تتم في الفقه الإسلامي بنفس العقد، ولا تتوقف على أي عمل إيجابي بعده. فالتاجر يملك الحنطة بعد العقد وإن لم يقبضها، ولكنه بالرغم من ذلك لا يسمح له بالاتجار بها، والحصول على ربح ما لم يقبض المال، حرصاً على ربط الأرباح التجارية بعمل، وإخراج التجارة عن كونها مجرد عمل قانوني يدر ربحاً.
2 _ في رأي الإسكافي، والعماني، والقاضي، وابن زهرة، والحلبي، وابن حمزة ومالك، وكثير من الفقهاء: أن التاجر إذا ابتاع مالاً مؤجلاً بثمن يدفعه فعلاً، فليس له حين حلول الأجل أن يبيع ما اشتراه _ قبل قبضه _ بثمن أكبر فإذا اشتريت حنطة من الزارع، واتفقت معه على أن يسلمك المبلغ بعد شهر، ودفعت له الثمن فعلاً، فلا يجوز لك بعد مرور شهر أن تبيع تلك الحنطة بزيادة قبل أن تقبضها، وتستغل عملية النقل القانوني في سبيل الحصول على ربح جديد، وإنما لك أن تبيع المال بنفس الثمن الذي اشتريته به.
3 _ جاء في نصوص نبوية كثيرة النهي عن تلقي الركبان، وعن بيع الحاضر للبادي. ففي الحديث: "أن رسول الله (ص) قال: لا يتلقى أحدكم تجارة خارجاً من المصر، ولا يبيع حاضر لباد".
وروى الشافعي بسنده إلى جابر أن رسول الله (ص) قال: (لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق بعضهم من بعض).
--------------------------
المصدر : اقتصادنا

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد