موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

إجراءات الدولة ضد المحتكرين
د. مصطفى المحقق الداماد



الحكومة مكلفة من وجهة نظر الفقه الإسلامي بمحاربة من يُبادرون إلى احتكار الأجناس التي يحتاج إليها عامة الناس في معيشتهم ويضيَّقون عليهم، محاربة شديدة. ولها أن تفعل ما تراه مناسباً لحماية حقوق الناس كإلزام المحتكر بالبيع ومعاقبته وتوبيخ المستقبلين (المتلقين) للسّلع:
الف ـ الإلزام بالبيع: أول إجراء للحكومة ضد المحتكر هو إلزامه ببيع ما احتكَر دونما تريُّث، وهو رأي متفق عليه عند الحنابلة، والمالكية، والشافعية، والحنفية، ولا خلاف بين علماء الامامية حول هذا الرأي، بل هناك إجماع بينهم في ذلك، ويستند الفقهاء في هذه الفتوى إلى أن الاحتكار يستوجب الضرر لعامة الناس، والدولة تبادر إلى هذا الإجراء دفعاً للضرر عن الناس. وبتعبير فقهي فني فإن القواعد والأصول الابتدائية ومنها ـ قاعدة التسليط ـ تصرح بأن الناس مسلطون على أموالهم وأنه يجب في البيع تراضي الطرفين، لكن هناك قاعدة فقهية وهي قاعدة "لا ضرر" التي تنفي قاعدة "التسليط" في هذه الحالة المتمخضة عن التضييق على عامة الناس، وتُلزمُ المحتكر بالبيع دونما مَيل أو رغبة منه.
وهو أمر يُشير إليه الإمام علي عليه السلام في كتاب له إلى مالك الاشتر النخعي، فهو يُوصي واليه على مصر بالتجار وأصحاب الصناعات ويذكرهم بخير ويُذكّره بحقهم العظيم في توفير حاجات الناس ووجوب احترامهم ثم يقول: واعلَم مع ذلِكَ أن في كثيرٍ منهُم ضيقاً فاحِشاً وشحّاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكُّماً في البياعاتِ وذلكَ بابٌ مُضرَّةٌ للعامةِ وعيبٌ على الولاةِ منَ الاحتكارِ.
وموجز القول أنه متى ما أصبح الاحتكار مضرَّة للناس وضيَّق عليهم، فأنه بالرغم من أنه يلزم على الدولة الإسلامية تخلية مخازن المحتكرين جماعات كانوا أم أفراداً وعرضها للبيع، لكن هذا لا يعني أنه يجوز بالاستناد إلى الروايات تخلية البضائع المختزنة بطرق وأسباب مختلفة سواء أضرّت بالحياة العامة للناس أم لم تضرّ، وسواء عُدّت تلك البضائع من الحاجات العامة أم كانت من الكماليات وليس لها علاقة وثيقة بحياة الناس ورفاه معيشتهم.
ب ـ التسعير: هناك نقطة مُسلَّمة في جميع المدارس الفقهية الإسلامية السنية والامامية وهي أن الطبيعة الأوليّة والطريقة الرئيسة المنتهجة في الاقتصاد الإسلامي حول إنتاج وتوزيع السِّلع التي يحتاج إليها الناس يقوم على أساس الحرية والمنافسة من جهة والممانعة من الانحصار والاحتكار والاسترباح الفاحش.
ولذلك فإن تسعير الأجناس العادية في الظروف العادية والتضييق على أصحاب السّلع ممنوع وحرام من الناحية الفقهية، ويُجمع على هذه الحرمة كل مذاهب السنة الأربعة وجميع فقهاء الامامية.
ويستند الفقهاء في ذلك أولاً إلى الآية الشريفة التالية:
(يا أيُّها الذينَ آمنُوا لا تأكُلوا أموالَكُم بينَكُم ِبِالباطلِ إلاّ أن تكونَ تِجارَةً عن تراضٍ).
هذه الآية تنهى عن التجارة التي ليس فيها رضاية ورغبة من الطرفين.
ثانياً: هناك روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السلام في النهي عن التسعير. فالسنة روَوا بطرق مختلفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والامامية لديهم روايات عن أهل البيت عليهم السلام إضافة إلى الأحاديث النبوية.
لكن ما يقال هنا يتعلق بالظروف العادية التي لا زالت لم تتعرض فيها الحياة العامة لمشاكل وصعوبات لا تُطاق، ولا زال التجار لم يتواطأ واقتصادياً تحت تأثير من أطماعهم لا يجاد أنواع من الاحتكارات والانحصارات.
ولو فعلوا ذلك وتعرضت نتيجة لذلك الحياة العامة لمشاكل وصعوبات لا تطاق فان على الحكومة الإسلامية أن تتدخل وربما كان هذا النوع من التدخل هو من أهم واجباتها.
فمن الناحية الفقهية تقوم الحكومة بداية في هذه الحالات بإلزام المحتكرين على البيع دون أن تحدد سعراً، لكنها تراقب الوضع بدقة.
وإذا ما شعرت الحكومة بأنّ المحتكر قد بادر إلى عرض الأجناس المحتكرة تحت ضغط من عُمالها لكنه لم يراع جانب العدل والإنصاف في التسعير، فأنها في هذه الحالة أيضاً لا تستطيع أن تلعب دور المتفرج.
الكثير من الفقهاء كالشهيد الأول في متن اللمعة والدروس، وكذلك العلامة في "المختلف"، وفخر المحققين في إيضاح الفوائد والبعض الآخر من الفقهاء العظام أبدوا رأيهم بالتسعير أي تحديد السعر، وبقية الفقهاء رغم عدم افتائهم صراحة بالتسعير، لكنهم صرحوا بان على الدولة في هذه الحالة إلزام المحتكر بتخفيض القيمة، فأن لم يخفِّضها إلى حد الإنصاف والعدل، على الدولة أن تجدّد تحذيرها له وتشدد عليه من الضغط والمراقبة حتى يصل السعر الحد العادل.
ج ـ معاقبة المحتكر: يقول فقهاء الحنفية بان معاقبة المحتكر لأول مرة هي إلزامه على البيع وفي الثانية السجن مع الأعمال الشاقة، وبعض من هؤلاء الفقهاء يرون في الثانية التعزير والموعظة، وفي الثالثة السجن مع الأعمال الشاقة.
ويقول التلمساني وهو من فقهاء الفرقة المالكية بان المحتكر بعد أن يعاقب في المرة الأولى بِبيعِ أجناسه عن طريق الحكومة ويُتصدَّق بأرباحها، يُعاقب للمرة الثانية بالجلد، والتجوُّل به في المدينة ثم إيداعه السجن.
وليس الفقهاء الامامية في طريقة معاقبة المحتكر جسمياً بحث، غير أن الحاكم عندهم يستطيع تعزير العاصي في كل المعاصي لا سيما الكبائر منها. فالإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في كتابه إلى مالك ينص على معاقبة المحتكر بقوله: وعاقِبهُ مِن غير إسرافٍ. لكن فقه الشيعة عدا الحالات المحدودة التي يعين فيها كيقية التعزير وكمّه يُفوِّض في سائر الحالات الأخرى الأمر إلى الحاكم كمّاً وكيفاً ليعمل بحسب الحالة. وقد تكررت هذه العبارة "التعزير بما يرى الحاكمُ" في أغلب الكتب الفقهية، أي أن التعزير يتبع رأي الحاكم.
د ـ تنبيه المتلقين للركبان: حول تأديب هؤلاء الذين يستقبلون القوافل التجارية ويُسرعون إلى شراء جميع حمولتها مرة واحدة لحصرهم لديهم وخلق الغلاء في سوق المسلمين، هناك أربع نظريات:
1ـالنهي أولاً، والتأديب عند التكرار. ولكن لا شيء يؤخذ أو يُستردُّ منه.
تُروى هذه النظرية عن مالك، واستدلالهم فيها أنّ البيع عقدٌ لازم ولا دليل على فساد المعاملة.
2ـ تُلزِمهُ الدولة بعرض البضاعة على أهل السوق، في حالة وجود سوق في المدينة. وفي عدمه تُعرض البضاعة على أهل البلد ليشتركوا في شرائها بحسب رغبتهم من حيث العدد.
ويرى القاضي عِياض أن انتساب هذه النظرية إلى مالك أقرب من غيره، ويُبررها بقوله أن لأهل السوق سهماً فيما اختزنه المحتكر ولو لم يفعل ذلك لدخلت البضاعة السوق بصورة عادية، واشترك في شرائها جميع أهل السوق وأصبحت وسيلة لامرار معاشهم، ولذلك يجب عرضها في السوق لينتفعوا بما حُرموا منه.
3ـ امتناع أهل البلد عن التعامل معه، ليضطر المحتكر إلى إعادة البضاعة إلى البائع الحقيقي.
وهذه هي نظرية "ابن مواز وابن حبيب" من فقهاء المالكية ويستدلون عليها بقولهم... أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن هذا العمل، بحسب النص الصريح، والنهي في المعاملات يقتضي فسادها. فمعاملة هذا الشخص فاسدة. ولذلك يجب أن لا يشتري أحد منه حتى يضطر لإعادة البضاعة إلى صاحبها الحقيقي.
ويُضيف ابن حبيب ويقول "ويُعاقبُ مَن تكررَ مِنهُ تلقّي السّلعِ بِما يراهُ الإمام مِن سجنٍ أو ضربٍ أو إخراجٍ مِن سوقٍ".
ويعتقد ابن مواز أن الربح الذي يحصل عليه المقترف لهذا العمل لا يحلُّ له ويجب استرداده وتوزيعه بين سائر التجار، وأن خسرت البضاعة فالخسارة عليه وحده.
4ـ وللفقهاء العظام من الامامية أيضاً آراء في هذا المضمار نشير فيما يلي إلى قسم منها:
يروي المرحوم الشيخ الأنصاري رواية مضمونها: لا تلَقَّ ولا تشتَرِ ما يُتلقَّى ولا تأكُل مِنهُ. ثم يقول الشيخ بعد نقله لهذه الرواية: وظاهِرُ النَّهي عن الأكلِ كونُهُ لِفسادِ المُعاملَةِ فيَكونَ أكلاً بِالباطلِ ولم يقُل بهِ إلاّ الاسكافي.
ويرى الشهيد الثاني في شرح اللمعة أنه إذا وجد من قام بهذا العمل فمن الأولى بالمسلمين أن لا يبتاعوا منه تلك البضاعة وال من التجار الذين يشترونها منه. بل وتظل كراهة استهلاكها على قوتها حتّى وان انتقلت إلى أياد أخرى. اتّضح أن الإسلام يريد مواجهة الناس للنفعيين والأشرار من أهل السوق ومقاطعتهم ليكفوا عن اللجوء إلى مثل هذه الأعمال.
--------------------
المصدر:الاحتكار في الفقه الإسلامي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد