موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

مصاعب البحث الفقهي مصرفياً
محمد صادق الصدر



بالرغم من أنه ثبت في الدين، بأنه ما من واقعة إلاَّ ولها حكم، الأمر الذي ينتج أن كل القضايا المعروضة، والمشكلات الموجودة، على الصعيد البشري بمختلف حقوله واختصاصاته مشمولة لأحكام الشريعة الإسلامية لا محالة. حتى مصارف بكل أقسامها وكل أشكال الاقتصاد في العالم، له أحكام موجودة ومفهومة في الشريعة.
إلاَّ أنه مع ذلك توجد بعض العقبات تحول دون توفر وتيسر التطبيق الفقهي على الفعاليات المصرفية من عدة جهات:
الجهة الأولى: انفصال البحث الفقهي عن البحث المصرفي، وابتنائه على الطريقة القديمة في البيان، والتي كانت نافعة بكل تأكيد في القرون السابقة إلاَّ أنها أصبحت غير مواكبة للفهم المعاصر، الأمر الذي أوجب صعوبة فهمها للجيل الحاضر وقهم الجيل المعاصر لها.
وليس هذا ذنب الفكرة، وإنما هو ذنب الأسلوب والبيان والاصطلاحات، مما يعقد نسبياً على كل منهما تفهم الجانب الآخر كما هو أهله.
مضافاً إلى شيء آخر ينبغي الالتفات له، وهو عدم إمكان الطاقة البشرية على استيعاب كل الحقول الشرعية، من حيث الاحتكار والعلوم والاختصاصات.
وهذا ينتج ضرورة تخصص الأفراد بنوع معين من الحقول والاختصاصات. وهذا ينتج بدوره أن المختص بأي حقل، لابد وأن يكون بعيداً نسبياً عن التعمق في الحقول الأخرى، ومن المستطاع القول: بأنه لا يفهمها كما يقصدها ذووها المتخصصون بها.
وهذه ظاهرة شاملة لكل الحقول، فمن تخصص بالرياضيات لا يمكنه فهم الفلسفة وبالعكس. ومن تخصص في الطب لا يمكنه فهم الفيزياء وهكذا، ما عدا يعود إلى اختصاصه من العلوم الأخرى، لأن العلوم كما أشرنا في فصل سابق، في تداخل كبير، والاختصاصي يفهم مقدار الارتباط دون سائر التفاصيل الخارجة عن اختصاصه.
وليس الفقيه بمستثنى عن هذه القاعدة. فبسبب اختصاصه الفقهي، يصعب عليه الاستيعاب الواسع للعلوم الأخرى لا محالة، إلاّ ما ارتبط في حدود اختصاصه من العلوم.
إلاّ أن هذا لا يشكل عذراً معقولاً للفقيه في عدد من الحالات، لأننا بعد أن نعرف أنه ما من واقعة إلاّ ولها حكم، تكون سائر العلوم مربوطة بالفقه بشكل وآخر، لأن العلوم عبارة عن مجموعة من الوقائع والحالات والأفكار المشمولة لأحكام الشريعة لا محالة. إذن فعلى الفقيه الالتفات إليها، والأخذ بما هو مرتبط باختصاص منها على الأقل. ولا يجوز الإعراض عنها تماماً.
يضاف إليه ذلك أن الدراسة الفقهية كانت ولا زالت بعيدة عن العلوم الحديثة، بحيث تختص التربية العلمية بما يختص بالدين من علوم ولا تعم العلوم الأخرى: فلا يكون للعلوم الأخرى أي تعرض من قريب أو بعيد، أو قليل أو كثير عن التربية العلمية الدينية إلاّ ما استطاع الفرد تحصيله من الكتب والمصادرة المتوفرة، كاهتمام شخصي لا أقل ولا أكثر.
وهذا أيضاً ليس مورداً قابلاً للعذر، لأن الزعم بأن هذه العلوم أجنبية عن العلوم الدينية غير صحيح لا محالة. بعد أن عرفنا وعرف كل فقيه بأنه ما من واقعة إلاّ ولها حكم. إذن فكل العلوم على الإطلاق فهي مجال فقهي في حقيقة الأمر، غير أن بعض تفاصيلها لا ينبغي التعمق فيها، لاتضاح أمرها من البحث في تفاصيل أخرى أحياناً.
والمهم، بعد كل هذا الكلام، أنه أصبح من الصعب على الفقيه المتخصص النظر في العلوم الأخرى بشكل معمق وموسع كالاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والفلك وغيرها.
ومن هنا لم يكن عمل بعض أساتذتنا حين أراد أن يتصور بنكاً لا يتعامل بالربا وهو المحرم شرعاً، ويطبق تفاصيل أعمال البنوك على القواعد الفقهية، لم يكن ذلك عملاً سهلاً ولا قريباً من المتناول في حدود الفهم الذي يعيشه الفقهاء عادة، ويكفي أنه أول من تعرض لهذا الشكل من أشكال الفقه تماماً. وسيأتي في بعض الفصول الآتية التعرض لبعض تفاصيله بعونه تعالى.
الجهة الثانية: من مصاعب البحث الفقهي عن المصارف، أنه بالرغم من أننا حين ننظر إلى المصارف من (الخارج) سنجدها متشابهة تماماً، إلاّ أنها ليست كذلك.
نعم، هناك بعض التعليمات المتفق عليها في أغلب المصارف أو جميعها، وهي عديدة، إلاّ أن هذا لا يعني أن جميع المصارف تسير على طبق نظام واحد بكل التفاصيل.
فإن المصارف تختلف، حسب فهمي بأنواعها، وبأماكنها وبأزمانها لو صح التعبير كما سيتضح. فهنا حقول ثلاثة من الفروق على الأقل.
الحقل الأول: الفرق في الأنواع وخاصة إذا لاحظنا المؤسسات المالية بشكل عام. فهناك المصارف المركزية والخزينة العامة والمصارف التجارية والمصارف المتخصصة كالزراعية والصناعية. والبورصة وغيرها من المؤسسات، مما قد يكون مرتبطاً بحكومة أو مرتبطاً بشركة أو فرد.
وليست هذه الأنواع ذات نظام واحد لا محالة، بل لكل نوع نظامه وشكل معاملته الاقتصادية وأهدافه وغير ذلك.
الحقل الثاني: الفرق في مكان المصارف والمؤسسات، فإن لكل شعب ثقافته وفلسفته في الحياة، مضافاً إلى حاجاته ومتطلباته، الأمر الذي يقتضي التكيف للبنوك في كل مكان حسب المجتمع الذي تعيش فيه، من حيث قناعات أفراده أولاً، وسد احتياجاته ثانياً، والانسجام مع فلسفته الحياتية كأن يكون اشتراكياً أو رأسمالياً أو غيره.
إذن، فالمكان مؤثر في اختلاف أنظمة البنوك لا محالة، ومع الاختلاف يصعب الاستيعاب بطبيعة الحال.
الحقل الثالث: الفرق في الزمان، فأن ما يكون صحيحاً ومتبعاً يوماً له، لا يكون صحيحاً ولا متبعاً في يوم واحد آخر بعده.
وذلك لاختلاف قناعات الأفراد المشرفين على أي بنك في تذليل مشاكله وشكل تفاصيله. وتطور ذلك واختلافه خلال السنين زيادة ونقيصة، وخاصة مع اختراع الأجهزة الحديثة التي تساعد إنجاز المعاملات في البنوك.
إذن، مما يكون نظاماً مسجلاً للمصرف في يوم ما لا يكون كذلك في الزمان الذي بعده. ولا يمكن للفرد أن يترك ما يأتي من المستقبل من آراء وأنظمة وتطبيقات.
ومع وجود هذه الحقول من الفروق، لا يكون البحث الفقهي بالشكل المتوقع والموسع ممكناً بطبيعة الحال. إلاّ أننا سننال ما هو الممكن على أي حال بالشكل الذي يناسب مع هذا الكتاب.
الجهة الثالثة: من مصاعب البحث الفقهي بهذا الصدد، أنه لابد من أجل تركيز البحث وإنتاجه الصحيح، أن يكون هناك فهم محدد ومتناسق للنظرية العامة التي يسير عليها النظام، والذي في محل حديثنا نظام المصارف.
وبدون ذلك سيكون مشوشاً وغير محدد. وقائم على مجرد الاحتمال. كأن يقال: إن كان المراد كذا، فالحكم كذا. وإن كان المراد كذا. ولا يكون هناك تركيز على المقدار المتوقع علمياً.
والملاحظ أننا إذا تابعنا أنظمة المصارف، وجدناها تسير كواقع مسلّم به اجتماعياً بغض النظر عن إعطاء صيغ محددة لواقع المعاملات الجارية فيها، من حيث التكييفات القانونية المحتملة لها.
فإن المهم عند الناس هو النتيجة، وهي استفادة الأرباح، مهما كان التكييف القانوني أو الفقهي. سواء في ذلك مؤسسي المصرف أو العاملين فيه أو المتعاملين معه.
وسيأتي في الفصول الآتية أمثلة عديدة للتكييفات الفقهية.. التي لو كان الأمر محدداً ومفهوماً من زاوية المتعاملين في المصارف، لكننا في غنى عن الكثير منها.
ونذكر هنا بعض الأمثلة للتوضيح:
المثال الأول: الحساب الجاري. فهل يفهمون منه أنه إيداع لدى المصرف، والوديعة لها أحكامها فقهياً.
أو هو إقراض للمصرف، والقرض له أحكامه الأخرى. أو هو نوع من الحوالة بين شخصين يكون المحول عليه هو المصرف. والحوالة لها أحكامها أيضاً.
المثال الثاني: ودائع التوفير. هل هي بنحو الإقراض أو الإبداع أو الأمانة أو العارية. ومع إجمال التكييف القانوني يصعب التكييف الفقهي لا محالة.
ومن الطريف أن المصادر المصرفية تعبر تارة بالوديعة، كما هو الاسم العام لها، وأخرى بالدين، حتى قالوا: الودائع الدائنة. مع العلم أن الوديعة شيء والدين شيء آخر. فكيف نستطيع أن نمزج بينهما.
المثال الثالث: التحويل الخارجي للاستيراد إلى بنك يسمى بالبنك (المراسَل) وهناك البنك (الوسيط) الذي قد يقوم بالمهمة بدل المراسل من دون أن يكون له دين مع المصرف الذي فتح المعاملة.
واحتمالات التكييف القانوني في التعامل بين الشخص المستورد ومصرفه والمصرف الوسيط المراسل والمستفيد هو بائع البضائع، أن احتمالات التكييف القانوني، فضلاً عن الفقهي عديدة، كما، سيأتي. وخاصة وهي ليست علاقة بين اثنين وإنما بين متعددين، بعضهم شخصيات حقيقية وبعضها معنوية.
والمهم أن التكييف لو كان محدداً في نظر المصرفيين، لكان هو المحك، في التقييم الفقهي. وسيكون تقييماً واضحاً ومحدداً، وأما لو كان مجملاً وغير واضح من أساسه، ولم ينطق به أهله، كما هو المطلوب. فماذا سيكون عمل الفقيه غير عرض الاحتمالات والاطروحات الممكنة.
والسر في ما قلناه من أنهم اكتفوا بالواقع على واقعه، وليس في التفلسف والتكييف أي أثر في هذا الواقع، وفي نتائجه المتوخاة لهم.
الجهة الرابعة: من مصاعب البحث في هذا الصدد:
قلة المصادر لمن يريد أن ينظر إلى المصارف من (الخارج). فإن مهام المصارف مختلفة وآثارها في المجتمع متعددة، كما سنحمل عن ذلك فكرة فيما بعد.
وكل مهمة من مهامها هي باب عملي ونظري متكامل نسبياً لو صح التعبير، ويحتاج إلى مصدر متكامل نسبياً، وإلاّ بقيت الفكرة عنه غائمة نسبياً، ومهما كان الوضوح النسبي متحققاً.
بل حتى أكثر العاملين بالمصرف، قد لا يعرف الواحد منهم غير عمله أو عمل من يتصل بهم من الموظفين، ولا يتسنى له الاستيعاب في الاطلاع على فعاليات المصرف ككل. فلو سألته عن التفاصيل لم يعطك إلاّ المعلومات التي يعمل في ضمنها.
وأما بلحاظ ما قلناه من تعدد أنظمة المصارف التي عرفناها فيما سبق من أنواعها واختلاف أمكنتها وأزمانها، فالفرد منهم يبقى بكل وضوح جاهلاً، بسائر الأنظمة المطبقة في غير مصرفه من المصارف. ولو كان محيطاً بكل ما يجري في مصرفه من المعاملات.
ومع قلة المصادر، كيف يمكن الاطلاع، على التفاصيل المطلوبة، والتعميقات المرادة من أعمال المصارف ومعاملاتها، إلا بزيادة من الجهد المقرون بعون الله سبحانه وتعالى. وهذا العون هو الذي يذلل كل العقبات المنظورة والمشاكل الموجودة، إن شاء الله تعالى.
والمهم أن يبذل الفرد كل إمكانه، ولم يكلف الله سبحانه نفساً إلاّ بمقدار وسعها، فإن وجد هناك نقص، فيبقى تصحيحه أو إكماله إلى فرصة قادمة إن توفرت لي أو لغيري بإرادته سبحانه.
فهذه أهم جهات الصعوبة في البحث الفقهي مصرفياً، وهناك جهات أخرى أقل منها تأثيراً لا حاجة إلى استعراضها.
---------------------------------------
المصدر : ما وراء الفقه ج4


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد