موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة علم الإقتصاد

وسائل التنمية وكيفية تطبيقها
د. إبراهيم العسال



لقد رسم الإمام علي كرم الله وجهه لولاته مناهج واضحة، وبيَّن لهم شروطاً محددة، تستقيم أمور الرعية عند تطبيقها، وتتحقق عوامل التنمية عند تنفيذها والتي أهمها:
ـ توفير التماسك الاجتماعي وتحقيق المشاركة الشعبية.
ـ إقرار الأمن والنظام.
ـ القيام بالنشاطات الحياتية.
أ_ توفير التماسك الاجتماعي وتحقيق المشاركة الشعبية
يعتبر الإمام علي كرم الله وجهه أن إقامة العدل وتحقيق المساواة يؤديان إلى التماسك الاجتماعي بين المواطنين وإلى رضي الرعية وتعاونها فيما بينها وبين راعيها، وهذا شرط أساسي لبناء العِمارة وبلوغ التنمية وتمكينها من الانطلاق، وإلا اضطربت الأمور وانتفت الاستقامة، وخيم التخلف. يقول الإمام:
"وأعظم ما افترض ـ سبحانه ـ من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله ـ سبحانه ـ لكلٍ على كلٍ، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطُمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء. وإذا غلبت الرعية وإليها، أو أجحف الوالي برعيته اختلف هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثُر الإدغال في الدين، وتُركت محاج السنن، فعُمل بالهوى، وعُطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عُطل ولا لعظيم باطل فُعل، فهناك تُذل الأبرار، وتَعُز الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد1.
لقد نصح الإمام ولاته بأن يكونوا هم وخاصتهم ومن يلوذون بهم وعامة الناس سواء فلا يستأثرون بشيء من المغانم والمكاسب، وأمرهم بالاختلاط بالناس والخروج إليهم، والتعرف إلى حقائق أمورهم وعدم تركها إلى مقربين وبطانة تجعل من الحكم وسيلة لتحقيق المنافع، وتكوين مراكز قوى تستغل الحاكم لمصالحها ومآربها، وتوقع الظلم والقهر بالعباد يقول الإمام:
"إن أفضل قُرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودة الرعية، وإنه لا تظهر مودَتهم إلا بسلامة صدورهم، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور، وقلة استثقال دولهم، وترك استبطاء انقطاع مدتهم، فامسح في آمال وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله، ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضيعن بلاء امرئ إلى غيره"2.
بهذه العدالة، وبإعطاء كل ذي حق حقه، وإضافة الجهد إلى صاحبه، تستقيم الأمور، ويتحقق الرضي الشعبي عن سياسة الدولة، وتحرص الجماهير على دوام العهد الذي تنعم فيه بتلك الرعاية، وتتسع في ظله آمالهم ومشاركتهم بتحقيق عمارة البلاد وبلوغ التنمية.
لم يكتف الإمام بدعوة ولاته إلى توفير العدل لتحقيق التماسك الاجتماعي وحصول المشاركة الشعبية بل أمرهم بتوضيح سياسة الحكم وتفسيرها وشرح أسباب بعض التصرفات حتى لا يترك مجالاً للشك وإثارة الريب والشبهات، فتكون القناعة في الطاعة، والولاء عند الرعية، وتقوى العزيمة والإرادة على محاسبة النفس عند الحكام.
يقول الإمام علي: وإن ظنت بك الرعية حيفاً فاصحوا لهم بعذرك واعدل عنك ظنونهم بإصحارك، فإن ذلك رياض منك لنفسك ورفقاً برعيتك وإعذاراً تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق"3.
بمثل هذه السياسة: صراحة الحاكم ورعايته للمحكوم، وطاعة المحكوم وولائه للحاكم، تتحقق الأخوة، ويقوى الترابط الاجتماعي، وتقوم دعائم التنمية والازدهار و"جميل الأثر في البلاد" كما سماها الإمام علي كرم الله وجهه.
ب_ إقرار الأمن والنظام
يعطي الإمام كرم الله وجهه أهمية كبرى للأمن والنظام، فهما قوام الحكم وأمل الرعية، فإذا وجدا أمكن أن يتحقق كل خير، وإن فقدا فقد كل خير، وهما ضروريان لتحقيق العمارة والتنمية. يقول الإمام:
"ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة، والزم كلا منهم ما الزم نفسه"4.
ينصح الإمام الولاة بتطبيق مبدأ الثواب والعقاب واعتماد حفظة الأمن أو "جنود الله" كما سماهم ليتمكن من الضرب على يد كل خارج على النظام، وتحقيق الأمن داخل المجتمع. واعتبر الإمام أن حفظة الأمن ومُقري النظام هم الحصون التي يتحصن بها المجتمع، والدروع التي يحتمي بها، وهم الطريق المؤدي إلى الأمن فيقول: "فالجنود بإذن الله حصون الرعية، وزَيْن الولاة، وعز الدين، وسُبل الأمن وليس تقوم الرعية إلا بهم"5. صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا مررت ببلدة فيها سلطان فلا تدخلها، فإن السلطان رمح الله في الأرض)6.
ج_ القيام بالنشاطات الحياتية
يرى الإمام الجهود المادية المبذولة لتحقيق العمارة تساعد في قيام مجتمع على مستوى من الإشباع المادي المرتفع، وتساهم بالتالي في تأمين حاجاته الاجتماعية والروحية لذلك يتعين على كل فرد أن يحقق ذاته في المجال الاقتصادي، وعلى الدولة أن تستجيب للآمال المتسعة للأفراد، وتشجيعهم على تحقيق النجاح في ميادين العمل والإنتاج التالية: الزراعة، الصناعة، التجارة، والخدمات.
1- الزراعة
كانت الزراعة في الماضي، وهي كذلك اليوم، عماد الاقتصاد ودعامته. والإنتاج الزراعي هو النصيب الأكبر للدولة من الخراج أو ما يسمى بالدخل القومي لذلك طلب الإمام من الولاة أن يهتموا بالزراعة والغرس ويعطوها العناية التي تكفل لهذا القطاع صلاحيته وزيادة انتاجيته امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من زرع زرعاً أو غرس فله أجر ما أصابت منه العوافي) وفي رواية أخرى أنه قال: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة)7.
فالإنتاج الزراعي، في رأي الإمام، هو القاعدة الأساسية لإنتاج المجتمع، وجميع القطاعات الأخرى تقوم عليه، وإن بناء غيره من القطاعات لا يجدي شيئاً وأهله8.
دعا الإمام كرم الله وجهه إلى استثمار القطاع الزراعي بتخفيف الأعباء عن كاهل المزارع وتوسيع الموارد التي يملكها المجتمع، والعمل على زيادة الإنتاج الذي يعود بالخير والمنفعة على الأفراد، وليس إلى تكديسها في خزائن الدولة وجيوب الحكام، فيقول: "وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً"9. ثم يضيف قائلاً:
"ولا يثقُلنَّ عليك شيء خففت به المؤنة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك، وتزيين ولايتك"10.
إن هذا الذخر أو الادخار سوف يساعد الناس في تحسين أراضيهم، وتمويل الاستثمارات اللازمة لها، ويسند الدولة في أيامها العجاف الطارئة.
أما إذا تطلعت الدولة إلى جمع المال بتحميل القطاع الزراعي ما تستنزف كل إمكاناته فلن يبقى بأيدي أهله كما يقول الدكتور يوسف إبراهيم يوسف: "ما يمكنهم من بناء استثمارات جديدة به، فتتدهور قدراته (أي القطاع الزراعي) الإنتاجية، ويحدث به الخراب، أي التخلف الاقتصادي، وما يعرف اليوم بضعف إنتاجية هذا القطاع... ستحدث بالمجتمع ملمات ولن يجد المجتمع عندها في القطاع الزراعي كبير غَناء، ولن يتمكن المجتمع عندها من التغلب على ما حل به"11.
2- التجارة
إن القطاع التجاري في فكر الإمام كرم الله وجهه يقوم بدور أساسي في تحقيق التنمية الاقتصادية، حيث يسرع بها أو يحدها، ويلعب دوراً جوهرياً في تطور المجتمع وتقدمه.
لقد أبدى الإمام اهتماماً بهذا القطاع، وبالعاملين فيه داخلياً وخارجياً حيث يقول: "استوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوص بهم خيراً: المقيم منهم والمضطرب بماله، والمترفق بيده، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجُلابها من المباعد والمطارح في بَرِّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها"12.
فالتجارة تقوم بسد حاجات المجتمع ومتطلباته، والقائمين بها هم مواد المنافع وأصلها وأسبابها. لذلك نجد الإمام يعطي أهمية بالغة لعملية تنظيم القطاع التجاري بما يكفل تمتع المجتمع بخيراته، ووقايته من مضار انحراف القائمين به عن أداء مهمتهم، وتجنب الأضرار التي يلحقونها بأهلهم من جراء الاحتكار أو الغرس بالوزن، أو الزيادة في الأسعار يقول الإمام كرم الله وجهه: "تفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواش بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدلٍ، وأسعارٍ لا تجحُف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حُكرةً بعد نهيك إياه فنكل به، وعاقب في غير إسراف"13.
فإذا تأمنت عناية الدولة للقطاع التجاري، ورعايتها للتجار، ومنعت الاحتكار، وما يضر بالناس، وطبقت فكرة الثمن العادل، وضبطت الموازين والمكاييل، وحصلت السماحة في معاملات البيع والشراء فإن الإطمئنان سوف يصيب مجتمع المتقين وسوف تترسخ دعائم النهضة والازدهار.
3- الصناعة
لقد لقيت الصناعة، برغم بدايتها في عهد الإمام، عناية واهتماماً نظراً لما لمحه بفكرة الثاقب من الدور الهام الذي تقوم في تأمين الكفاية من السلع والخدمات الصناعية.
واعتبر الجنود وأهل الخراج والقضاة والكتاب والعمال وسائر الموظفين لا قوام لهم إلا بالتجارة والصناعة. يقول الإمام علي كرم الله وجهه: "لا قوام لهم جميعاً إلا بالتجار وذوي الصناعات، فيما يجتمعون عليه من مرافقهم، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم"14. ويقول الإمام في موضع آخر: "ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً"15.
إن مبدأ التخصص أو تقسيم العمل في الصناعات كما يسمونه حديثاً هو من المبادئ التي اعتمدها الإمام في القطاع الصناعي، والذي يؤدي إلى مستوى عال من الدقة والجودة. يقول الدكتور يوسف إبراهيم يوسف: "إن الصناع يبلغون من الرفق بالشيء وصناعته درجة لا يبلغها غيرهم، وهذا راجع إلى تخصصهم بالطبع، فهم يكفون المواطنين هذه المهمة، ويقدمون لهم سلعاً وخدمات لا يستطيع غير الصانع أن يوفرها لنفسه بالمستوى الذي يقدمه الصانع"16.
4- الخدمات
يعتبر الإمام علي كرم الله وجهه أن القضاة والعمال والكتاب وغيرهم من الموظفين المنتجين لمنتجات غير مادية يقومون بدور حيوي في تأمين الخدمات للناس على اختلافها، وتحقيق المنافع التي تشغل مكانة كبرى في سد حاجات مجتمع المتقين، وبلوغ العمارة والتنمية بشتى أنواعها، وقد أطلق عليهم وصف الصنف الثالث فقال: "لا قوام لهذين الصنفين (الجنود وأهل الخراج) إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب لما يحكمون من المعاقدة، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواص الأمور وعوامها"17.
إلى جانب الأصناف الأربعة (المزارعين، التجار، الصناعيين والموظفين) الذين أوصى بهم الإمام خيراً، هناك طبقة أخرى من اليتامى والمساكين، والعجزة، والمعاقين والمظلومين حظيت بمزيد رعاية الإمام وحسن اهتمامه. فهو القائل: "ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزَمْنى. فإن هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قِسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد... فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك لهم، وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال... وكُلِّ فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه، وتعهد أهل اليتم، وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا يَنْصَبُ للمسألة نفسه... واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك. وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك، وتُقعد عنهم جندك وأعوانك من احراسك وشُرَطِك حتى يكلمك مُكلِمُهم غير متتعتع"18.
إن نظرات الإمام كرم الله وجهه في المنهج الإسلامي لتحقيق التنمية يتصف بالعمق والصدق والعمومية والتي يمكن تلخيصها بما يأتي:
1- تحقيق التماسك الاجتماعي المترتب على إقامة العدل، وتحقيق المساواة بين المواطنين والمنعكس في شعور الجماهير بالرضا عن الحكم والمشاركة بعمليات التنمية.
2- توفير الأمن والنظام الذي يستمد جوهره وإمكانية تحقيقه في أمن كل إنسان على نفسه وممتلكاته وانفساح آماله وتطلعاته.
3- العناية بشؤون القطاعات الرئيسية للإنتاج بإعانتها وتنظيمها، وتدعيم قطاع الخدمات في شتى إدارات المجتمع، ورعاية الفقراء والعاجزين والمعاقين والمظلومين.
1 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، ص 94-95.
2 المرجع نفسه، م.س، ص 28-29.
3 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، ص42.
4 المرجع نفسه، م.س، ص24.
5 المرجع نفسه، ص26.
6 الجامع الصغير، ج1، ص85.
7 رواه البخاري.
8 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، جزء4، ص33.
9 المرجع نفسه، ص33.
10 المرجع نفسه، ص33.
11 يوسف، يوسف إبراهيم، استراتيجية وتكنيك التنمية الاقتصادية في الإسلام، م.س، ص168.
12 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، ص36.
13 المرجع نفسه،ص36-37.
14 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، ص26-27.
15 المرجع نفسه، ص36.
16 يوسف، يوسف إبراهيم، استراتيجية وتكنيك التنمية الاقتصادية في الإسلام، م.س، ص172.
17 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، جزء4، ص26.
18 الرضي، الشريف محمد، نهج البلاغة، م.س، جزء4، ص37-38.
----------------------------------------------
المصدر : التنمية في الإسلام ـ مفاهيم ـ مناهج وتطبيقات


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة علم الإقتصاد