موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

العبادات هي التعبير العملي



وكما ولد الإنسان وهو يحمل كل إمكانات التجربة على مسرح الحياة وكل بذور نجاحها من رشد وفاعلية وتكيف، كذلك ولد مشدوداً بطبيعته إلى المطلق، لأن علاقته، بالمطلق أحد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية ولا توجد تجربة أكثر إمداداً وأرحب شمولاً وأوسع مغزى من تجربة الايمان في حياة الإنسان ، الذي كان ظاهرة ملازمة للإنسان منذ أبعد العصور وفي كل مراحل التاريخ، فان هذا التلازم الاجتماعي المستمر يبرهن ـ تجريبياً ـ على أن النزوع إلى المطلق، والتطلع إليه وراء الحدود التي يعيشها الإنسان ، اتجاه أصيل في الإنسان مهما اختلفت أشكال هذا النزوع، وتنوعت طرائقه ودرجات وعيه.
ولكن الايمان كغريزة لا يكفي ضماناً لتحقيق الارتباط بالمطلق بصيغته الصالحة، لأن ذلك يرتبط في الحقيقة بطريقة إشباع هذه الغريزة وأسلوب الاستفادة منها، كما هي الحال في كل غريزة اُخرى، فان التصرف السليم في إشباعها على نحو مواز لسائر الغرائز والميول الاُخرى ومنسجم معها هو الذي يكفل المصلحة النهائية للإنسان، كما أن السلوك وفقاً لغريزة أو ضدها هو الذي ينمي تلك الغريزة ويعمقها أو يضمرها ويخنقها. فبذور الرحمة والشفقة تموت في نفس الإنسان من خلال سلوك سلبي، وتنمو في نفسه من خلال التعاطف العملي المستمر مع البائسين والمظلومين والفقراء.
ومن هنا كان لابد للإيمان بالله والشعور العميق بالتطلع نحو الغيب والانشداد إلى المطلق، لابد لذلك من توجيه يحدد طريقة إشباع هذا الشعور ومن سلوك يعمقه ويرسخه على نحو يتناسب مع سائر المشاعر الأصلية في الإنسان .
وبدون توجيه قد ينتكس هذا الشعور ويمنى بألوان الانحراف، كما وقع بالنسبة إلى الشعور الديني غير الموجه في أكثر مراحل التاريخ.
وبدون سلوك معمق قد يضمر هذا الشعور، ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان ، وقادرة على تفجير طاقاته الصالحة.
والدين الذي طرح شعار (لا إله إلاّ الله) ودمج فيه بين الرفض والإثبات معاً، هو الموجه.
والعبادات هي التي تقوم بدور التعميق لذلك الشعور، لأنها تعبير عملي وتطبيقي لغريزة الايمان، وبها تنمو هذه الغريزة وتترسخ في حياة الإنسان .
ونلاحظ أن العبادات الرشيدة بوصفها تعبيراً عملياً عن الارتباط بالمطلق يندمج فيها عملياً الإثبات والرفض معاً، فهي تأكيد مستمر من الإنسان على الارتباط بالله تعالى، وعلى رفض أي مطلق آخر من المطلقات المصطنعة. فالمصلي حين يبدأ صلاته بـ (الله أكبر) يؤكد هذا الرفض، وحين يقيّم في كل صلاة نبيه بأنه عبده ورسوله يؤكد هذا الرفض، وحين يمسك عن الطيبات ويصوم حتى عن ضرورات الحياة من أجل الله متحدياً الشهوات وسلطانها يؤكد هذا الرفض.
وقد نجحت هذه العبادات في المجال التطبيقي في تربية أجيال من المؤمنين، على يد النبي (ص) والقادة الأبرار من بعده، الذين جسدت صلاتهم في نفوسهم رفض كل قوى الشر وهوانها، وتضاءلت أمام مسيرتهم مطلقات كسرى وقيصر، وكل مطلقات الوهم الإنساني المحدود.
على هذا الضوء نعرف ان العبادة ضرورة ثابتة في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية، إذ لا مسيرة بدون مطلق تنشد إليه وتستمد منه مُثُلَها ولا مطلق يستطيع أن يستوعب المسيرة على امتدادها الطويل سوى المطلق الحق سبحانه; وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكل حتماً بصورة واُخرى عائقاً عن نمو المسيرة، فالارتباط بالمطلق الحق إذن حاجة ثابتة ورفض غيره من المطلقات المصطنعة حاجة ثابتة أيضاً، ولا ارتباط بالمطلق الحق بدون تعبير عملي عن هذا الارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار، وهذا التعبير العملي هو العبادة، فالعبادة إذن حاجة ثابتة.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام