موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

العقل .. وعالم ما بعد الموت
محمد جواد مغنية



ـ حرية الفكر:
كل شيء يقبل التساؤل والنقاش حتى الأديان. هذا حق لا ريب فيه، ولكن لمن يعطى هذا الحق؟ يسأل الطفل عن كل ما يراه: ما هذا؟ مَن أوجده؟ ولماذا وجد؟ ويفرض الأب السكوت على طفله لا لعجزه عن الجواب، بل لأن عقل السائل لا يتسع لشيء. ومهما عظمت مقدرة الأب فإنه لا يستطيع أن يدخل الأرض في البيضة. ومهندس العمار لا يمكنه أن يبني قصراً من حبل الرمل. وأجمل ما قيل في ذلك: ((انه عجز في المقدر لا فيا لقادر، وفي الفعل لا في الفاعل)). كذلك نحن الرجال كالأطفال في عقولنا لا ندرك النظريات والحقائق العلمية. وان تقدمنا في السن ما لم نؤهل أنفسنا بالدراسة للتفكير العلمي، فإذا درس الإنسان وتعلّم أصبح عالماً في مهنته فقط، أما في غيرها فيبقى على جهله كالطفل لا فرق بينه وبينه إلا أن الكبير يشعر بقصوره عن التفهم دون الصغير. إذ لا يحق للفيلسوف أن ينكر على الفلاح معرفته بالزراعة تماماً كما لا يسوغ للفلاح أن يناقش الفيلسوف في منطقه واستنتاجه، فكل منهما عالم بما يجهله الآخر، هذا، مع العلم إن ما توصل إليه العالم المتخصص في موضوع دراسته ليس إلا قطرة من بحر.
(وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) الإسراء/ 86.
إذن حرية الفكر تعطى لأصحاب الفكر الذين يمتازون بالقدرة على الملاحظة ومعرفة المقاييس، أما الجاهل فهو كالطفل لا يتسع فكره لإدراك الحقيقة، فكيف يسمح له بأن يكون صاحب الرأي في مجال العلم والتحقيق؟! إن اطلاق العنان للجهال والأطفال معناه الفوضى والانهيار. إن القوة شرط أساسي في الحرية بشتى أنواعها، فقوة الوعي والنضوج شرط لحرية التفكير، وقوة المال شرط لحرية الشراء، وقوة الصحة شرط لحرية العمل والسفر.
ومصطفى محمود يعترف بهذه الحقيقة، حيث قال في كتابه (الله والإنسان): ((لا تستطيع أن تختار شيئاً إلا إذا كنت تملك ثمنه، وإذا كنت لا تملك شيئاً تستطيع أن تنتحر))، وقال في مكان آخر: ((أستطيع أن أمتنع عن الأكل، ولكني لو امتنعت عن الأكل فإني أموت، وبالتالي تموت حريتي معي)) وعلى هذا الأساس يصح القول: ليس لإنسان أن يناقش ويرفض إلا إذا توفرت له قوة التمييز والمعرفة.
وقد تكلم المؤلف عن (الله والإنسان) وحق عليَّ وعلى كل منصف أن يعترف بأنه يملك الخبرة الكافية في كثير من أمراض المجتمع وعلاجها، وقد ظهرت هذه الخبرة في كلامه عن الحرية، ومنطق اللص، ومعنى التقدم، وأبدى ملاحظات دقيقة ونافعة. أما أسلوبه فعطر وزهر، وليته أطال الكلام عن الإنسان وحصر موضوعه فيه وحده، وترك الحديث عن ((الله)) لذوي الاختصاص، ولو فعل لسلم من تهمة القول بلا دليل، ومن الجزم في مقام الشك.
ـ الكلب المتدين:
قال المؤلف في صفحة 103:
((هل رأيت الخوف والذهول في عين الكلب، وهو يتأمل ورقة طائرة في الهواء. انه لا يرى الهواء .. وأراهن أنه ينظر إلى الورقة كما ينظر إلى مخلوق حي .. ويظن أن بها روحاً تحركها، انه كلب متدين)).
ونحن نفترض الصدق ـ جدلاً ـ في هذا القول، ولا ناقش مدعيه، لأننا نجهل لغة الكلاب، وقراءة أفكارها ولكننا نسأل الكاتب: إذا كان الأمر كذلك فماذا يكون؟ وما هي النتيجة اليقينية لخوف الكلب من الورقة؟! لنفترض أن النتيجة هي تدين الكلب، وان هذا التدين كان بدافع الخوف من الورقة فهل لازم ذلك ان تدين الفيلسوف الحكيم الذي يؤمن بالله تماماً كتدين الكلب؟! وإذا كانت عقول الفلاسفة وكل مَن آمن بما وراء الطبيعة ((كعقول)) الكلاب، فمن أي نوع هو عقل الكاتب؟! وبماذا نسمي هذا الاستدلال؟! هل نسميه دليل الاستقراء، أي ان الكاتب تتبع عقول المؤمنين بالله من الناس واحداً واحداً، ثم تتبع عقول الكلاب ((المتدينين)) الواحد بعد الآخر، ولما رآها متشابهة من جميع النواحي بهذه النتيجة الحتمية؟!
وأقسم قسم حق وصدق ان أدلة الملحدين كلها من هذا النوع تغرق في بحر من المتناقضات، وتتبخر مع الهواء بلا مدلول معقول.
ـ الموت:
قال في صفحة 118:
((النفس ظاهرة من ظواهر الجسم، إنها الحرارة المنبعثة من الفرن. وإذا انطفأ الفرن، وتحول إلى رماد انطفأت وضاعت ... إن دعوى الخلود الشخصي لا يسندها العلم كما ان الدواعي الاجتماعية التي استلزمت افتراض بقائنا بعد الموت قد انتهت ... ان دوران العجلة في المعمل يستطيع أن يولد حرارة وكهرباء وضوء ومغناطيسية ... والإنسان أيضاً ظاهرة مؤقتة .. وهو يموت كغيره من الظواهر)).
يعي الكاتب انه لا حشر ولا نشر ولا عالم آخر غير عالمنا هذا، ودليله إن النار إذا انطفأت تحول الحطب إلى رماد، وإن العجلة في مولد الكهرباء إذا توقفت انقطع التيار الكهربائي، فكذلك الإنسان إذا مات! وهذا الدليل تماماً كالدليل السابق على أن الإنسان المؤمن كالكلب المتدين الذي خاف من الورقة! ولا أدري ما هي العلاقة بين انسان مثقف كمصطفى محمود، وبين الحطب الذي يستعمله للطبخ والتدفئة، كما خفي عليَّ وجه الشبه بينه وبين العجلة في المعمل الذي يولّد الكهرباء؟! وهل تستطيع الأشجار والحيوانات والمصانع وكل ما في السماء والأرض ما عدا الإنسان أن تكتب مقالاً واحداً يشبه مقالاً من كلمات المؤلف في مجلة ((روز اليوسف))؟! وهل لها نثر كنثره الساحر الممتع؟! لا يا أستاذ ... إن الفرق كبير بينك وبين القلم الذي تكتب به.
ومهما يكن، فإن فريقاً من الذين أنكروا اليوم الآخر قد اعتمدوا لإنكارهم على أن العقل نوع من المادة، وانه في جميع وظائفه جزء من الجسم ينمو بنموه، ويفنى بفنائه، فهو أشبه شيء بالتنفس والإفراز، فكما انه لا تنفس ولا إفراز بلا جسم كذلك لا عقل بدونه.
ـ الجواب:
أولاً: إذا نظرنا إلى أدلة القائلين بأن العقل نوع من المادة نجدها مصادرة على المطلوب، حيث يتخذون أدلتهم من الدعوى نفسها. كقولك: ((زيد هو ابن نزار بدليل أن نزاراً أب لزيد)) هذا، ومع الموافقة والتسليم بأن العقل جسم فإن كثيراً من العلماء ذهبوا إلى أن الجسم لا يفنى، وان التغيرات التي تحدث فيه ان هي إلا انتقال وتحول من صورة إلى أخرى بطريقة مطردة.
ثانياً: من المعلوم لدى الجميع ان عمل العقل هو ملاحظة الحوادث، وتمييز بعضها عن بعض، والبحث عن عللها وأسبابها، ثم استنتاج الحقائق، وكثيراً ما تنتقل من حقيقة عقلية إلى أخرى مثلها، فتكون العملية ذهنية تأملية صرف بحيث لا يمكن بحال أن ترجعها ـ من غير جدل ونقاش ـ إلى المادة، لأن المادة لا تدرك نفسها بنفسها، ولا يكذب ما شهدت به. ان العين ترى الشمس جرماً صغيراً، والعقل تكذبها، فلو كان مادة كالعين لكذبت المادة نفسها وحكمت على الشيء الواحد بأنه كبير وصغير.
ثالثاً: إن العلماء قارنوا مقارنة دقيقة بين قوى الإدراك ووزن المخ، ومقدار سطحه، وعدد تلافيفه فلم يجدوا فرقاً بين رأس اينشتين ورأس أي همجي. ولو كان العقل هو المخ لتنوعت الرؤوس بتنوع العقول، ولوجب أن نجد فجوات وآفاق في المخ إذا نسي بعد الحفظ، وأن يحصل الالتئام إذا تذكر بعد النسيان. إن الآلة التي تعطيك صوتاً خاصاً أو حركة معينة لا تعطيك غيرها إلا إذا غيرت فيها وبدلت. والظواهر المختلفة المتباينة لا تصدر عن مادة واحدة بشكلها وموضوعها وحقيقتها.
وبتقريب ثانٍ إن للجسم خصائص، أظهرها إذا قبل شكلاً من الأشكال، كالتثليث فلا يقبل غيره من التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول، وإذا قبل صورة من نقش أو رسم فلا يقبل أخرى. فإذا رسمت صورة على لوحة أو ورقة فلا يمكنك أن ترسم عليها شيئاً غيرها حتى تمحي الأولى، أما العقل فتتراكم فيه الانطباعات المختلفة والصور المتنوعة من المحسوسات والمعقولات دون أن تمحي الأولى، بل تبقى كاملة، وتزداد قوة بالثانية، لأن الإنسان يزداد فهماً كلما ازداد علماً. وهذه صفة مضادة لصفات الأجسام التي يلحقها الفتور والكلل كلما تكدست عليها الأثقال.
أما القول بأن العقل لا يوجد من غير مخ فأمر لا أستطيع الجزم به وكل ما أعلمه أن الجسم لا يدرك من غير عقل، وان العقل اسم مجرد نطلقه على عملية التفكير والنظر، وانه يغاير المادة، والمادة تغايره. أما افتقار العقل إلى الجسم فعلمه عند ربي، كما إني ما زلت أجهل نوع العلاقة بين العقل والمخ، وهل هي علاقة حالّ ومحل، أو كعلاقة الحياة بالجسم، أو كعلاقة الآلة بمديرها. الله أعلم. وإذا عجزنا عن تصور وجود العقل بلا مخ، وعن نوع العلاقة بينهما فذلك لنقص فينا نحن لا لعدم امكانه في ذاته.
وبالتالي، فإن مصطفى محمود أنكر العالم الآخر، لأنه عجز عن رسم خريطة أو صورة هندسية له. أما سقراط وأمثاله من أرباب الذكاء والفكر فقد حكموا على الذين جحدوا يوم الحساب والجزاء بما يعملون من خير أو شر، حكموا عليهم بأنهم أموات في صور متحركة كصور الأفلام.
* المصدر : عقليات اسلامية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام