موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

في بداهة مفهوم الوجود
عبد الجبار الرفاعي



نشير إلى بعض النقاط التوضيحية التي تنفعنا في دراسة هذا الموضوع، هي:
النقطة الأولى: أن مباحث الوجود تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بمفهوم الوجود ومعناه، أي بالصورة الذهنية للوجود، والمباحث التي تتعلق بمفهوم الوجود، هي ثلاثة مباحث:
الأول: في بداهة مفهوم الوجود.
الثاني: في الاشتراك المعنوي للوجود.
الثالث: في أن مفهوم الوجود زائد على الماهية عارض لها.
وقسم يتعلق بحقيقة الوجود، وفي الفلسفة ندرس حقيقة الوجود، أي واقع الوود، ومصداق الوجود، ولا يتعلق بحثنا بمفهوم الوجود.
أما العلم الذي ندرس فيه المفاهيم فهو المنطق، فإنه يُعنى بالمعاني وتصنيفها وبيان العلاقات بينها في الذهن. بينما ندرس في الفلسفة أحوال الوجود من حيثُ هو موجود، أي أحوال الموجود وحقيقة الوجود وما يتعلق بها.
النقطة الثانية: يُذكر عادة في كتب المنطق أن العلم ينقسم إلى قسمين: تصور وتصديق.
والتصور ينقسم إلى قسمين، تصور بديهي وتصور نظري. والمقصود بالتصور البديهي، أن صورة الشيء تحصل في الذهن بأدنى التفات أو بدون حاجة إلى نظر وتأمل، بينما التصور النظري، هو أن صورة الشيء في الذهن تحتاج إلى تأمل ونظر. والتصديق أيضاً قسموه إلى قسمين: تصديق بديهي وتصديق نظري، والتصديق البديهي هو الذي لا يحتاج إلى برهان واستدلال، بينما النظري هو الذي يحتاج إلى عملية استدلال، ففي كتب الهندسة المستوية مثلاً، تذكر عادة بديهيات في بداية هذه الكتب ثم تذكر النظريات، فيقال مثلاً: الواحد نصف الاثنين، وإذا أُضيفت كميات متساوية إلى أخرى متساوية تبقى النتائج متساوية ... الخ، فهذه بديهيات لا تحتاج إلى برهان، بعد ذلك تذكر نظريات، مثل: أن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة، فهذه نظرية تحتاج إلى برهان.
وهنا نقول أن تصور مفهوم الوجود هو تصور بديهي وليس تصوراً نظرياً، لأنه لا يحتاج إلى نظر وتأمل بل بأدنى التفاوت يُدرك.
النقطة الثالثة: يُذكر عادة في كتب المنطق تقسيم التعريف إلى: تعريف لفظي، وهو استبدال لفظ بآخر، كما يُستبذل لفظ الأسد بلفظ السبع، ولفظ القط بلفظ الهر عندما يقال: ما هو القط؟ فيكون الجواب هو الهر. فهذا في الواقع ليس تعريفاً بل هو استبدال بلفظ آخر.
النوع الثاني من التعريف هو التعريف الحقيقي، لأن التعريف اللفظي تسامحاً يقال عنه تعريف. والتعريف الحقيقي ينقسم إلى: حد ورسم، والحد ينقسم إلى: حد تام وحد ناقص، والرسم كذلك.
وفي الحد التام عندما نعرف شيئاً نعرفه بالجنس القريب والفصل القريب، فعندما نعرف الإنسان نقول: حيوان ناطق. وبالحد الناقص عندما نعرف الإنسان نعرفه بالجنس البعيد والفصل القريب، فنقول: جسم ناطق، أو بالفصل القريب خاصة، فنقول: ناطق.
وفي الرسم التام نعرفه بالجنس القريب وبالخاصة، فنقول: حيوان ضاحك. وفي الرسم الناقص نعرفه بالخاصة فقط فنقول الإنسان: ضاحك. والتعريف الحقيقي هو الحد والرسم.
النقطة الرابعة: ما هو ملاك بداهة المفهوم؟ حينما نقول هذا المفهوم بديهي وذاك المفهوم نظري، فما هو الملاك في كون هذا المفهوم بديهياً وذاك المفهوم نظرياً؟
الملاك في بداهة المفهوم يعتمد على طبيعة هذا المفهوم، لأن المفاهيم تنقسم إلى قسمين: مفهوم بسيط ومفهوم مركب، وهذا نظير المركبات والعناصر البسيطة، فمرة يكون عنصر بسيطاً كالهيدروجين، ومرة يكون مركباً من المركبات كالماء، الذي هو مركب من الهيدروجين والأوكسجين، وهكذا المفاهيم فتارة تكون بسيطة وأخرى تكون مركبة، والمفهوم المركب عندما يحل في الذهن، فتارة يعرفه الإنسان بهيئته وحالته التركيبية، بما هو مركب ولا يعرف عناصره، وأخرى يعرفه بهيئته التركيبية كما يعرف العناصر المركب منها، أي تارةً يلاحظ الماء بما هو ماء بحالته التركيبية، وأخرى يعرف أن هذا الماء مؤلف من هيدروجين وأوكسجين، وإن المعرفة الدقيقة لهذا المركب تقتضي تحليله إلى عناصره الأولية والبسيطة المكوّن منها، فإذا أردنا معرفة الماء معرفة علمية لابدّ أن نحلل الماء تحليلاً كيميائياً فيزيائياً ونتعرف على العناصر المكوّن منها فتكون حينئذ المعرفة علمية ودقيقة. وهكذا المفاهيم العقلية، فتارة يكون المفهوم مفهوماً بسيطاً، غير مركب، فبمجرد الالتفات إليه يمكن معرفته وتصوره، وأخرى يكون المفهوم مركباً كمفهوم الإنسان، فمفهوم الإنسان ماهية، والماهية تتركب من أمرين ـ عنصرين عقليين ـ هما جنس وفصل، أي مما هو أعم وهو الجنس، ومما هو مساو وهو الفصل، فإذا أردنا معرفة الماهية معرفة دقيقة، فلابدّ أن نحلل ونجزِّئ الماهية، نحللها إلى عناصرها العقلية المكونة لها، وهي الحيوان والناطق في ماهية الإنسان، وحينئذ تتم معرفة الإنسان معرفة صحيحة.
وعلى هذا الأساس نقول إذا كان المفهوم مركباً يُجري الذهن عليه عملية تحليل، وهذا التحليل هو التعريف، يحلله إلى عناصره الأساسية، إلى جنسه وفصله، وإذا كان المفهوم بسيطاً غير قابل للتحليل والتجزئة، فلا يحتاج الذهن إلى تحليله إلى عناصره، لأنه ليس هناك عناصر مؤلفة له، كما أنه غير قابل للتحليل، ولذلك فهذا المفهوم البسيط هو مفهوم بديهي وليس مفهوماً نظرياً.
ولهذا كان يُعبِّر القدماء عن مبحث التعريف بمبحث التحليل، كما نرى ذلك في تراث أرسطو وتبعاً له الفارابي.
إذا اتضحت هذه النقاط، نقول: هل يحتاج مفهوم الوجود إلى التعريف أو هو مستغن عن التعريف؟ فإذا كان محتاجاً للتعريف يكون نظرياً، لأنه تتم معرفته بواسطة غيره، مثلما تتم معرفة الانسان بواسطة، الحيوان والناطق، وإذا كان مستغنياً عن التعريف، تتم معرفته ويتم العلم به ويتعقله الإنسان بنفس ذاته من دون حاجة لشيء آخر.
الصحيح إن مفهوم الوجود، مفهوم بسيط، غير مركب، فهو غير محتاج لتوسيط شيء آخر في معرفته ذكر الطباطبائي دليلين لبساطة مفهوم الوجود، هما:
الأول: لأن الوجود ظاهر بنفسه مظهر لغيره. يشبهون الوجود عادةً بالنور، فكما أن النور ظاهر بنفسه مظهر لغيره، كذلك الوجود كالنور ظاهر بنفسه مظهر لغيره، والمعرِّف لابدّ أن يكون أجلى وأظهر من المعرَّف، لأن عملية التعريف، مثل الضوء الذي نسلطه على شيء غير واضح فيكشفه لنا، وهكذا التعريف يكشف وينير لنا الشيء المعرَّف، أما إذا كان هذا الشيء المعرَّف هو بنفسه واضحاً ومضيئاً فحينئذ لا يحتاج إلى تعريف، فتارة تبحث عن شيء في مكان مظلم فتحتاج إلى المصباح، فأنت تحتاج للمصباح حتى تصل إلى هذا الشيء، وأخرى أنت تريد أن تصل إلى مصباح مضيء، فلا تحتاج إلى أن تحمل مصباحاً بيدك لأجل الوصول لذلك المصباح.
هكذا الوجود فهو مضيء بنفسه كما أنه يضيء غيره، ظاهر بنفسه ومظهر لغيره فليس هناك شيء أوضح وأعرف من الوجود، بل قال ابن سينا في كتابه «النجاة»: أن الوجود مبدأ أول لكل شرح، وهو يعني بذلك أن كل شيء لابدّ أن يُعرف بواسطة الوجود، لأن تعريف أي شيء يحتاج لتصور سابق عن الوجود، فأنت عندما تريد أن تُعرِّف (أ) تقول هو (ب) فهذه كلمة (هو) تعني الوجود، إذاً لابدّ أن يكون لديك تصور سابق عن الوجود حتى تتمكن من تعريف (أ)، فليس هناك أوضح من الوجود، بل ليس هناك غير الوجود أساساً.
أما ما ذُكِر من تعاريف للوجود مثل «هو الثابث العين» أو «الوجود هو الذي يمكن أن يُخبر عنه»، فإن هذه التعاريف لفظية وليست تعاريف حقيقية، حيث قال الطباطبائي: هي من قبيل شرح الإسم.
الثاني: إذا أردنا تعريف شيء فلابدّ أن نُعرِّفه بما هو أعم وهو الجنس، وبما هو مساو وهو الفصل. والوجود ليس هناك ما هو أعم منه، إذاً فلا جنس له، كما أن الوجود لا فصل ولا خاصة له، ومعلوم أن التعريف إنما يتم بهذه الأمور الثلاثة، فالتعريف إما حد أو رسم، والحد والرسم يتألفان من هذه الثلاثة: الجنس، والفصل، والخاصة، كما أن مقسم الجنس والفصل والخاصة الذي يتفرعان عنه هو الماهية، والماهية في مقابل الوجود، إذاً فهذه ماهيات والماهية مقابلة للوجود. وعلى هذا ما دام المعرِّف يتألف من هذه الأمور وهذه الأمور مقابلة للوجود فلا معرَّف حقيقي للوجود، والتعاريف التي تذكر هي عادة تعاريف لفظية.
--------------------------------------------------
* دروس في الفلسفة الاسلامية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام