موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

في إثبات الغاية فيما يعد لعباً، أو جزافاً، أو باطلاً، والحركات الطبيعية، وغير ذلك
عبد الجبار الرفاعي



ـ الإشكال الأول:
يرتبط هذا الإشكال بالفواعل الطبيعية، كالنار التي تفعل الإحراق، فإنها فاعل طبيعي، والمعدة عندما تهضم الطعام فإنها فاعل طبيعي، أي تمارس بطبيعتها الهضم. وهنا قد يقال بأن الفواعل الطبيعية لا غاية لها في أفعالها، كالمعدة عندما تهضم، والنار عندما تحرق، لأنه قد يحصل توهم عند بعض بأن الغاية لابد أن تكون معلومة للفاعل، ولابد أنت كون مرادة للفاعل، فإذا لم يكن الفاعل عالماً بالغاية حينئذ لا تكون له غاية، وإذا لم يكن الفاعل مريداً للغاية فلا تكون له غاية أيضاً، لأن الغاية إنما توجد إذا كان الفاعل عالماً ومريداً للفعل. ومن المعلوم أن الفواعل الطبيعية ليست عالمة ولا إرادة لها، وعلى هذا الأساس قد يقال بأن مثل هذه العلل الفاعلية لا غاية لها، إذ لا علم لها، وفعلها ليس مراداً لها.
ـ جواب الإشكال الأول:
إنّ العلة الغائية هي الكمال الأخير الذي يتوجه إليه الفاعل في فعله، والفاعل إن كان عالماً في فعله فغايته ما لأجله الحركة، وإن كان الفاعل غير عالم بفعله، وليس له شعور، فغايته ما تنتهي إليه حركته، فالغاية تارة تكون مرادة للفاعل وأخرى تكون غير مرادة له.
من هنا يكون للمعدة غاية في فعلها، ويكون للنار غاية في إحراقها للحطب، لأن الغاية في مثل هذه الفواعل التي لا علم لها بفعلها هي ما تنتهي إليه بحركتها، وليس ما لأجله الحركة، لأن ما لأجله الحركة هو الغاية في حالة الغاية المرادة إذا كان الفاعل عالماً.
ـ الإشكال الثاني:
إنّ الإشكال الثاني والثالث يرتبطان بالفاعل العالم بفعله.
وملخص الإشكال الثاني: أن كثيراً من الأفعال الاختيارية التي تصدر من فاعل مختار، من فاعل يعلم بفعله، وفاعل مريد، مثل هذه الأفعال لا غاية لها، أي ليس لها علة غائية.
فمثلاً الصبي عندما يتحرك حركات عبثية، يقفز، ويركض، ويتصرف بطريقة عبثية، فإن مثل هذه الحركات والأفعال لا غاية لها. أو الانسان الذي عنده عادة معينة، كأن يعبث بلحيته فهذا لا غاية له، أو المريض الذي يتقلب من الألم من جانب إلى جانب، قد يقال إنه لا غاية له.
ـ جواب الإشكال الثاني:
وقبل بيان الجواب يذكر الطباطبائي هنا مقدمة، وفي ضوئها يتضح الجواب، وهي: أن أي علة فاعلية لا تخلو من غاية، أي لكل فعل من الأفعال سواء كانت الفواعل طبيعية، أو إرادية، لابد أن تكون له غاية، فإن الفاعل الإرادي المختار العالم بفعله، كالانسان الذي يريد أن يسافر إلى مكان معين ويمنعه مانع معين، أو الانسان الذي يعبث بلحيته أو بسبحته، أو المريض الذي يتقلب في فراشه من الألم، فهذا الفاعل إذا لاحظنا فعله، سنجد أن هناك مبادئ متعددة.
ـ المبادئ الثلاثة:
للأفعال الإرادية عدة مبادئ أو عدة أسباب وهي:
الأول: المبدأ القريب.
الثاني: المبدأ المتوسط.
الثالث: المبدأ البعيد.
فهذا الإنسان الذي يسافر إلى مكان معين، هناك مبدأ قريب لفعله، وهناك مبدأ متوسط، وهناك مبدأ بعيد، أما المبدأ القريب لهذا الانسان الذي يمشي، فهو القوة العاملة في العضلات، أي تحريك العضلات، فحركات العضلات هي التي تسبب حركة الرِّجْل خطوة خطوة نحو هدفه، وهذه العضلات هي من الفواعل الطبيعية، ولا إشكال في أن عمل العضلات وحركة الأرجل مَثَلُها مَثَلُ عمل المعدة، فكما أن المعدة من الفواعل الطبيعية كذلك العضلات.
إذاً حين نبحث عن غاية لهذا الفاعل الطبيعي، وهو حركة العضلات وحركة الأرجل، فلابدّ أن نبحث عن هذه الغاية في نطاق الفاعل الطبيعي لا في نطاق غاية الفاعل الارادي، والفواعل الطبيعية غايتها هي ما تنتهي إليه حركتها، وهي غاية غير مرادة كما هو معلوم، وهذا لا ينافي أن النفس هي التي تحرك العضلات. والنفس في مرتبة القوى الطبيعية لا تعلم بما تفعل، أي في مرتبة فعل المعدة أو فعل العضلات وفعل الأرجل. ولهذا نقول إن لهذا المبدأ القريب وهو حركة العضلات، أي الفاعل الطبيعي غاية، ولابدّ أن تكون غايته من سنخه، من سنخ غاية الفاعل الطبيعي لا من سنخ الفواعل الارادية.
أما بالنسبة للمبدأ المتوسط وهو الإرادة التي تنشأ من الشوق، أي تحصل لدى الانسان من رغبة وشوق للسقر إلى المكان الفلاني، والارادة تسبب الحركة، لأن الانسان إذا أراد حَرَّك أرجله، فالمبدأ المتوسط هو الشوق الذي تنبثق عنه إرادة وإجماع، والارادة هي المبدأ وهي السبب في تحريك العضلات، وعلى هذا الأساس تكون الارادة هي المبدأ والفاعل المتوسط، والارادة هي من نوع الفواعل الارادية، وعلى هذا الأساس فإن مثل هذا الفاعل إذا بحثنا عن غايته فلابد أن تكون غايته من سنخه، أي من سنخ الفاعل الارادي، وهي ما لأجله الحركة، أي غاية مراده.
أما المبدأ البعيد، وهو المبدأ الثالث، الواقع بعبد المبدأ المتوسط، فهو العلم، فالانسان قبل أن يحصل لديه شوق وتنبثق إرادة من هذا الشوق ويتحقق المشي، لابدّ أن تحصل في ذهنه صورة للفعل الذي سيقوم به، وهذه الصورة جزئية، فعندما تريد أن تسافر إلى زيارة الإمام الحسين (ع) تحصل لديك صورة لهذا الفعل الذي ستقوم به، وهذه الصورة هي المبدأ العلمي، وهذه الصورة نفسها يستتبعها الشوق الذي تتبعه الإرادة ثم تحريك العضلات. إذاً لابدّ أن يتصور الفاعل الفعل، وتصوره هذا هو المبدأ البعيد، أو قلْ هو المبدأ العلمي، وهو يكون في رتبة سابقة على المبدأ الإرادي المتوسط.
ـ قد تتطابق المبادئ في الغايات وقد لا تتطابق:
قد يقال: هل غايات هذه المبادئ متطابقة؟ الجواب: بالنسبة للمبدأ القريب، أي الفاعل الطبيعي، فإن غايته ما تنتهي إليه الحركة، بينما المبدأ المتوسط والمبدأ البعيد ليسا من الفواعل الطبيعية وإنما هما من الفواعل الارادية، وغايتهما ما لأجله الحركة.
وعلى هذا الأساس فقد تتطابق غايات المبادئ الثلاثة، وقد لا تتطابق، فمثلاً إذا لاحظنا الطفل الذي يقفز من هنا إلى هناك، فإن هذا الطفل ابتداءً يتصور القفزة، ثم يتحقق لديه شوق وتنبثق منه ارادة، ثم بعد ذلك يتحقق القفز منه. فإذا لاحظنا المبدأ البعيد أي العلم بالقفزة فهو متحقق، ثم المبدأ المتوسط وهو الشوق والارادة فإنه متحقق ثم المبدأ القريب وهو القفز من خلال حركة العضلات فهو أيضاً متحقق. وهذه المبادئ متطابقة، لأن الغاية من المبدأ القريب هي الكون في المكان الآخر الذي يقفز إليه الطفل. والغاية من المبدأ المتوسط وهو الشوق والارادة، في أن يقفز للمكان الفلاني متحققة، والغاية من المبدأ البعيد وهو التصور والعلم، وهو أن يتصور أن يكون في المكان الفلاني متحققة أيضاً. فهنا الغايات الثلاث متطابقة في ما انتهى إليه الفعل، وهو أن يكون الطفل في المكان الفلاني الذي قفز إليه.
وقد لا تتطابق هذه المبادئ الثلاثة، فلو أن شخصاً ما أراد أن يذهب إلى المكان الفلاني حتى يشترى سيارة مثلاً، فإذا لاحظنا المبدأ القريب له وهو حركة العضلات، وغاية حركة العضلات الذي هو فاعل طبيعي هو ما تنتهي إليه حركة العضلات، وهو الوصول إلى معرض السيارات، هذا بالنسبة للمبدأ القريب أو الفاعل الطبيعي وهو حركة العضلات، فإن غايته الوصول إلى معرض السيارات الفلاني. أما بالنسبة للمبدأ المتوسط وهو الشوق والاردة، أي ارادة شراء السيارة، والمبدأ البعيد هو تصور شراء السيارة، أي العلم بذلك، فإن للمبدأ المتوسط والبعيد غاية غير الوصول إلى معرض السيارات، وإنما هي شراء السيارة، أى ما لأجله السير أو الحركة أو الوصول إلى معرض السيارات، وليس غاية الارادة ـ المبدأ المتوسط ـ وغاية العلم والتصور ـ المبدأ البعيد ـ هي ما تنتهي إليه الحركة بل ما لأجله الحركة، أي ما لأجله الوصول لمعرض السيارات، وهو شراء السيارة، ومن الواضح أنه ليس هناك تطابق.
ـ المبدأ الفكري:
قد يتصور الإنسان شيئاً معيناً ثم بعد ذلك يفكر أن هذا الفعل الذي تصوره، أفيه نفع له أم ليس فيه نفع له؟ ففي مثل هذه الحالة إذا تصور أنه يشتري سيارة ثم عندما يفكر أن في شراء السيارة خيراً له، فيحصل لديه تصديق أن هذا الفعل الذي يفعله خير له، ففي مثل هذه الحالة نسمي المبدأ ـ أي تصور الفعل والعلم بأن شراء السيارة خير له ـ اصطلاحاً بالمبدأ الفكري، إن الفاعل هنا تأمل وفكر ثم علم وصدّق بأن الفعل فيه خير له، ولذلك يوجد مبدأ فكري إلى فعله هذا، ونقول في مثل هذه الحالة أن المبدأ العلمي يمثل مبدأ فكرياً.
ـ المبدأ الخيالي:
وفي حالات أخرى قد يتصور الفاعل الفعل إلا أن الفاعل لا يتأمل ولا يفكر أن في الفعل فائدة وخير له، من قبيل عبث الطفل وقفزاته، أو حركة الانسان أحياناً بلا غرض معين، فهنا يوجد مبدأ علمي لكنه ليس بفكري، أي يوجد تصور علمي فقط، وفي ثمل هذه الحالة يقال: إن هذا المبدأ الذي لا يكون مقترناً بتصديق الفاعل بأن الفعل خير له يسمى بالمبدأ الخيالي.
فإذا كان المبدأ العلمي هو المبدأ الفكري فإن شراء السيارة يمثل غاية عقلانية، وعلى هذا الأساس نقول في هذه الحالة الغاية للمبدأ القريب هي الوصول للمعرض، أي ما تنتهي إليه الحركة، بينما الغاية للمبدأ المتوسط والبعيد هي شراء السيارة، وهنا لا يوجد تطابق بين الغاية في الفاعل الطبيعي والفاعل الارادي، وهو المبدأ المتوسط أي الشوق والارادة، والمبدأ العلمي المقترن بتصديق أن في شراء السيارة خيراً له.
أما بالنسبة للطفل الذي ليسه له مبدأ فكري، ففي هذه الحالة يوجد للفعل مبدأ خيالي ولا يوجد مبدأ فكري، والوهم الذي يحصل ويقال: أن فعل الصبي لا غاية له ناشئ من أن بعضاً يتصور أنه لابد أن تكون هناك غاية فكرية أو غاية عقلائية، لأنه إذا كانت له غاية فكرية فإنها تكون غاية لغير مبدأ، لأن المبدأ نفسه مبدأ خيالي، والمبدأ الخيالي لا تكون غايته عقلائية.
ـ لكل فاعل غاية بحسبه:
كل فاعل لابد أن تكون لفعله غاية، فإذا كان الفاعل من الفواعل الطبيعية تكون غايته هو ما تنتهي إليه الحركة، وإذا كان الفاعل فاعلاً إرادياً، فإن كان المبدأ البعيد فكرياً فغايته عقلائية، وإذا لم يكن المبدأ البعيد فكرياً فلا يجب أن تكون له غاية عقلائية.
وبتعبير آخر عندما تريد أن تشتري شيئاً فلا شك إنّك إذا شئت أن تشتري كتاب بداية الحكمة بدينار مثلاً، فإذا دفعت المبلغ تحصل على الكتاب، لكن لو أردت كتاب تفسير الميزان فإن قيمته عشرة دنانير مثلاًن فلا يمكن افتراض حصولك على تفسير الميزان بسعر بداية الحكمة، ولذلك لا يصح أن نقول: لماذا لا يمكن أن تحصل بدينار واحد على تفسير الميزان؟!
إذا اتضح ذلك نقول: لماذا نتوقع من فعل الصبي غاية عقلائية فكرية، بينما فعل الصبي صادر من مبدأ خيالي غير عقلائي وغير فكري، فلابد أن نتوقع الحصول على غاية فكرية من فعل الانسان الذي يتصور ويصدق بالفائدة والخير من فعله.
وعلى هذا الأساس يتضح أنّ الإشكال الذي يقول: إن بعض الأفعال لا غاية لها لم ينتبه إلى هذه النكتة، لأنه لكل مبدأ من مبادئ الفعل غاية في الحقيقة بحسبه، ولكن نعرفها بعد التدقيق والتأمل.
ـ الإشكال الثالث:
نلاحظ أحياناً إن الفاعل المريد في أفعاله الارادية لا يصل إلى كماله المطلوب وينقطع في وسط الطريق، يمنعه مانع، فمثلاً عندما يسافر الانسان إلى مدينة معينة، في الطريق قد يمنعه مانع من مواصلة سيره، فإذا كان لكل شيء غاية وهي الكمال الأخير له، فإن هذا الكمال الأخير للشيء لم يتحقق، لأن هذا الانسان لم يصل لغايته.
ـ جواب الإشكال الثالث:
فهنا إذا لاحظنا هذا الانسان فإن له غاية، ولكن بسبب التضاد والتزاحم بين العلل والمعلولات، قد لا يصل إلى الغاية المرادة له، وحينئذ لا يصح أن نقول أن هذا المسافر لا غاية له، وإنما نقول أن هناك غاية ولكن وجد مانع، وهذا المانع هو الذي سبب عدم بلوغ هذه الغاية، أي تذعر تحقيق هذه الغاية. فعندما نقول: كل فاعل لفعله غاية، نقصد أن هذا الفاعل إذا تخلص مما يمنعه من الوصول إلى غايته ستتحقق غايته، وإذا منعه مانع من الوصول إلى غايته فسوف لا تتحقق غايته ولن يصل إلى غايته.
وعلى هذا الأساس نقول: أن لكل فاعل من الفواعل سواء كان طبيعياً أو إرادياً غاية بحسبه ينتهي إليها في فعله إن لم يمنعه مانع.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام