موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

ينقسم العلم الحصولي إلى بديهي ونظري
عبدالجبار الرفاعي



ـ معنى البديهي:
المقصود بالبديهي: هو ما لا يحتاج في تصوره أو التصديق به إلى اكتساب أو تحليل ونظر، فعندما نريد تصور مفهوم الوجود لا نحتاج إلى تأمل ونظر، لأن تصور مفهوم الوجود بديهي. كما لا نحتاج إلى دليل للتصديق بأن الكل أكبر من الجزء، لأن التصديق بذلك بديهي.
إذاً العلم ينقسم إلى: تصور وتصديق، وكل منهما ينقسم إلى: بديهي ونظري.
ـ العلوم النظرية تنتهي إلى البديهية:
إن البديهي هو الأصل، يعني أن التصديق البديهي تصديق بالذات، وأما التصديق النظري فلابد أن يستند إلى التصديق البديهي.
وبعبارة أخرى أن التصديق البديهي أقدم رتبة من التصديق النظري، وإن التصديق البديهي بالنسبة إلى التصديق النظري كالواجب بالنسبة إلى الممكن، فإن الواجب وجوده بالذات والممكن وجوده بسبب وجود الواجب يعني أوجده الواجب، كذلك التصديق البديهي يكون التصديق به بالذات، بينما التصديق النظري ينتهي إلى التصديق البديهي.
كذلك الكلام في التصور البديهي والنظري، فإن التصور النظري ينتهي إلى التصور البديهي.
ولو لم نقل إن ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات لنجم عن ذلك التسلسل، لأنه إذا كان التصديق مثلاً بأن مجموع زوايا المثلث 0180 يعتمد على قضية نظرية، يعني تحتاج إلى برهان، فإن كانت هذه القضية النظرية تعتمد على قضية نظرية أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، فيتسلسل، والتسلسل محال.
إذاً لابد أن ننتهي إلى تصديق بديهي، نصدق به بالذات من دون حاجة إلى برهان، وكذلك لابد أن ننتهي إلى تصور بديهي، نتصوره بنفسه من دون حاجة إلى توسط سواه في تصوره.
ـ أنواع البديهيات:
إن البديهيات التي ذكروها في المنطق تنتهي إلى ست طوائف، وهي:
1 ـ الأوليات.
2 ـ الفطريات.
3 ـ المحسوسات.
4 ـ المتواترات.
5 ـ التجريبيات.
6 ـ الوجدانيات.
وأول هذه البديهيات، يعني أوضحها وأقدمها وأولاها بالقبول والتصديق هي الأوليات، والأوليات إنما تسمى قضايا أولية لأن العقل يصدق بها أولاً وبالذات، وهي متقدمة على غيرها من البديهيات بالتصديق بها، وهذه يكفي بالتصديق بها تصور الموضوع والمحمول. ففي قضية (النقيضان لا يجتمعان أو اجتماع النقيضين محال)، هذه قضية الموضوع فيها اجتماع النقيضين والمحمول محال، فالتصديق بهذه القضية يتوقف على تصور معنى اجتماع النقيضين وتصور معنى محال.
لكن قد يقال: إذا كانت هذه القضية بديهية فلماذا أنكرها بعض؟
الجواب: إن الإنكار ينشأ من عدم التصور الصحيح للموضوع والمحمول، وإلا فلو تصور هذا البعض الموضوع والمحمول تصوراً صحيحاً لما أصبحت لديه شبهة، لأن المشكلة في القضايا العقلية غالباً ما تنشأ من التباس تصور هذه القضايا تصوراً صحيحاً دقيقاً.
ـ أولى الأوليات:
ثم إن هذه الأوليات نفسها هي مرتبة أيضاً، فإن هناك قضية تعتبر أولى الأوائل، يعني هي أول قضية يصدق بها الذهن، وهي قضية استحالة اجتماع النقيضين.
وأولى الأوائل هذه قضية منفصلة حقيقية، فإن القضية الشرطية تنقسم إلى: قضية منفصلة ومتصلة، والمنفصلة تنقسم إلى: حقيقة ومانعة جمع ومانعة خلو، والحقيقة يستحيل فيها الاجتماع والارتفاع، مثل: العدد الصحيح إما زوج أو فرد.
وإن هذه القضية تستند عليها كل قضية، حتى القضايا البديهية تعتمد على هذه القضية، من قبيل الكل أعظم من الجزء، فهذه القضية لا يصدق بها الانسان إلا إذا سلّم وصدّق بقضية استحالة اجتماع النقيضين.
ـ تتمة: في مناقشة السفسطائيين والمشككين:
إن الطباطبائي في هذه التتمة أشار إلى عدة نقاط، وهي:
السفسطة:
وهذه الحركة كان يحترفها مجموعة من المحامين والمعلمين، وكانت هذه الحركة تنكر العلم والمعرفة، ولا تسلم بأي شيء. إلا أن الحكيم سقراط استطاع أن يهزم هذه الحركة ويدافع عن أسس التفكير الصحيح.
ويمكن مناقشة السفسطائي المنكر للحقائق بأن نقول له: أتسلم أن هذا الارتياب والشك في الحقائق موجود لديك أم لا تسلم؟
وبعبارة أخرى نقول له: أنت تشك في أن هذا كتاب، فهل تشك في شكك هذا؟ فإن قال: لا أشك في شكي، فعلاً أنا شاك. نقول له: أنت اعترفت بأنك تعلم بشكك، يعني أثبت حقيقة من الحقائق، وهي تسليمك واعترافك بشكك، وحينئذ إذا سلّم بذلك فيعني انه سلّم أيضاً في مرتبة سابقة باستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، لأنه لو لم يسلم بذلك لما اعترف بشكه. ومعنى ذلك أنه يعترف بمعلومتين:
الأولى: إنه يعترف بأولى الأوائل، استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما.
لكن قد يقال: ما هي علاقة ذلك بهذه؟ فنقول: لو لم يؤمن بذلك ولم يسلم به، لكان معنى ذلك أنه يشك ولا يشك، فتصديقه بأنه يشك يعني نفيه لتكذيبه بأنه يشك، وهذا معنى اعترافه باستحالة اجتماع النفي والإثبات، فحينئذ إذا اعترف بذلك سوف يصدق بأولى الأوائل.
الثانية: إنه يعترف ويصدق بشكه، يعني هو يعلم بأنه يشك، فحينئذ ننتقل إلى باقي القضايا فنقول له: أأنت موجود أم لا؟ قد يقول: أنا غير موجود، فنقول له: إذا كنت غير موجود فما معنى هذا الشك؟ أهو صادر منك أم من غيرك؟ فلابد أن يقول: هذا الشك صادر من عندي. إذاً آمن أيضاً بوجود نفسه، وهكذا باقي الأشياء.
ولكن لو فرضنا إن هذا الذي يشيك لم يعترف بأنه يشك، وقال: أنا أشك في شكي، أشك في كل شيء فهذا من الناس المرتابين، الذي لا يدري بشيء، فحينئذ تسقط معه المحاجة.
منشأ الشك:
هنا الطباطبائي يشير إلى مسألة مهمة، وهي إن هذا الشك ينشأ من أن بعض الناس، لا يعرف مقدمات العلوم، فيدخل في بعض العلوم من دون أن تتجلى مقدماتها له، فحينئذ يرى في مسألة واحدة يمكن أن يقام استدلال على المسألة وعلى نقيضها، فيصاب بالاضطراب.
وطريقة علاج مثل هذه الحالة، هي لابد على هذا المضطرب أن يقرأ المنطق ليميز بين البراهين والمغالطات والجدل. ومن جهة أخرى أن الانسان الذي ينكر القضايا البديهية لابد أن توضح له بشكل جيد، أي يوضح له ما هو المقصود من الموضوع، حتى يتصوره تصوراً صحيحاً وما هو المقصود من المحمول، حتى يتصوره تصوراً صحيحاً. فإذا تصورهما تصوراً صحيحاً يصدق. ثم من المهم أن يتعلم مثل هؤلاء العلوم الرياضية.
طوائف المشككين:
وهؤلاء يؤمنون بالإنسان وبإدراكاته، ولكنهم يرتابون ويشكون فيما وراء ذلك، فيقولون: نحن وادراكاتنا ونشك فيما وراء ذلك.
وطائفة غيرها يقول عنها الطباطبائي: إن هؤلاء أفضل من الطائفة السابقة، لأنهم انتبهوا إلى قول (نحن وادراكاتنا) فاعترفوا بأن هذا يعني اعترافاً بوجود الانسان وادراكاته، ويعني ذلك الاعتراف بالحقيقة الخارجية، وبالتالي الاعتراف بحقائق كثيرة، فقالوا بدل نحن أنا، وبدل ادراكاتنا ادراكاتي، وما وراء ذلك مشكوك.
مناقشة المشككين:
يناقش الطباطبائي هؤلاء فيقول: نحن لا ننكر خطأ الانسان في ادراكاته، فالانسان في الواقع يخطئ في ادراكاته، كما إذا تخيل الانسان إن الشيء الحار بارد، إذا كان مصاباً بالحمى، وإن الشيء البارد حار، أو اللون لا يراه على حقيقته، فهذه الحالة طبيعية يخطئ الانسان في تفكيره أحياناً، وأحياناً مدركاته لا تكون كاشفة ومطابقة للواقع. ولكن هذا نفسه يستفيد الطباطبائي منه دليلاً على وجود الحقائق، لأنه لو لم تكن هناك حقيقة خارجية لما أخطأ الانسان.
وبعبارة أخرى يريد الطباطبائي هنا أن يستدل على الحقيقة بالخطأ، فيقول: نحن متى نخطئ؟ الجواب: إذا كان هناك صواب. أي إن ادراكنا إنما يكون خطأ إذا كان ادراكنا الآخر مطابقاً للحقيقة، وإلا لو لم يكن ادراكنا الثاني حاكياً عن الموجود الخارجي ومطابقاً للواقع، لحصلت فوضى فكرية ولاضطربت معارف الانسان، ولما وقف الانسان على شيء.
إشكال:
قد يقال: دفاعاً عن موقف الشك والارتياب، إن قول المرتاب الذي يقول بعدم حكاية العلم عن الواقع وعدم مطابقة الادراك للخارج، ليس من الشك في شيء، وإنما هو عبارة أخرى عن فهم علمي لعملية الادراك، فلو لاحظنا الصوت مثلاً، فإن الصوت له حد أدنى من الذبذبات وله حد أعلى، يمكن أن تتلقاه الأذن. وبعبارة أخرى إن مراد هؤلاء هو أن ما يحصل في الحواس من صور لا ينطبق مع الأمور الخارجية، ولا يكون حاكياً عنها على صورتها الواقعية، لأن الصوت ـ على سبيل المثال ـ الذي يحصل في حاسة السمع لا يكون مطابقاً للوجود الخارجي للصوت، لأنه إذا وصلنا الصوت بدرجة ذبذبة كذا يمكن أن نسمعه، وإذا وصل الصوت بذبذبة كذا فلا يمكن أن نسمع. إذاً هذه الحواس كالأذن هي التي تكون وسائط وقنوات من خلالها يمر الادراك، ولا تكون حاكية عن هذه الحقائق، ولا تكون أمينة في تصوير وحكاية الواقع بما هو.
جواب الإشكال:
إن الادراكات لو قبلنا أنها لا تحكي عن الواقع، وغير كاشفة عن الواقع، فنحن نسأل: هل تعتقدون بهذا القول؟ يقولون: نعم، نعتقد إن الادراكات غير حاكية عن الواقع، فنقول لهم: مَن قال لكم أن هناك واقعاً خارجياً، وهذا الواقع الخارجي لا تحكي عنه الادراكات؟
وبتعبير آخر أنتم تقولون إن الصوت بذبذبة عشرين إلى درجة ألفين يمكن ن تتلقاه الأذن، ولكن أقل من هذه الذبذبة أو أعلى لا يمكن أن تتلقاه الأذن، نقول لهم مَن قال لكم إن هناك ـ واقعاً ـ للصوت ذبذباته تبدأ من عشرين إلى ألفين، بينما الأعلى والأوطأ لا تسمعها الأذن؟ أليس هذا نفسه ادراكاً أم إنه ليس بادراك؟ أتشكّون بذلك أم لا؟ إن قالوا: لا نشك بذلك. فنقول إذاً نحن نثبت إن هناك حقائق تؤمنون بها، وهذه الحقائق التي تؤمنون بها هي هذا الادراك، وهذا الادراك لابد أن يكون كاشفاً عن الحقائق، وإلا لو لم يكن الادراك كاشفاً عن الحقائق، فمن الذي قال إن حقيقة الصوت التي هي خارج دائرة السمع، يعني دون العشرين وأعلى من الألفين، حقيقة موجودة في الخارج؟ إذاً هذا يدل على أن هناك حقائق تؤمنون بها في الخارج، وهذا الإيمان هو الادراك، فالادراك يكون كاشفاً عما وراءه وحاكياً عن الخارج.
مناقشة أخرى:
ثم مضافاً إلى كل ذلك يقول الطباطبائي في مناقشة حركة الشك والارتياب، إن هذا الكلام نفسه الذي يقوله الانسان الارتيابي، عندما يقول يجوز أن ينطبق شيء من ادراكاتنا على الخارج، فهذا نفسه لو لاحظناه أهو حقيقة أم لا؟ يعني أيشك به أم يعلم به؟ فإن قلت: يعلم به، إذاً هو في الواقع يؤمن بحقيقة من الحقائق، ومعنى ذلك إن هذه الحقيقة يمكن أن ينتقل منها إلى الإيمان بحقائق أخرى، وإذا قلت: إنه مرتاب بنفس هذه الحقيقة، يعني هو مرتاب إن الادراكات غير مطابقة للخارج، إذاً هذه القضية باطلة، والادراكات تكون مطابقة للخارج.
يعني كمن يقول: كل كلامي كذب، فنقول له: كل كلامك كذب، وهذه القضية نفسها هي كلامك أيضاً، وهذا الكلام لا يخرج من أحد احتمالين: إما أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان كاذباً، فمعنى ذلك إن كلامك الآخر سوف لا يكون كله كذباً، لأن هذه القضية التي تقول كل كلامي كذب قضية كاذبة وليست صادقة، وإن كانت هذه القضية صادقة «كل كلامي كذب» فمعنى ذلك إن بعض كلامك الذي هو نفس هذه القضية «كل كلامي كذب» لا يكون صادقاً، ففي الصورتين لا يكون الحكم لصالحك.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام