موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

ينقسم العلم الحصولي إلى حقيقي واعتباري
عبدالجبار الرفاعي



ـ أهمية هذا المطلب:
ينقسم العلم الحصولي إلى حقيقي واعتباري، وهذا التقسيم هو تقسيم للعلم الحصولي التصوري، ويعتبر هذا المبحث من إبداعات العلامة الطباطبائي في الفلسفة الاسلامية.
فإنّ التفكيك بين الادراكات الحقيقية والاعتبارية أمر مهم جداً في العلوم، وبالذات العلوم العقلية، لأنه كثيراً ما يقع الالتباس والخلط في توظيف العلوم الحقيقية في محل العلوم الاعتبارية، أو الادراكات الحقيقية في موضوع الادراكات الاعتبارية، وربما يجري العكس حينما يعتمد على الادراكات الاعتبارية في مورد الادراكات الحقيقية، فيقع كثير من الخلط والالتباس.
وهذا ما يلاحظ بوضوح في علم أصول الفقه، فإنّ الادراكات والمعاني في علم الأصول هي ادراكات اعتبارية، بينما يجري التعامل أحياناً مع هذه الادراكات على أساس إنّها معاني حقيقية، ولذلك قد تستخدم براهين لا تستخدم إلاّ في مورد الادراكات والمعاني الحقيقية، فيقع الالتباس والخلط، وتنشأ المشاكل، إذ يعتمد على برهان الدور والتسلسل، بينما المورد ليس من الموارد التي يصح فيها برهان الدور والتسلسل.
ـ أنواع المعاني:
إنّ المعاني الموجودة في ذهن الانسان تقسم إلى: معاني حسية وخيالية وعقلية، أو قل إنّ المعاني الموجودة في ذهن الانسان يمكن تقسيمها إلى طائفتين: معاني جزئية ومعاني كلية، والمعاني الجزئية هي المعاني الحسية والخيالية، بينما المعاني الكلية هي المعاني العقلية، أو قل المعقولات، فالمعقولات هي الصور الكلية في الذهن. وهذه المعقولات تنقسم إلى قسمين: معقولات أولية ومعقولات ثانية، والمعقولات الثانية تارة تكون معقولات ثانية منطقية وأخرى تكون معقولات ثانية فلسفية.
والمعقولات الأولية هي الصور العلمية الكلية المباشرة للأشياء، أي التي يتلقاها الذهن بواسطة الحواس مباشرة من الواقع. وبعبارة أخرى المعقولات الأولية هي ماهيات الأشياء في الذهن.
أمّا المعقولات الثانية فهي تلك المعاني الكلية، التي لا تمثل صوراً علمية للموجودات والأشياء الخارجية المنعكسة في الذهن، وإنّما هي منتزعة من المعقولات الأولية، أي إنّ المعقولات الثانوية ليست الماهيات والمقولات، وإنّما هي معاني منتزعة من المعقولات الأولية. والمعقولات الثانية يصطنعها ويخترعها الذهن أساساً.
والمعقولات الثانية تنقسم إلى: معقولات ثانية منطقية، وهي تلك المعاني الكلية التي يكون ظرف وجودها الذهن ولا صلة بها بالخارج، أي انّه ليس لها مصاديق في الخارج، مثل الكلية والجزئية، المحمول والموضوع.
أمّا المعقولات الثانية الفلسفية، فهي تلك المعقولات التي يكون مصداقها في الخارج، مع إنّها ليست معقولات ماهوية، فهي من ناحية ليست صوراً للأمور والأشياء العينية كالمعقولات الأولية، كما إنّها لا يتلقاها الذهن مباشرة عن طريق الحواس، كما في المعقولات الأولية، وإنما ينتزعها ويخترعها ويصطنعها الذهن بطريقة خاصة، فهي من هذه الناحية كالمعقولات الثانية المنطقية، ولكنها ذات مصاديق في الخارج مثل العلة والمعلول، مع العلم إنّ المعقولات الثانية لها دور مهم وأساسي في المعرفة البشرية.
ـ المعاني الحقيقية:
إنّ العلم الحصولي التصوري أو قل المفاهيم والمعاني الموجودة في الذهن تنقسم إلى نوعين:
1 ـ المعاني الحقيقية.
2 ـ المعاني الاعتبارية.
والمقصود بالمعاني الحقيقية هي المعقولات الأولية نفسها، أو قل هي الماهيات. والمعقولات الأولية، هي تلك المعاني التي توجد في الخارج بوجود خارجي وتوجد في الذهن بوجود ذهني، أي إنّ المعقول الأول هو ذلك المعنى الذي يكون لا بشرط من حيثُ الخارجُ ومن حيثُ الذهنُ، يعني يمكن أن يوجد في الخارج ويمكن أن يوجد في الذهن، فإذا وجد في الخارج وُجِدَ بوجود خارجي، وإذا وجد في الذهن وُجِدَ بوجود ذهني، مثل ماهية الانسان توجد في الخارج بوجود خارجي وتوجد في الذهن بوجود ذهني. وعلى هذا الأساس يرتبط الانسان بالخارج من خلال الماهيات الخارجية. وبعبارة أخرى إن ما في ذهن الانسان وما في الخارج هو أمر واحد متحد من حيثُ الماهيةُ، فإن ماهية الانسان التي في الخارج مثلاً هي نفس ماهية الانسان التي في الذهن، وإن كانت ماهية الانسان التي في الخارج متلبسة بوجود خارجي وماهية الانسان التي في الذهن متلبسة بالوجود الذهني. هذا هو المفهوم الحقيقي.
ـ المعاني الاعتبارية:
المدركات الاعتبارية بخلاف المدركات الحقيقية، فهي عبارة عن مفاهيم تكون حيثية مصداقها إنّها في الخارج وتترتب عليها الآثار الخارجية، ولا يمكن أن تكون في الذهن، يعني مثل الوجود، فالوجود ليس في الذهن، لأن حيثية الوجود هي حيثية ترتب الآثار الخارجية. ولو فرضنا انّه في الذهن فيعني ذلك انقلابه. إذاً الوجود وصفات الوجود الحقيقية، يعني ما يتصف به الوجود، كالوجوب والامكان والوحدة، هذه المفاهيم حيثية مصداقها إنّها في الخارج، فما دامت حيثية مصداقها إنّها في الخارج فهي مفاهيم اعتبارية، وكذلك تلك المفاهيم التي حيثيتها إنّها ليست في الخارج، كالعدم، فالعدم لا مصداق له في الخارج، كما لا مصداق له في الذهن، لأنه لا شيء، بطلان محض. إذاً مفهوم العدم أيضاً مفهوم اعتباري، لأن حيثيته إنّه لا شيء في الخارج، وهو مقابل للوجود، فليس له وجود ذهني ولا وجود خارجي.
فالمفاهيم الاعتبارية هي المفاهيم التي حيثية مصداقها إنّها في الذهن وليس في الخارج، وهي من قبيل الكلي والجزئي، والجنس والفصل، وكافة المعقولات الثانية المنطقية. هكذا المعقولات الثانية الفلسفية التي حيثية مصداقها أنّه في الخارج، كالوجود وصفاته الحقيقية، مثل الوحدة والفعلية والخارجية.
ـ كيفية ظهور المعاني الاعتبارية:
المعاني الحقيقية يتلقاها الذهن مباشرة من الاخرج، ونسبة الذهن أو النفس إلى المعقولات الأولية أو قل المعاني الحقيقية هي نسبة الانفعال، أي أن النفس لا توجِدُ هذه المفاهيم وإنما توجَدُ فيها فتنفعل بها، وتتلقى منها النفس بقدر استعدادها، أي إن المستفيض يأخذ من المفيض بقدر ما لديه من الاستعداد، يعني هذا الوعاء يمتلئ بقدره. ولذلك يكون تلقي النفوس للعلوم مختلفاً، حسب الوعاء، وحسب الاستعداد.
بينما نسبة النفس إلى المفاهيم الاعتبارية ليست نسبة الانفعال، وإنّما هي نسبة الفعل، يعني إنّ النفس هي التي تخترع وتصطنع المعاني، والادراكات الاعتبارية، ولكن هذا الاختراع ليس عملاً موهوماً وجزافياً، وإنّما هو يجري وفق قوانين ذهنية دقيقة.
ـ نسبة المعاني الحقيقية والاعتبارية إلى مصاديقها:
أن نسبة المفاهيم الحقيقية إلى مصاديقها هي بنحو نسبة الكلي إلى أفراده، أي كنسبة الماهية إلى مصاديقها، بينما نسبة المفاهيم الاعتبارية إلى مصاديقها هي ليست نسبة الماهية إلى أفرادها ومصاديقها.
إذاً المعنى والمفهوم الحقيقي يمثل تمام ماهية الفرد، ومأخوذ في ماهية وحدّ الفرد، أما المعنى الاعتباري فإنّه كمعنى الوجود عندما ينطبق على مصداقه في الخارج، فليس هو بنحو انطباق الماهية على فردها، أي ليس هو بنحو يكون جزءً للمصداق كانطباق الانسان على زيد.
وبعبارة أخرى عندما نقول: (زيد موجود)، فليست الموجودية مأخوذة في حد زيد، لأن حد زيد هو الانسانية، والانسانية مأخوذة فيها الناطقية والحيوانية. من هنا يقولون إنّ المعنى الحقيقي صدقُهُ على مصاديقه بنحو صدق الكلي على أفراده، بينما نسبة المعنى الاعتباري إلى أفراده هي نسبة المفهوم إلى مصداقه.
ـ نتائج:
1 ـ لو عثرنا على مفهوم يحمل على الواجب والممكن، يعني هو مشترك معنوي، كما في قولنا: الباري موجود، والانسان موجود، أو الباري حي، والانسان حي، أو الباري عالم، والانسان عالم، فإن هذا المفهوم الذي يُحمَل على الواجب والممكن لا يمكن أن يكون مفهوماً ماهوياً، أي لا يمكن أن يكون معنىً حقيقياً، وإنّما هذا المفهوم مفهوم اعتباري.
2 ـ بعض المفاهيم تحمل على أكثر من مقولة، كالحركة، فإنّها تصدق على أكثر من مقولة، إذ تصدق على مقولة الكيف «الحركة الكيفية» فنقول: هذا الكيف يتحرك، يعني اللون يتغير من أصفر إلى أحمر مثلاً،وتصدق على حركة الكم، «الحركة الكمية». فنقول: هذا طوله يزداد، وهكذا باقي المقولات. إذاً الحركة تصدق على مقولات متعددة متباينة بتمام الذات، وهذا يعني إنّ الحركة مفهوم اعتباري وليس مفهوماً حقيقياً، وإلاّ لو كانت مفهوماً حقيقياً للزم أن تكون الحركة في آن واحد كيفاً وكماً وجوهراً وعرضاً، وكما نعلم انّه لا يمكن أن يكون الشيء الواحد مجنساً بجنسين، فالانسان لا يمكن أن يكون جوهراً وكماً مثلاً.
3 ـ إنّ المفاهيم الاعتبارية ليس لها حد، يعني لا يمكن أن نحصل لها على تعريف حقيقي، لأنّ الحد عادةً يتألف من الجنس والفصل، وهذان يرتبطان بالماهية، ولذلك قالوا: إنّ الحد بالماهية وللماهية، يعني إذا كانت هناك ماهية يكون لها حد، حيثُ نحلل هذه الماهية ونجزئها إلى أجزائها التي هي الجنس والفصل، لأنّ الحد والتعريف هو التجزئة والتحليل، وإذا لم يكن هذا المفهوم مفهوماً ماهوياً فهو مفهوم بسيط غير قابل للتجزئة والتحليل.
إذاً المفاهيم الاعتبارية، يعني المعقولات الثانية، لا حد لها، لأنّ الحد للماهية، وهذه المعقولات ليست مفاهيم ماهوية، كما إنّها لا تكون حداً لشيء، يعني لا تؤخذ في حد ماهية، لأن الحد كما إنّه للماهية هو أيضاً بالماهية، فعندما تريد أن تأخذ أمراً ما في حد أمر آخر فلا بد أن يكون هذا الحد ماهية، تأخذ الجنس، كالحيوان مثلاً في تعريف الانسان.
ـ مصطلحات أخرى للاعتباري:
1 ـ نستعمل الاعتباري في مقابل الأصيل، إنّ الأصيل هو ما يكون منشأ لترتب الآثار، ولذلك كان الوجود أصيلاً، لأنه منشأ لترتب الآثار، أمّا الاعتباري فما لا يكون منشأ لترتب الآثار.
2 ـ الاعتباري هو الذي ليس له وجود منحاز، أي ن المعنى الاعتباري هو المعنى الانتزاعي الذي يكون له منشأ انتزاع، مثل الزوجية، فإنّ الزوجية كزوجية لوجود مستقل لها، وإنما وجود الزوجية بوجود منشأ انتزاعها ومنشأ انتزاع الزوجية هو الزوجين.
إذاً الاعتباري بهذا المعنى هو ما ليس له وجود مستقل منحاز، وإنّما له منشأ انتزاع، وهو معنىً انتزاعي منتزع من منشأً انتزاعه، بينما غير الاعتباري بهذا المعنى هو الحقيقي الذي له وجود مستقل منحاز.
3 ـ أحياناً يطلق الاعتباري على بعض الأمور بالتشبيه والمناسبة، من قبيل اطلاق الرأس على زعيم القوم، تقول مثلاً: زيد رأس وبكر مرؤوس. ففي الواقع إن زيداً لم يضف له شيء، وبكر لم ينقص منه شيء، ولكن هذا الأمر الاعتباري يعني أن زيداً وصفناه بأنه رأس، تشبيهاً له بالرأس بالنسبة إلى بدن الانسان، فهذه المناسبة هي المصححة للاستعمال، والمصححة لهذه النسبة. ونسبة الرأس إلى القوم كنسبة الرأس إلى اليد، ولذلك عبرنا عنه بالرأس.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام