كما انتقد ابن رشد الغزالي والأشاعرة بخصوص مذهبهم في التنزيه،
فإنه قد وجه انتقاده لهم أيضاً في استدلالهم على وحدانية الله
بدليل التمانع.
فابن رشد يرى أن دليل التمانع الذي يقول به الأشاعرة لا يجري مجرى
الأدلة الطبيعية، لأنه لا يعد برهاناً، كما لا يجري مجرى الأدلة
الشرعية، لأن الجمهور ما قالوا به وهو استدلالهم على الوحدانية
بافتراض التمانع بين الآلهة في حالة تعددها.
أيضاً يذهب ابن رشد إلى أنه بالإضافة إلى كون هذا الدليل غير متفق
لا مع الطبع ولا مع الشرع، فإنه يعد أيضاً دليلاً ضعيفاً، إذ يهمل
جانب الاتفاق بين الآلهة، لأنه يجوز أيضاً اتفاقهما، بحيث يكونا
كصانعين اتفقا على صناعة مصنوع واحد.
ويبدو أن إهمال الأشعري لهذا الجانب ـ في تدليله على ثبوت
الوحدانية له تعالى ـ كان ثغره نفذ منها خصوم الأشعري إليه، نقول
الأشعري وليس باقي الأشاعرة متقدمين ومتأخرين، إذ استطاع أغلب
الأشاعرة أن يتداركوا هذا النقص في مذهب شيخهم، فقاموا وبرهنوا على
استحالة اتفاق الإلهين، تماماً كما برهنوا على وجوب اختلافهما. إلا
أنه يمكن القول بأن أدلة الأشاعرة في معظمهم خلا الجويني والغزالي
ومَن تابعهم من المتأخرين كالرازي مثلاً ـ أتت ضعيفة بحيث لم ترق
إلى مستوى البرهان العقلي القطعي. ومن ثم وجه ابن رشد انتقاده
إليهم. وإن كنا نعد ابن رشد مخطئاً في الاستخدام اللفظي الذي أورد
فيه نقده، فبدلاً من أن يصف دليلهم بالقصور، وجدناه يتجاهل تماماً
ما قاموا به من إثبات استحالة اتفاق الإلهين، متهماً لهم بإغفالهم
هذا الجانب من دليل التمانع.
أيضاً يعيب ابن رشد على الغزالي والأشاعرة مذهبهم في هذا الموضوع
من زاوية استخدامها للقياس الشرطي المنفصل في عرضهم لدليل التمانع،
لذلك وجدناه يستبدل ذلك في مذهبه بأسلوب القياس الشرطي المتصل،
مؤكداً كونه أكثر وضوحاً ويقيناً من الأسلوب الذي عرض به الأشاعرة
دليلهم وهو الشرطي المنفصل. إذ يرى ابن رشد أن طريق الشرع في إثبات
الوحدانية يؤكد هذا الاتجاه، إذ نجسده مبيناً على ثلاث آيات هي
قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، وقوله تعالى:
(ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق
ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون)، وقوله: (قل لو كان معه
آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً).
فمدلول الآية الأولى ـ على قول ابن رشد ـ فطري مغروز يه بالطبع، إذ
لا نتصور صدور فعل واحد عن فاعلين من نوع واحد، إلا في حالة أن
يفعل أحدهما ويظل الثاني عاطلاً، وهو مناف للألوهية.
ونلاحظ أن مدلول الآية السابقة على مذهب ابن رشد هو نفسه ما عبر
عنه الأشاعرة بأنه إذا اتفق الإلهان في الإرادة فإنه يعني تسليم
أحدهما للآخر، وهو دلالة عجز والعاجز ليس بإله وبذلك يكون ابن رشد
منتهياً في ذلك إلى نفس ما انتهى إليه الأشاعرة من قبل ـ وهذا فيما
يتعلق بمدلول الآية الأولى. والذي يراه ابن رشد متفقاً تماماً مع
ما ارتآه الفلاسفة في هذا الموضوع. وهو مع ذلك يوجه نقده للأشاعرة
بنهم لم يتناولوا في معالجتهم لموضوع الوحدانية ناحية الاتفاق بين
الإلهين أو أنهم لم يعالجوا للموضوع من زاوية اتفاق الإلهين. ولذلك
فنحن نرى أن ابن رشد لم يكن موضوعياً في نقده للأشاعرة في ذلك، فهو
أما أن يكون مدركاً لذلك هذا الجانب بالفعل في مذهب الأشاعرة ثم
تغافل عنه قاصداً بذلك التشويش، وأما أن تكون مطالعته لمذهب
الأشاعرة في ذلك مطالعة سطحية وهي بذلك لا تبيح له توجيه النقد
إليهم، إذ أن ذلك يعد مخالفاً لأسس النقد السليم.
ويرى ابن رشد فيما يتعلق بالآية الثانية منتهجاً في ذلك أسلوب
القياس الشرطي المتصل. أنها تعد رداً على مَن يضع آلهة كثيرة
مختلفة الأفعال ـ وهو احتمال الاختلاف بين الآلهة عند الأشاعرة ـ
يقول ابن رشد: ((أنه يلزم في الآلهة المختلفة الأفعال التي لا يكون
بعضها مطيعاً للبعض، إلا يكون عنها موجود واحد، ولما كان العالم
واحداً، وجب ألا يكون عن آلهة متفننة الأفعال)).
ويذهب ابن رشد إلى أن مدلول الآية الثالثة، كمدلول الآية الأولى،
إذ يعالج امتناع وجود إلهين فعلهما واحد، إلا أنه يرى أن مدلول
الآية الثالثة يثبت التمانع استناداً إلى قضية المثلين ((إذ
المثلان لا ينسبان إلى محل واحد نسبة واحده، لأنه إذا اتحدت النسبة
اتحد المنسوب ـ أعني لا يجتمعان في النسبة إلى محل واحد، كما لا
يحلان في محل واحد، إذا كانا مما شأنهما أن يقوما بالمحل)).
ونحن نلاحظ أن إثبات ابن رشد السابق لاستحالة وجود إلهين في محل
واحد، سبق أن أثبته الغزالي، إلا أن الغزالي انتهى منه إلى نهاية
تخالف ما انتهى إليه ابن رشد، فبينما أحال ابن رشد وجود خالقين في
محل واحد بناء على استحالة حلول مثلين في محل واحد: فقد أحال
الغزالي ذلك بناء تنزهه تعالى عن الحلول في الأمكنة ((فإن كان ند
الله سبحانه مساوياً له في الحقيقة والصفات، استحال وجده، إذ ليس
مغايرة بالمكان والزمان، إذ لا مكان ولا زمان، فإنهما قديمان، فإذا
لا فرقان)). وإذاً فقد أثبت ابن رشد استحالة وجد إلهين بناء على
أصله السابق، انطلاقاً من مذهبه في الجهة، إذ يعد ابن رشد من
المثبتين الجهة له تعالى، كابن تيمية وغيره من المجسمة، خلافاً
للغزالي والذي ينبثق مذهبه في هذه الناحية من نواحيه عن مذهبه في
تنزيهه تعالى عن الجهة.
ويرى د. عاطف العراقي أن ابن رشد قد تأثر في برهنته السابقة على
وحدانية الله بأرسطو وخصوصاً في تفسيره لما بعد الطبيعة، إذ يرى أن
ابن رشد قد ربط بين قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا). ويبين قول أرسطو: (لا خير في كثرة الرؤساء. بل الرئيس
واحد) مقيماً مذهبه في هذا الموضوع على قولين معاً.
--------------------------
* مذهب اهل السنة والجماعة ومنزلتهم في الفكر الاسلامي