موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

ينقسم العلم الحصولي إلى كلي وجزئي
عبدالجبار الرفاعي



1 ـ في تقسيم العلم الحصولي إلى كلي وجزئي:
إن الإدراك الحسي والخيالي علم جزئي، بينما الإدراك العقلي علم كلي، والعلم الكلي هو ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين، كعلمنا بالكتاب، ويعبر عن العلم الكلي بالعقل والتعقل، أي انه إدراك عقلي. أما العلم الجزئي فهو ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين، كعلمك بهذا الكتاب الذي بيدك ونت تنظر إليه، فهذا يسمى علماً حسياً، بينما علمك بصديقك الغائب عنك الآن يسمى علماً خيالياً.
2 ـ المقصود بالعلم الجزئي:
العلم الجزئي ما يمتنع فرض صدقه على كثيرين، وهو يشمل الإدراك الحسي والخيالي.
لكن قد يقال: إن أي مفهوم وأي إدراك من الإدراكات لا يمتنع أن يصدق على كثيرين، وإن القيد يقيد مساحة انطباق هذا المفهوم على المصاديق الخارجية. وبالتالي يبقى المفهوم مهما كان قابلاً للانطباق على كثيرين. فكيف يقال بوجود علم حصولي جزئي؟
الجواب: إن المفهوم من حيثُ هو مفهوم لا يمتنع من الصدق على كثيرين، وإنما يمتنع من الصدق على كثيرين من جهة اتصال أدوات الحس بالمعلوم الخارجي بالنسبة للعلم الحسي، ومن جهة توقف العلم الخيالي على العلم الحسي.
3 ـ تجرد العلم الحسي والخيالي عن المادة:
لا إشكال بينهم في أن العلم العقلي أو التعقل، أي الصورة الكلية مجردة من المادة، ولكن بعضهم قال بأن العلم الحسي والخيالي غير مجرد عن المادة. وهنا الطباطبائي يقيم أدلة على أن العلم الحسي والخيالي مجرد عن المادة، فالمادة تتصف بعدة صفات هي:
1 ـ إن الشيء المادي يقبل القسمة، فهذا الكتاب الذي بين يديك يقبل القسمة إلى أقسام، بينما غير المادي المجرد لا يقبل القسمة.
2 ـ إن الشيء المادي يقبل التغير والتحول، لأن موطن الحركة والتغير هو عالم المادة والأجسام، أما عالم المجردات فلا يقبل التغير والتحول، لأنه ليس فيه هيولى وقوة.
3 ـ الشيء المادي لا يمكن أن ينطبق فيه الصغير على الكبير.
وعلى هذا الأساس نقول إن العلم يعني الصورة العلمية في ذاتها، وهي لا تقبل التغير، لأنها ليست مادية، كما إن الصور العلمية سواء كانت عقلية أم حسية أم خيالية من حيثُ هي تقبل الانطباق على كثيرين، يعني بأي صورة فرضناها فإنها تقبل الانطباق على كثيرين، بينما قلنا إن الصورة الحسية والخيالية لا تقبل الانطباق على كثيرين، لا من حيثُ هي، وإنما من حيثُ اتصالُ أدوات الحس بالمعلوم الخارجي في الصورة الحسية، وتوقف العلم الحسي على العلم الخيالي في الصور الخيالية، وإلا فالصورة العلمية من حيثُ هي لا يمتنع أن تصدق على كثيرين، لأن فيها قابلية الانطباق على مصاديق كثيرة. ولما كان الشيء المادي متشخصاً وغير قابل للانطباق على كثيرين، إذن الصورة العلمية مجردة.
كما إن الصورة العلمية لا تقبل التقسيم، بمعنى أن أية صورة من الصور العلمية أمر بسيط لا أجزاء له ولا يقبل القسمة، بينما أي موجود مادي يقبل القسمة. لكن قد يقال كيف تقولون إن الصورة العلمية لا تقبل القسمة بينما صورة الكتاب في ذهني يمكن تقسيمها إلى قسمين؟
الجواب: في الواقع لا نقسم صورة الكتاب إلى قسمين، وإنما نحضر صورتين، صورة لنصف كتاب وأخرى كذلك، أما صورة الكتاب الكامل فسوف تكون موجودة بموازاة ذلك. لأن الصورة العلمية هي بنفسها أمر بسيط لا أجزاء له ولا يقبل التقسيم، بينما أي موجود من الموجودات المادية يقبل التقسيم.
كما إن الصورة العلمية غير مقيدة بزمان ومكان، فمثلاً عملية الأكل مقيدة بزمان ومكان فلا تستطيع أن تسترجعها، أي إذا أكلت في الصباح فلا تستطيع أن تسترجع عملية الأكل في وقت ثان، بينما الصورة العلمية ليست مقيدة بزمان ولا مكان معين، ولذلك يمكن أن تستذكر صورة مضى عليها عشرون سنة، ولو كانت مقيدة بزمان ومكان لما استطعت أن تستذكر تلك الصورة. إذاً الصورة العلمية مجردة عن المادة.
4 ـ الإجابة على بعض الإيرادات التي أوردت على تجرد العلم الحسي:
الإشكال الأول:
مما لا شك فيه أنه بدون اتصال النفس بالعالم الخارجي لا تتحقق الصورة العلمية الحسية، يعني إنما تتحقق الصورة العلمية الحسية بواسطة اتصال الحواس بالعالم الخارجي، وقطعاً الاتصال بالخارج إنما يكون عبر مكان وزمان معين، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن هذه الصورة العلمية تحصل بالزمان والمكان المعين، فكيف نقول: إن الصورة العلمية مجردة وغير مقيدة بالزمان والمكان؟
جواب الإشكال:
صحيح أن حصول هذه الصورة يقترن بزمان ومكان خاص، فقد صارت صورة الكتاب في ذهني ساعة كذا وفي المكان الفلاني مثلاً، ولكن لا يعد ذلك دليلاً على مادية الصورة العلمية، وإنما نقول إن الزمان والمكان هما من شرائط حصول الاستعداد للنفس لكي تدرك الصورة. يعني إن النفس عبر الحوارس تتصل بالموجودات المادية، ولكي يحصل لديها الاستعداد لإدراك هذه الصورة العلمية، فإن هذا الاستعداد إنما يكون من خلال الحواس ومن خلال الزمان والمكان، وهذا لا يعني أن الصورة العلمية هذه غير مجردة عن المادة.
الإشكال الثاني:
بدون القوى الحسية، أي بدون الباصرة والسامعة واللامسة والشامة، لا يمكن أن تتحقق الصورة الحسية للنفس، وعلى هذا الأساس يكون الإدراك الحسي إدراكاً مادياً، ولما كان الإدراك الخيالي مستنداً على الإدراك الحسي تكون الصورة الخيالية أيضاً صورة مادية.
جواب الإشكال:
في الإجابة على هذا الإشكال نكرر ما قلناه فيما سبق، فإن حصول الصورة الحسية بواسطة القوى الحاسة يعني أن هذه الحواس هي علل إعدادية، وهي شرائط لحصول الاستعداد للنفس لكي تدرك هذه الصورة العلمية الحسية والصورة العلمية الخيالية، وإا فهذه الصورة مجردة عن المادة وليست مادية.
5 ـ حقيقة الإحساس والتخيل والتعقل:
ذهب بعض إلى أن إدراك الصور المحسوسة والخيالية إنما هو إدراك لأمور مادية، أي ان الصور المحسوسة تعني حضور المادة الخارجية لدى العالم، وهذه المادة الخارجية تكون مقترنة بتمام هيئاتها وأحوالها وعوارضها الشخصية. أما الصورة الخيالية فإنها لا تعني حضور المادة الخارجية لدى العالم، وإنما تعني اقتران الصورة العلمية بالهيئات والعوارض الشخصية للموجود الخارجي.
في ضوء هذا البيان يبدو أن الصور العلمية بسائر أنحائها لا تكون مجردة، لأن الصور المحسوسة تكون مادية، يعني حضور المادة الخارجية لدى العالم، بينما الصورة المتخيلة لا تكون مادية، ولكنها مقترنة بالهيئات والعوارض والأحوال الشخصية للمادة. أما الصور العقلية فذهب بعض إلى أنها تحصل بتقشير المعلوم عن المادة والأعراض المشخصة له، مثلها مثل الانسان المجرد عن المادة الجسمية والمشخصات والأحوال الشخصية المختلفة.
وبعبارة أخرى ذهب بعض إلى أن الصورة العقلية مثلها مثل قطعة النقود التي محيت النقوش التي عليها، فإن قطعة النقود عندما تكون نقوشها موجودة فهي صورة جزئية، أما لو محيت النقوش التي عليها فتكون صورة كلية، لأنها تكون مرددة وغير معروفة، أي لا يعرف هذا الدرهم الذي محيت نقوشه أهو درهم عباسي أم يعود لفترة أخرى.
حقيقة الكلي:
إن هذا الكلام غير تام، بناءً على ما أفاده صدر المتألهين، حين أثبت إن الكلي ليس هو الجزئي المبهم المردد، أي أن الجزئي لا يصير كلياً حينما يكون ناقصاً، وإنما الجزئي يتحول إلى الكلي بحالة ارتقاء، حيثُ يرتقي ويتطور، يعني أن الكلي ليس هو الأمر المردد بين الجزئيات. ومن هنا أطلقا على الانسان بأنه حيوان ناطق، فالنطق بأحد تعاريفه وتفسيراته هو إدراك الكليات، وهذا هو الفصل الذي يمتاز به الانسان عن غيره من الحيوانات.
فالكلي ليس هو الأمر المردد بين الجزئيات، لأنه في الواقع لا يمكن أن يتحقق معنى الكلي في الذهن حينما يكون مردداً بين هذا الفرد وذاك الفرد، وإنما الكلي هو المفهوم والمعنى الجامع بين تمام الأفراد، الكلي هو الذي يجمع ما لا نهاية له من الأفراد.
إذاً الكلي ليس هو الجزئي الذي نقص منه شيء، كالدرهم الذي محيت نقوشه، بل هو الجزئي الذي ارتقى وتطور وتعالى حتى أضحى حالة من الحالات التي للنفس، فانتقل من وجود أدنى إلى وجود أكمل وإلى مرتبة أعلى، وهذا الوجود هو سنخ وجود جعل الكلي يتسع وينطبق على ما لا نهاية له من الأفراد.
عوالم الوجود الإمكاني:
تفترض الفلسفة الإسلامية تعدد عوالم الإمكان، فتقول مدرسة الحكمة المتعالية التي جرى الطباطبائي طبق آرائها، إن هناك ثلاث عوالم كلية للإمكان، هي:
1 ـ عالم الطبيعة، أو عالم المادة والقوة.
2 ـ عالم المثال، وهو العالم المجرد عن المادة دون آثار المادة، فإن عالم المثال مجرد عن المادة لكن فيه آثار المادة، كالصورة في المرآة فإنها ليست مادية ولكن فيها طول معين وعرض معين ولون معين.
3 ـ عالم العقل، وهو مجرد عن المادة وآثارها.
يعبر عن عالم المثال بعالم البرزخ، والبرزخ هو الحد الوسط، أي ما يكون بين أمرين، فعالم المثال بما أنه يقع في مرتبة وسطى بين عالم المادة وعالم العقل يسمى بعالم البرزخ. ثم إنهم قسموا عالم المثال إلى:
1 ـ عالم المثال الأعظم.
2 ـ عالم المثال الأصغر.
وقالوا إن عالم المثال الأعظم عالم مستقل قائم بذاته، يعني أنه مستقل عن النفس وعن الانسان، بينما عالم المثال الأصغر هو الذي يتيح للنفس أن تتعرف كيف تشاء، فهو عالم قائم بالنفس ليس مستقلاً عنها، فالنفس تستطيع أن تتصور صورة جزافية، مثلاً تتصور انساناً له ألف رأس أو حصاناً مجنحاً.
الطولية بين عوالم الإمكان:
إن العلاقة بين هذه العوالم الثلاث طولية، بناءً على ما ذهبت إليه مدرسة الحكمة المتعالية، أي إنها مترتبة، فعالم المثال يقع في طول عالم العقل، وعالم الطبيعة يقع في طول عالم المثال. وعلى هذا الأساس تكون بينها علية، فما في عالم المثال معلول لما في عالم العقل ومفاض منه، وما في عالم الطبيعة مفاض من عالم المثال.
وبتعبير آخر يفترضون هنا إن هذه العوالم مَثَلُها مَثَلُ رأس البصل المكون من طبقات وكل طبقة محيطة بالطبقة التي تليها، فعالم العقل محيط بعالم المثال والطبيعة، وعالم المثال محيط بعالم الطبيعة، والله من ورائهم محيط، كما قالوا. يعني أنهم فسروا هذه الآية الكريمة على أساس تعدد العوالم.
نحو تعلق العلم بالأمور المادية:
لما كان العلم حضور أمر مجرد لأمر مجرد، فكيف يتعلق بالأمور المادية؟
إن الموجودات المجردة تحضر بنفسها، يعني إذا كانت الصور العلمية جزئية في الذهن فيحضر مثال هذه الصور، أي الأمر المجرد من عالم المثال، وإذا كانت الصورة كلية عقلية فتحضر من عالم العقل، أي تحضر الموجودات المجردة بنفسها لدى النفس المجردة.
وعلى هذا الأساس يمكن تبرير ارتباط النفس بالأمور المادية، فإنها لا تتصل بالأمور المادية مباشرة، أي أن هذا الكتاب الذي في يدك عندما تستحضر صورته في ذهنك، ففي الحقيقة لا تحضر صورة هذا الكتاب الذي في يدك في ذهنك، وإنما يحضر ـ كما يقولون ـ هو المثال المجرد الموجود في عالم المثال بنفسه لهذا الكتاب، يحضر موجود مجرد لنفسك التي هي أيضاً موجود مجرد.
لكن قد يقال كيف أنتقلُ إلى معرفة هذا الكتاب وأُدركُهُ؟ يقولون بنحو من المقايسة والمقارنة ينتقل الذهن إلى هذا الشيء المادي.


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام