موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

في بيان كمية أنواع الخيرات والشرور الإضافية
صدر الدين الشيرازي



اعلم إن الخير والشر يقالان على أربعة أوجه: فمنها ما ينسب إلى السماويات من سعود الكواكب ونحوسها (أي نحوس آثارها التي في عالم العناصر بالنسبة إلى أشخاصها).
ومنها ما ينسب إلى الأمور الطبيعية من الكون والفساد وما يلحق الأمزجة الحيوانية من الآلام والأوجاع ومنها ما ينسب إلى ما في طباع الأحياء العنصرية من التآلف والتنافر والتودد والتباغض والمحبة والخصومة على ما في جبلتها من التنازع والتغالب: ومنها ما ينسب إلى النفوس التي تحت الأوامر والنواهي في أحكام الناموس الإلهي وما يلحقها من السعادة والشقاوة الآجلتين والعاجلتين جميعاً.
فنقول: الخيرات التي تنسب إلى سعود الفلك فهي بعناية من الحق الأول وإرادة منه بلا شك وأما الشرور التي تنسب إلى نحس الفلك فهي عارضة لا بالقصد الأول مثال ذلك إشراق الشمس وطلوعها على بعض البقاع تارة وتسخينها لها مدة وتغيبها عنها تارة أخرى، كيما يبرد تلك البقاع مدة ما لنشو الحيوان والنبات وهي بعناية الحق الأول وواجب حكمته لما فيه من الصلاح الكلي والنفع العام كما ذكره الله (تعالى): (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً).
وأما الذي يعرض لبعض الحيوانات أو لبعض النبات من الحر المفرط أو البرد المفرط المهلك لها في بعض البقاع وفي بعض الأوقات على سبيل الندرة والشذوذ فليس ذلك بالقصد الأول.
وأما الخيرات التي تنسب إلى الأمور الطبيعية ـ من تكون الحيوان والنبات والمعادن والأسباب المعينة لها على النشؤ المبلغ لها إلى أتم حالاتها وأكمل غاياتها ـ فهي كلها برضاء الله وإرادة من الباري القيوم وعناية منه. وأما الشرور التي هي الفساد والبلاء التي يلحقها بعد الكون فهي عارضة لا بالقصد الأول بل حصولها بالعرض والانجرار والتبعية وذلك لأن الكائنات لما لم يمكن أن يبقى أشخاصها في الهيولى دائماً في هذا الالم تلطفت الحكمة الإلهية والعناية الربانية إلى بقائها بصورها ومبدء نوعيتها ورب طلسمها الحافظ لديمومة طبيعتها بتعاقب الأفراد وتوارد الأمثال على الاتصال وإن كانت الأشخاص في الذوبان والسيلان دائماً.وإنما كان ذلك بواجب في الحكمة والعناية لأن في القوة والغيب فضائل جمة وخيرات كثيرة بلا نهاية.
ولا يمكن خروجها من القوة والخفاء إلى الفعل والظهور دفعة واحدة في وقت واحد لأن الهيولى الجسمية لا تتسع لقبولها فضائل نوع واحد من الأنواع الطبيعية المندمجة في عقله المدبر له وملكوته الفياض على عينه الثابتة وأفراده الأشياء بعد شيء على سبيل التدريج وممر الأوقات والدهور دائماً فكيف فضائل جميع الأنوار الطبيعية وحالاتها وكيفياتها ولوازمها وآثارها المفصلة المتقننة؟ مثلاً لو خلق الله (تعالى) بني آدم كلهم ـ من مضى منهم ومَن هو موجود الآن ويجيء من بعد إلى يوم القيامة ـ في وقت واحد لم تكن تسعهم الأرض برحبها، فكيف حيوانهم ونبات غذائهم وأمتعتهم وما يحتاجون إليه في أيام حياتهم؟ فمن أجل هذا خلقهم الله قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة لأن الأرض لا تسعهم والهيولى لا تحملهم دفعة واحدة.
فقد تبين بما ذكرنا أن النقص من جهة الهيولى وقابليتها لا من الصانع، فإن القصور في الفعل كما يكون من الفاعل لضعف قوته أو لقلة معرفته فقد يكون أيضاً من عدم الأدوات وفتور الآلات التي لابد وجودها للصانع في إحكام صنعه وإتقان فعله أو من عدم المكان أو الزمان والحركات وما شاكلهما، وقد يكون من قبل الهيولى مثل عسر قبول الحديد للفتل وتصييره حبلاً طويلاً كما يفعل الحبال من القنب والصوف وغيرهما فليس العجز من الحداد بل لقصور الحديد وعسر قبوله الفتل ومثل الهواء لا يقبل كتابة الكاتب فيه لسيلان عنصره، ومثل النجار لا يمكن أن يعمل سلماً يبلغ السماء لعدم الخشب لا لعجز فيه، ومثل الرجل الحكيم لا يمكن أن يعلم الطفل لعجز في الطفل لا في الحكيم، وكذا عدم اهتداء بعض أشقياء الأمم بدعوة نبيهم إياهم وإنذاره لهم كما في قوله (تعالى): (إنك لا تهدي مَن أحببت) ليس لقصور الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ولا لعجزهم عن الهداية والإنذار بل لعسر قبول الأنفس الخبيثة ما يقربها إلى الله وملكوته الأعلى: فعلى هذا يؤخذ القياس في العجز من الهيولى وعسر قبولها للصور لا لعجز في الصانع الحكيم والمدبر العليم.
والسبب الآخر في ذلك أن هذا الكائنات لما كانت يبتدى كونها من أنقص الوجود وأضعف القوة مترقياً شيئاً فشيئاً إلى أتم الحالات وأكمل الغايات بأسباب معينة لها على النشو والنمو ومبلغة بها إلى أكمل غاياتها بعناية من الباري (جل شأنه) سميت تلك الأسباب خيرات، وكل سبب عارض يعوقها عن ذلك سمي شراً وهي عارضة لا بالقصد الأول، فإنه وإن كان بالقياس إلى هذا الشيء الذي عاقه عن الوصول إلى كماله وغايته شراً لكنه بالقياس إلى شيء آخر يكون من الأسباب المُعينة له على البلوغ إلى كماله وتمامه خيراً، ولأجل هذا خلق الأول وبالذات لا لأجل ذاك، فيكون خيريته بالذات وشربته بالعرض.
ولما تحققت ما ذكرنا ممن أن عدم الفعل قد يكون لعجز الهيولى أو عدم المكان أو الزمان أو الحركات أو ما شاكلها ـ علمت فساد ظن كثير من العوام وأهل الكلام الذين لا يعرفون كيفية العجز من الهيولى ولا يتصورونه فينسبون العجز كله إلى الفاعل الحكيم القادر العليم، وذلك لأنهم ربما يتوهمون ذلك على الله (تعالى) فيقولون أنه لا يقدر على كثير من الأشياء ويعجز عنها مثل قولهم: إنه لا يقدر أن يخرج إبليس عن مملكته، ولا يتفطنون مع قطع النظر عن المصالح التي روعيت في خلقه أن العجز في عدم الإخراج إنما هو من عدم المملكة التي غير مملكة الله (تعالى) حتى يتصور إخراجه إليها، وليس من عدم القدرة من الخالق ويقولون: إنه لا يقدر أن يدخل السماوات في جوف إبرة، ولا يدرون إن العجز من الإبرة وخرمها. ويقولون إن الله لا يقدر أن يجمع بين النقيضين، ولا يدرون أن العجز منهما فإذا سئلوا عن معنى قوله (تعالى): (والله على كل شيء قدير) قالوا: هذه الآية مخصصة، خلاف ما قال الله (تعالى) لأنه ذكر على العموم وصرح بإيراد لفظ الكل، ولم يعلموا أن هذه الممتنعات التي يتصورونها ليست بأشياء خارجة عن أوهامهم وتصوراتهم بل الذهن يتصور بعض المفهومات ويجعله عنواناً للمستحيلات ويحكم عليها بأحكام غير بتية بل على سبيل الفرض والتقدير، كما في القضايا الحقيقية غير البينة.
وأما الخيرات التي توجد في أنفس الحيوانات العنصرية ـ من المحبة واللذة والألفة والأكل والشرب والوقاع ـ فلا شك أنها مستودعة في جبلتها مغروسة في فطرتها بعناية الله (تعالى) ورضاه بالذات وبالقصد الأول وأما ما يلحقها ـ من التنافر والوحشة والمبغضة والجوع والألم والعطش والجرح والأمراض والأوجاع والموت وأشباهها ـ فهي واردة عليها على سبيل الضرورة والانجرار والتبعية واقعة بقدر الله (تعالى) بالعرض وبالقصد الثاني، فإنه لما جعل الباري ـ بمقتضى مصلحته وحكمته في جبلة الحيوانات ـ للجوع والعطش واللذة من الملايم والأذى من المنافر صارت هي أسباباً لانتهائها ودواعي عطب أبدانها وهلاك هياكلها وشقاوة نفوسها على الضرورة والاستتباع.
أما قصد الباري الحكيم في إيجاده وصنعه ذلك فهو لأجل بقائها وصلاحها، فإنه (تعالى) جعل لها الجوع والعطش لكيما يدعوها إلى الأكل والشرب ليخلف على أبدانها من الكيموس بدلاً مما يتحلل منها ساعة فساعة، إذا كانت أجسامها دائماً في الذوبان والسيلان. وأما الشهوات فلكيما يدعو بها إلى المأكولات المختلفة الموافقة لأمزجة أبدانها وما يحتاج إليه طباعها. وأما اللذة فكيما تأكل بقدر الحاجة ولا يزيد ولا ينقص وأما الآلام والأوجاع عند الآفات العارضة لأجسادها لكيما تحرس نفوسها على حفظ أجسادها من الآفات لها إلى أجل معلوم. وأما كون بعض الحيوانات آكلة لجيف بعض فلئلا يضيع شيء مما خلق بغير نفع.
واعلم يا حبيبي! إنه قد تحيرت العقول في كون بعض الحيوانات آكلة لبعض وفيما جعل الله (تعالى) ذلك في طباعها وهيأ لها الآلات والأدوات التي يتمكن بها على ذلك كالأنياب والمخاليب والأظافير الحداد التي بها يقدر على القبض والضبط والخرق والنهش والأكل والشهوة واللذة والجوع وما شاكل ذلك، مع ما يلحق المأكولات منها من الآلام والأوجاع والفزع عند الذبح والقتل، فلما تفكروا في ذلك ولم تسنح لهم العلة ولا الغاية والحكمة فاختلف عند ذلك بهم الآراء وتفننت بهم المذاهب حتى قال بعضهم: إن تسلط الحيوانات بعضها على بعض وأكل بعضها لبعض ليس من فعل حكيم بل فعل شرير قليل الرحمة ظلام للعبيد، فلهذا قالا: إن للعالم فاعلين: خيّراً وشرّيراً.
ومنهم مَن نسب ذلك إلى النجوم ومنهم مَن قال إن هذا عقوبة لها لما سلف منها من الذنوب والمعاصي في الأدوار السابقة وهؤلاء هم التناسخية. ومنهم مَن قال بالعرض. ومنهم مَن قال إن هذا أصلح. ومنهم مَن أقر على نفسه بالعجز. قال: لا أدري ما العلة في أكل الحيوانات بعضها بعضاً؟ غير أنه قال إن الباري (تعالى) لا يفعل إلا الحكمة وكل هذه الأقاويل قالوها في طلبهم العلة ووجه الحكمة.
وإنما لم يقفوا عليها لأن نظرهم كان جزئياً، وبحثهم عن علل الأشياء مخصوصاً، ويمتنع أن يعلم أسباب الأشياء الكلية بالأنظار الجزئية لأن أفعال الباري (تعالى) إنما الغرض منها هو النفع الكلي والصلح على العموم وإن كان يعرض من ذلك ضرر جزئي ومكاره مخصوصة أحياناً. والمثال أحكامه في الشريعة الحقة وحدوده فيها، وذلك إنه حكم بالقصاص في القتل وقال: ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)) وإن كان موتاً وألماً لمن يقتص منه وكذل قطع يد السارق فيه نفع عمومي وصلاح كلي وإن كان ألماً للسارق وضرراً له.
وهكذا خلق الله الشمس والقمر والأمطار لأجل النفع والمصلحة العامة وإن كان قد يعرض لبعض الناس والحيوان والنبات من ذلك ضرر، وكذلك أيضاً قد ينال لاتباع الأنبياء الأئمة (ع) شداد وآلام في إظهار الدين وإقامة سنن الشريعة في أوائل الأمر لكن لما كان حكمة الباري وغرضه في إظهار الدين وإعلان قواعد الشريعة هو النفع العام والمصلحة الكلية للذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ولا يحصى عددهم وعدد ما يلحق بهم من السعادات والخيرات سهل في جنب ذلك ما نال النبي وأئمته وأولاده المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) من أذية المشركين وجهاد الأعداء المخالفين وما لاقوا منا لحروب والعداوات وتعب الأسفار، ثم ما نال المؤمن من قيام الليل وصيام النهار وأداء الفرائض وما فيها من الجهد على النفوس والتعب على الأبدان نزر قليل في جنب ما أعد الله لهم من نعيم الجنان والحور العين ورضوان الله الأكبر، ولما كان الأمر يؤول إلى الصلاح الكلي كانت تلك الشدائد من جهته صغيراً جزئياً.
فعلى هذا المثال نقول في وجه الحكمة ـ في أكل بعض الحيوانات بعضاً: إن قصد الباري (جل ثناؤه) وغرضه في ألم الحيوانات وما جبل عليه طباعها من الأوجاع والآلام التي يلحق نفوسها عند الآفات العارضة ليس عقوبة لها وعذاباً كما ظن أهل التناسخ، بل حثاً لنفوسها على حفظ أجسادها وصيانة لهياكلها من الآفات العارضة لها، إذ كانت الأجساد لا تقدر على جر منفعة ودفع مضرة، فلو لم يكن ذلك لتهاونت النفوس بالأجساد وخذلتها وأسلمتها إلى المهالك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها ولهلكت كلها دفعة واحدة في أسرع مدة فلهذه العلة جعلت الآلام والأوجاع للحيوان دون النبات، وجعل فيها جبلة الدفع إما بالحرب والقتال وإما بالهرب والفرار والتحرز لحفظ أنفسها من الآلام العارضة إلى وقت معلوم، فإذا جاء أجلها فلا ينفعها الهرب والقتال ولا التحرز بل لابد من التسليم والانقياد وإن كان ينالها بعض الآلام والأوجاع.
وإذ قد ذكرنا هذه المقدمة فنقول، الآن: إن الباري (تعالى) لما خلق أجناساً من الحيوانات الأرضية وعلم بأنه لا يدوم بقاؤها أبد الآبدين جعل لكل منهما عُمراً طبيعياً أكثر ما يمكن، ثم يجيئه الموت الطبيعي إن شاؤا وأبى، وقد علم الله (تعالى) بأنه يموت كل يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل عدد لا يحصيه إلا هو سبحانه، فجعل بواجب حكمته جثث جيف موتاها غذاء لأحيائها ومادة لبقائها لئلا يضيع شيء مما خلق بلا نفع وفائدة، وكان هذا منفعة للأحياء ولم يكن فيه ضرر على الموتى.
------------------------------------
* الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام