موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

في أن الوجود حقيقة واحدة مشككة
عبدالجبار الرفاعي
 


وبغية بيان هذه المسألة بجلاء نشير بإيجاز إلى بعض المسائل، وهي:
1 ـ الجذور التاريخية للمسألة:
أكانت هذه المسألة مطروحة في الفلسفة القديمة أم لا؟
مسألة وحدة الوجود لم تكن مطروحة في الفلسفة سابقاً، لكن في كل الفلسفات القديمة قد نعثر على قول بالوحدة، وإن كانت الأقوال بالوحدة مختلفة، فمنها قول بوحدة الحقيقة، كما في تراث الهند القديمة ومنها قول بوحدة العالم ... الخ.
أما في الفلسفة الإسلامية فإن هذه المسألة لم تتبلور بصورتها النظرية في تراث ابن سينا أو الفارابي من قبله، وإنّما تبلورت في تراث الشيخ محي الدين ابن عربي، صاحب (الفتوحات المكية) فهو الذي أشاد أركان هذه المسألة، ثم أخذت صورتها الناضجة في مدرسة الحكمة المتعالية على يد صدر الدين الشيرازي.
2 ـ الأقوال في المسألة:
حين نراجع تراث الأمم الأخرى نجد عدة أقوال في الوحدة، كوحدة الحقيقة، ووحدة العالم، ووحدة المادة، كما في الفيزياء الحديثة، أما في تراث المتصوفة والعرفاء الإسلاميين، فماذا نجد حول مسألة الوحدة؟
نجد عدة أقوال: منها القول بوحدة الشهود، وهذا ما قاله المتصوفة القدماء، وهي تعبر عن صفة نفسية للصوفي أو العارف، أي أنه لا يشهد ولا يرى إلاّ الله تعالى أما غيره فلا يراه، كما في تعبير سعدي الشيرازي إذ يقول: قد يصل الانسان إلى مقام لا يرى فيه سوى الله تعالى في هذا الكون.
وهناك قول آخر في الوحدة في تراث العرفاء، وهو وحدة الوجود، وهي تعني أن الوجود واحد لا كثرة فيه. «فليس في الدار غيره موجود ديار»، حسب تعبيرهم، فحقيقة الوجود تساوي ذات الواجب تعالى، أما نحن «فعدم متظاهر بالوجود» كما يقول جلال الدين الرومي، أو «العالم غائب ما ظهر قط، والله تعالى ظاهر ما غاب قط»، كما يقول ابن عربي، وإذا تنازلوا قالوا إن العالم شيء تجلت فيه الحقيقة الإلهية، فهو عبارة عن ظل ليس إلاّ.
وهناك قول بالوحدة تبنته مدرسة الحكمة المتعالية، وهو القول بأن حقيقة الوجود حقيقة واحدة مشككة، فالوجود واحد ذو مراتب، وهو يعني الوحدة في عين الكثرة، والكثرة في عين الوحدة، أي الوجود حقيقة واحدة يرجع كل ما به الامتياز إلى ما به الاشتراك، ويرجع ما به الاشتراك إلى ما به الامتياز، فالوجود حقيقة واحدة مشككة، يرجع ما به الامتياز إلى الوجود وما به الاشتراك إلى الوجود.
والقول الآخر في هذه المسألة المنسوب للمشائين، وهو القول بأن الوجود ليس واحداً، وأن حقائق الوجود متباينة بتمام الذات، ولا اشتراك ولا سنخية بين الموجودات.
3 ـ تحرير محل النزاع في هذه المسألة:
يتوقف بيانه على ذكر نقطتين:
أ ـ بيان المقصود بحقيقة الوجود: المراد بحقيقة الوجود، أحد ثلاثة معاني، فإما يراد بها الوجود الواجب تعالى، أو يراد بها ومراتب الوجود المتكثرة بما لها من السعة والانبساط، فيشمل الوجود الواجب والممكن بتمام مراتب الممكن بدءً بالمادة الأولى، أو يراد بحقيقة الوجود كُنْه الوجود. فيقال: حقيقة الوجود مجهولة، أي كنه الوجود مجهول.
لكن ما هو المعنى المراد هنا بحقيقة الوجود؟ المعنى المراد هنا هو المعنى الثاني، أي مراتب الوجود بما لها من السعة والانبساط التي تبدأ من المادة الأولى وتتصاعد حتى تشمل الواجب، فتدخل فيها تمام الموجودات، هذا هو المقصود بتمام حقيقة الوجود.
ب ـ المقصود بالتشكيك: التشكيك له ثلاثة معاني: فمرة يطلق بالمعنى اللغوي، فنقول: الرازي إمام المشككين، والمقصود هو معناه اللغوي، أي الذي يثير الشكوك والإشكالات والشبهات، حتى يقال إن الرازي ساهم في تطوير التراث العقلي عند المسلمين من خلال التشكيك والإشكالات الكثيرة التي كان يثيرها، فيضطر الآخرون للإجابة عليها.
ومرة أخرى يراد بالمشكك ما له عدة معاني متضادة، أي هو مشترك لفظي، من قبيل الجون الذي ينطبق على الأسود والأبيض.
ومرة ثالثة يقصد بالمشكك صفة للمفهوم الكلي، فالكلي المشكك هو الكلي المتفاوت المختلف في انطباقه على مصاديقه، أي في مقابل الكلي المتواطئ وهو الذي تكون مصاديقه ليست مختلفة، فالأبيض مفهوم كلي مشكك، لأن البياض له مراتب، والوجود أيضاً مفهوم متفاوت في انطباقه على مصاديقه، وهذا التشكيك هو التشكيك المنطقي، تشكيك مرتبط بالمفهوم.
ومرة أخرى نريد به صفة الوجود الحقيقية، أي ليس صفة لمفهوم الوجود بل صفة لحقيقة الوجود أي بالمعنى الفلسفي، صفة للوجود الخارجي. الوجود بما له من مراتب متعددة تبدأ بأدنى المراتب وتنتهي بالمرتبة التي لا يحدها حد، فالكثرة في هذه المراتب تعود للوجود، كما أن الوحدة بينها تعود للوجود، فما به الامتياز هو الوجود، وما به الاتحاد هو الوجود، وهذا هو التشكيك الفلسفي، وهذا هو المقصود بالتشكيك في قولنا: «الوجود حقيقة واحدة مشككة».
تلزم الإشارة إلى أن في التشكيك مصطلحاً آخر، فتارة يكون تشكيكاً عامياً، وأخرى يكون تشكيكاً خاصياً.
فالتشكيك العامي يعني أن جهة الاختلاف في شيء وجهة الاتفاق في شيء آخر، أي إذا كان ما به الاختلاف غير ما به الاتفاق يعبر عن هذا التشكيك بالعامي، وإذا كان ما به الامتياز عين ما به الاتحاد فهذا هو التشكيك الخاصي.
ولبيان الفرق بين التشكيك العامي والخاصي نذكر بعض الأمثلة، المثال الأوّل: للتشكيك العامي، نقول: أن الوجود يصدق على الأب والابن معاً، ولكن صدق الوجود على الأب ليس بدرجة صدقه على الابن، لماذا؟ لأن الأب متقدم والابن متأخر في الوجود، فهنا ما به الاتحاد هو جهة الوجود، وجود الأب والابن، وما به الامتياز والاختلاف ليس هو ما به الاتحاد وهو الوجود، بل شيء آخر، وهو الزمان، لأن زمان وجود الأب غير زمان وجود الابن، فما به الاتحاد غير ما به الاختلاف، هذا هو التشكيك العامي.
أما التشكيك الخاصي فنذكر له مثالين، الأول: عقلي، والثاني: عرفي حسي، فنقول في المثال العرفي الحسي: النور له مراتب، وهو ينطبق عليها من أدناها إلى أعلاها، والنور من المفاهيم المشككة، لأنه ينطبق على نور الشمعة ونور الشمس، وبين الشمعة والشمس مراتب عديدة من النور، فهناك مصباح درجة نوره واطئة ـ كمصباح النوم ـ ومصباح درجة إنارته أعلى وأعلى حتى تصل لضوء الشمس، فهنا ما به الاتحاد والاشتراك بين هذه المراتب من النور هو النور وما به الاختلاف بين هذه المراتب من النور هو النور نفسه ايضاً فالمصباح ذو الدرجة (40) والمصباح ذو الدرجة (60) لا يختلفان في شيء آخر غير النور، فما به الاتحاد وما به الاختلاف بين الدرجتين من النور هو نفسه النور، فلا شدة الشديدة ولا ضعف الضعيف من النور مأخوذة فيه قيداً، فالشدة والضعف في أصل النورية.
والمثال العقلي: خُذ مراتب العدد المختلفة 1، 2، 3، 4 ... الخ، فهذه المراتب ينطبق عليها العدد، ولكنه متفاوت في انطباقه على هذه المراتب، فالواحد غير الأربعة فما به الاتحاد بين هذه المراتب هو العددية، لأن الواحد عدد والأربعة عدد وما به الامتياز الذي جعل الواحد غير الأربعة والفرد غير الزوج هو نفس العددية أيضاً، لأن الإثنين لا يختلف عن الثلاثة إلاّ في العددية، كما أن الإثنين لا يتفق مع الثلاثة إلاّ في العددية، فما به الاشتراك هو العددية وما به الامتياز هو العددية.
والتشكيك في هذا الفصل هو التشكيك الخاصي. وحقيقة الوجود، حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة متمايزة في الشدة والضعف والتقدم والتأخر، فما به الاتحاد بين مراتب الوجود هو الوجود وما به التمايز والاختلاف بين مراتب الوجود هو الوجود نفسه.
ـ المراتب العرضية والطولية:
ما نلاحظه من كثرة في الوجود له نوعان، الكثرة الطولية، والكثرة العرضية، فنحن نلاحظ كثرة ماهيات فتقول هذا كتاب، هذا قلم، ذاك ماء ... الخ، فهذا النوع من الكثرة يعود إلى كثرة الماهيات بالذات، لأن ماهية الماء غير ماهية القلم، فالماهيات متعددة كثيرة، فمنشأ الكثرة هنا هو الماهيات، والوجود يتصف بهذه الكثرة لكن بالعرض لا بالذات، لأن الماهية متحدة بالوجود، وحكم أحد المتحدين يسري إلى الآخر، فلذلك تسري هذه الكثرة من الماهية إلى الوجود، فاعتبار أن الماهيات أوعية وقوالب الوجودات الإمكانية، وهذه كثرة اعتبارية، لأن الماهية اعتبارية، وهي صفة للماهية، وصفة الاعتباري اعتبارية، وهذا نوع من الكثرة الوجود يتكثر بالماهيات بالعرض لا بالذات من خلال تخصصه بالماهيات.
وهناك كثرة أخرى نراها في هذا العالم، كما نقول وجود العلة غير وجود المعلول، والوجود بالقوة غير الوجود بالفعل، وجود الواجب غير وجود الممكن، والعلة والمعلول كلاهما أمر وجودي، والقوة والفعل كلاهما أمر وجودي، والوجود الواجب والممكن كلاهما أمر وجودي، فهنا الماهية لم تؤخذ في الكثرة، فعندما نقول (الوجود الواجب) تعني الوجود المستغني عن غيره، فالوجوب هنا عين الوجود، لأن الوجوب هو شدة الوجود، وعندما نقول (الوجود الممكن)، فالإمكان هنا بمعنى الفقر، أي الإمكان عين وجود الممكن وليس صفة للماهية، فالممكن معناه الموجود الفقير المحتاج لغيره.
فالكثرة هنا ثابتة للوجود لأنه لا ماهية هنا، وهذه الكثرة تعني أن حقيقة هذه الكثرات واحدة، فهذه الكثرة تمثل مراتب للموجود، إذ أن مرتبة الممكن أوطأ من مرتبة الواجب، فالكثرة هنا كثرة طولية، والمقصود بالطولية: الشيء في طول الآخر، أي أنه مترتب عليه، فالمعلول في طول العلة، أي مترتب عليها الاثنين في طول الواحد، أي مترتبة عليه.
وعلى هذا الأساس نقول أن هذه الكثرة التي نلاحظها في وجود العلة والمعلول هي كثرة ثابتة بالوجود وبالذات، فالوجود حقيقة واحدة متكثرة، أي لها مراتب طولية ومراتب عرضية، والمراتب العرضية ناشئة من تكثر الوجود بواسطة الماهيات، والمراتب العرضية هي المراتب التي في رتبة واحدة، في مستوىً واحد، وعلى صعيد واحد، كما في القلم والكتاب والانسان والتراب والنبات، بينما الواجب والممكن ليسا في رتبة واحدة.
ـ التقييد والإطلاق في مراتب الوجود:
هناك تقييد وإطلاق في مراتب الوجود، لكنه ليس إطلاقاً وتقييداً لفظياً بمعنى أنه ليس تقييداً وإطلاقاً مفهومياً، كما نقول: إنسان وإنسان عالم، أو فقير وفقير عادل، وإنّما هو إطلاق وتقييد في مراتب الوجود، في حقيقة الوجود الخارجية العينية، فالمرتبة الضعيفة ـ للوجود مراتب متسلسلة من المادة الأولى (الهيولى) وتتصاعد إلى أعلى المراتب وهي الواجب تعالى ـ مقيدة، بينما المرتبة التي تليها مطلقة بالنسبة إليها، لأن المرتبة الضعيفة فاقدة لكمال المرتبة الأقوى نذكر مثالاً ليتضح الأمر: إذا كان لدينا قطعتان الأولى طولها متر والثانية طولها مترين، فالأولى نقول مقيدة بالنسبة للثانية، لأنها فاقدة لكمال المرتبة الأخرى ـ ذات المترين ـ لأن التي طولها متر تنقص مقداراً من الوجود وهو ما تشتمل عليه الثانية ذات المترين، بينما الثانية تشتمل على كمال أوسع تفقده التي قبلها وعليه فإن كل مرتبة ضعيفة تكون مقيدة، وكل مرتبة بالنسبة لما فوقها تكون مقيدة، لأنها فاقدة لكمال المرتبة الأشد.
إذاً المراتب الطولية للوجود فيها تقييد وإطلاق، وهذا ناشئ من فقدانها للكمال الذي تحتويه المرتبة الأعلى، فكل مرتبة من الوجود لها حدود ما عدا أعلى مراتب الوجود فلا حدَّ لها، وهذه الحدود تكون ملازمة للإعدام، أي وجودها ينتهي عند هذه النقطة.
أما الواجب فلا حدَّ له، لأنه بسيط غير مركب من الوجود والعدم ـ وهذا تركيب اعتباري عقلي ـ اي عدم كمال، فهو وجود صرف مطلق كامل.
ـ ما نُسب إلى المشائين:
ذهب قوم من المشائين إلى كون الوجود حقائق متباينة بتمام ذواتها، ولا توجد جهة وحدة ترجع إليها هذه الحقائق الوجودية، ويمكن تحليل هذا المدَّعى إلى دعويين:
الأولى: أن الواقع الخارجي كثير حقيقةً، بخلاف ما يذهب إليه بعض المتصوفة من أن الواقع الخارجي لا تكثر فيه.
الثانية: أن هذه الحقائق متباينة بتمام ذواتها ولا توجد بينها جهة اتحاد.
أما ما استدل به القوم على الدعوى الأولى، فهو أن الموجودات الخارجية تختلف من حيثُ الآثار المترتبةُ عليها، فالنار تختلف عن الماء في آثارها، وهذا يختلف في آثاره عن التراب، وهكذا، وإن اختلاف أثر النار عن أثر الماء يكشف عن اختلاف المؤثرات، فأثر النار هو الإحراق وأثر الثلج هو البرودة، ولذلك فإن الواقع الخارجي مؤلف من حقائق متعددة كثيرة، تبعاً لاختلاف الآثار.
هذه الدعوى الأولى، وهي إن الواقع الخارجي مؤلف من حقائق كثيرة لا من حقيقة واحدة كما يدعي بعضهم.
والدعوى الثانية في القول المنسوب إلى المشائين: أن هذه الحقائق المتعددة والموجودة في العالم الخارجي متكثرة بتمام الذات، والتغاير والتباين كما نعلم، تارة يكون بتمام الذات، كالتباين بين الماهيات والأجناس العالية، كالكم والكيف والجوهر ... الخ.
وتارة يكون التباين ببعض الذات، كما في التباين بين الإنسان والفرس، اللذين يشتركان في الحيوانية ويتباينان في فصل كل واحد منهما، ففصل الانسان هو الناطق وفصل الفرس هو الصاهل، وتارة يكون الاختلاف والتمايز بشيء خارج عن الذات، أي في الأعراض الخارجة عن الذات، كما في ملاحظة شيء لونه أبيض وآخر لونه أسود، فالتغاير في أمور عرضية خارجية.
فهؤلاء قالوا: إن هذه الحقائق الموجودة في الخارج، متغايرة ومتباينة بتمام الذات، واستدلوا على ذلك، فقالوا: لأن الوجودات بسيطة وليست مركبة، فإذا كانت متباينة ـ كما بينا في الدعوى الأولى ـ فلا بد أن يكون الاختلاف والتغاير بينها بتمام ذواتها، وإلاّ لما كانت بسيطة بل يلزم كونها مركبة، مركبة من حيثية بها الاشتراك بينها وبين الموجودات الأخرى، وحيثية أخرى بها الامتياز عن الموجودات الأخرى، وقد تبين أن هذه الحقائق الوجودية بسيطة وإن مراتب الوجود بسيطة وليست مركبة.
إذاً يكون وضع هذه الموجودات نظير المقولات والأجناس العالية، كالجوهر والكم والأين والاضافة ... الخ، أي إنّ التمايز بينها بتمام ذواتها، هذا ما ذهب إليه المشاؤون من أن الموجودات الخارجية كثيرة ومختلفة بتمام الذات.
ـ إشكال وجواب:
إذا كان الوجود الخارجي مؤلفاً من جملة حقائق متباينة بتمام الذات فكيف يصح أن نحمل عليها مفهوماً واحداً وهو مفهوم الوجود، فنقول: النار موجودة، الكتاب موجود، الماء موجود، فكما ذكرنا سابقاً أن مفهوم الوجود مشترك معنوي، فهو يحمل عليها بنفس المعنى وهذا غير ممكن، لأن هذا المفهوم البديهي واحد، والواحد من حيثُ هو واحد لا يمكن أن يحكي عن الكثير من حيثُ هو كثير، أو عن المتباينات من حيثُ إنها متباينات متكثرة، هذا هو الإشكال، أي أن مفهوماً واحداً هو مفهوم الوجود يحمل على هذه الموجودات المتباينة بمعنى واحد، وهذا لا يصح، لأن هذا المفهوم الواحد من حيثُ هو واحد لا يمكن أن يحكي أمور متكثرة ومتباينة من حيثُ هي متكثرة.
والجواب على ذلك: أن مفهوم الوجود هذا المفهوم العام إذا كان يحمل على هذه الموجودات المتباينة بتمام الذات، بنحو صدق الذاتي على أفراده، كما في صدق الكتاب على هذا الكتاب وذاك الكتاب، فيرد الإشكال المذكور، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن مفهوم الوجود إنما يصدق على هذه المصاديق الخارجية بنحو العرض اللازم، وهو نحو صدق مفهوم العرض على المقولات التسعة العرضية، فمفهوم العرض لا يصدق عليها بنحو صدق الذاتي على أفراده، كصدق مفهوم القلم على هذا القلم وذاك القلم وكل قلم، وإنما يصدق عليها بمعنى أنها تشترك جميعها ـ المقولات التسعة ـ في مفهوم عام عرضي وهو مفهوم العرض، والأمر هنا كذلك، أي إن مفهوم الوجود يصدق على هذه الموجودات المتباينة بتمام الذات، من قبيل صدق العرض اللازم على هذه المقولات.
ـ وحدة الوجود التشكيكية:
والاتجاه الآخر هو الذي ذهبت إليه مدرسة الحكمة المتعالية، وهو القول بالوحدة التشكيكية للوجود، فالقول المنسوب للمشائين غير تام، لأن اختلاف الآثار صحيح أنه يكشف عن اختلاف المؤثرات، ولكن أهذه المؤثرات ـ الموجودات ـ هي حقائق متباينة بتمام الذات أم هي حقيقة واحدة لها مراتب متعددةّ الصحيح ما تقوله مدرسة الحكمة المتعالية وهو أن الوجود الذي يكون منشأ لترتب الآثار هو حقيقة واحدة مشككة ذات مراتب متعددة، تبدأ بأدنى المراتب، المادة الأولى ـ الهيولى ـ وتنتهي بالمرتبة التي لا يحدها حد.
وهنا قد يقال: كيف تكون الموجودات كثيرة حقيقة وبسيطة حقيقةً، ومع ذلك تعود إلى جهة واحدة، فإن رجوعها إلى جهة واحدة يعني أنها مركبة، كيف نقول ذلك؟
لابد أن نقول أن هذه الكثرة التي نراها في الخارج لا تعود إلى جهة كثرة حقيقية واقعية في العالم الخارجي، وهذا الإشكال ينشأ من الخلط والتوهم بين التشكيك العامي والخاصي، وقد قلنا أن ما به الاختلاف مرة يعود إلى ما به الاشتراك، فيكون تشكيكاً خاصياً، إذ هناك مراتب مختلفة يعود بها ما به الاتحاد إلى ما به التمايز والاختلاف، ومرة أخرى لا يعود ما به الاختلاف إلى ما به الاتحاد فيكون التشكيك عامياً، فتوهم أن هذا التشكيك عامياً يؤدي لاثارة مثل هذا الإشكال، إما إذا عرفنا أن التشكيك هنا خاصيٌّ ـ ما به الاشتراك عين ما به الاختلاف ـ حقيقة واحدة، فعندها نستطيع أن نلتزم ببساطة الموجودات من جهة ورجوع الكثرة وما به التمايز إلى الوحدة من دون أن تكون هذه الكثرة باطلة، وعليه نقول أن ما نراه من كثرة بين الموجودات يعود إلى الوجود نفسه، فإن ما به الاتحاد وما به التمايز يعودان إلى حقيقة واحدة، مثلما قلنا من الاتحاد والتمايز بين الأعداد، الواحد والاثنين والثلاثة ... الخ، إذاً اتضح أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة مشككة ذات مراتب، يعود ما به الاتحاد لنفس ما به التمايز والاختلاف، بالتشكيك الخاصي.
ومدَّعى مدرسة الحكمة المتعالية، وهو أن الوجود حقيقة واحدة مشككة، يعود إلى أمرين:
الأوّل: أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة.
والثاني: أن هذه الحقيقة الواحدة مشككة، بالتشكيك الخاصي.
ولكن ما الدليل على أن الواقع الخارجي حقيقة واحدة؟ نقول إن مفهوم الوجود مشترك معنوي، أي يُحمل بمعنىً واحد على مصاديقه، وهنا نسوق هذا الدليل وهو قياس استثنائي مؤداه ما يلي: لو لم يكن الوجود حقيقة واحدة لكان حقائق متباينة، والتالي باطل فالمقدم مثله، أي الوجود ليس حقائق متباينة، إذاً الوجود حقيقة واحدة.
ولتوضيح هذا الدليل نسوق هذه المقدمة: فنقول إن المفهوم والمصداق من حيثُ الذات والذاتيات هما شيء واحد، لأن مفهوم زيد ومصداقه نفسه، والتغاير إنّما هو في أن وجود المصداق بوجود خارجي، والمفهوم نفس المصداق لكن بوجود ذهني، وإلاّ لو لم يكن المفهوم والمصداق أمراً واحداً لما أمكن أن يحكي المفهوم عن المصداق، والاختلاف بين المفهوم والمصداق هو في طبيعة الوجود بالذهن أو بالخارج.
إذاً فمفهوم الوجود واحد، إذ لا يمكن أن ننتزع مفهوم الوجود الواحد من مصاديق متباينة من حيثُ هي متباينة، لأنه يلزم ن يكون الواحد عين الكثير والكثير عين الواحد، وذلك معناه اجتماع النقيضين وهو محال، هذا هو الدليل الأول على الدعوى الأولى.
والدليل الثاني على الدعوى الأولى، بيانه يتوقف على مقدمة وهي: لو كان هناك في الواقع الخارجي مصداقان (أ، ب) وحاولنا أن ننتزع مفهوماً واحداً من هذين المصداقين فهنا عدة فروض:
الأوّل: أنْ نأخذ في هذا المفهوم المنتزع من هذين المصداقين خصوصية المصداق، (أ) فلا ينطبق على المصداق (ب).
الثاني: أن نأخذ فيه خصوصية المصداق (ب) فقط، فلا ينطبق على المصداق (أ) لأن المصداقين متباينان بتمام الذات، وليس بينهما جهة اشتراك أصلاً.
الثالث: أن نأخذ فيه الخصوصيتين معاً، خصوصية (أ) وخصوصية (ب)، وعندها سوف لا ينطبق على (أ) ولا على (ب)، لأن المصداق (أ) ليس فيه شيء من خصوصية المصداق (ب)، وكذلك المصداق (ب) ليس فيه شيء من خصوصية المصداق (أ).
الرابع: أن ننتزع المفهوم من الخصوصية المشتركة بين المصداق (أ، ب) وهذا الفرض معقول كما ننتزع الانسان من الخصوصية المشتركة بين زيد وعمر وبكر، لكن هذا خلاف ما فرضناه، لأننا فرضنا أن المصاديق متباينة بتمام الذات، ولا توجد بينها جهة اشتراك أصلاً.
وبذلك يتبين من خلال الدليلين أن مفهوم الوجود العام المشترك المعنوي لا يمكن أن ننتزعه من مصاديق متباينة بتمام الذات من حيثُ هي متباينة بتمام الذات، إذاً لابد أن تكون هناك حقيقة واحدة مشتركة جامعة بين تمام هذه المصاديق، لتكون هي الملاك لانتزاع هذا المفهوم الواحد.
كما أن مفهوم الانسان حقيقة واحدة مشتركة بين أفراد الانسان وننتزعها من بين هذه الأفراد وإلا لو لم تكن هناك حقيقة واحدة مشتركة بين تمام المصاديق للزم أن ننتزع المفهوم من دون مناط، ولازم ذلك ـ كما قال الشهيد المطهري ـ انتزاع أي مفهوم من أي مصداق، وهذا واضح البطلان، ولذلك نقول أنه لابد أن يكون هناك شيء خارجي عيني يعود ما به الاشتراك إلى ما به الاختلاف، أي لابد أن تكون هناك حقيقة واحدة ترجع إليها تمام التمايزات بين الوجودات.
هذا تمام الكلام في الدعوى الأولى وهي إن الوجود حقيقة واحدة.
أما الدعوى الثانية، وهي أن هذه الحقيقة الواحدة مشككة، أي ليست حقيقة واحدة شخصية بل حقيقة واحدة لها مراتب متعددة، وهذه المراتب متغايرة، والدليل على ذلك هو أننا نلاحظ هذه المراتب كما نلاحظ الانسان بالقوة والانسان بالفعل، العلة والمعلول، فنحن نرى هذه المراتب الطولية للوجود، وهناك مراتب عرضية للوجود، كما نلاحظ أن وجود الماء يختلف عن وجود النار، فحيثية الاختلاف بين الوجودات تعود إلى حيثية الاتحاد بين الوجودات، أي ما به الامتياز عين ما به الاشتراك وبالعكس، وهذا هو التشكيك فللوجود مراتب طولية ومراتب عرضية، وقد أوضحنا ذلك سابقاً، ولكن لأهمية ذلك نقف وقفة بسيطة عند هذه المسألة، فهناك سلسلة طولية للموجودات، تبدأ بأدنى الموجودات وتنتهي بأعلى المراتب، كما قال العلامة والفيلسوف الاسلامي الطباطبائي، وفي السلسلة الطولية يفترض أن هناك تسلسلاً بين الموجودات وهناك عوالم مترتبة تبدأ من عالم الطبيعة ـ الذي هو أدنى العوالم ـ ثم هناك عالم أشد منه في وجوده، وعلى حد تعبير الشهيد المطهري في «شرح المنظومة» أن الرابطة بين هذه العوالم هي رابطة المحيط والمحاط، أي عالم الطبيعة يحيط به العالم الذي يليه فهو محاط والآخر مخيط، وكل عالم أعلى يحيط بالعالم الأدنى وجوداً، كما أنه يكون أقوى وجوداً. هذه هي السلسلة الطولية للعالم، وفيها كل عالم أعلى يحيط بالذي هو أسفل منه.
وهناك مراتب متكثرة أخرى هي المراتب العرضية، وهذه الكثرة تلحق الوجود من الخارج، فهي كثرة بالعرض لا بالذات، ومنشؤها الماهيات، والمراتب فيها على صعيد واحد وليست طولية، ولا علية ومعلولية، وإنما هي على مرتبة واحدة وصعيد واحد، ولذلك فالتعبير بالمراتب العرضية تعبير مسامحي، فالصحيح هي كثرة عرضية، وهذا لا يعني أنها متساوية في درجتها الوجودية، ولكن لا يوجد بينها طولية وعلية ومعلولية.
نمثل لذلك لتتضح المسألة، وإن كان المثال يقرب من جهة ويبعد من جهة كما يقال، ولكن لكي تتضح الفكرة، فهذا كما لو سلطنا النور على عدة زجاجات كل زجاجة ذات لون خاص، فالنور سوف يتلون ويتشكل طبقاً للون الزجاجة، فالنور الساقط على الزجاجة الزرقاء يكون أزرق والذي يسقط على الزجاجة الحمراء سيكون أحمر، بينما هذا النور في حقيقته أمر واحد لونه لون واحد، ولكنه تشكل وتلون تبعاً للقوابل والقوالب من الزجاج التي سقط عليها، وعلى هذا الأساس فالوجود في المراتب العرضية يتكثر تبعاً للأوعية والقوالب أي الماهيات التي يعرض عليها.
وفي الكثرة الطولية يكون ما به الاتحاد وما به الاختلاف هو حقيقة الوجود، فيكون التشكيك فيها خاصياً، أما الكثرة العرضية، فلا يكون ما به الاتحاد عين ما به الاختلاف، أي أن التشكيك يكون عامياً، لأن ما به الاختلاف في الكثرة العرضية هو الماهيات، وما به الاشتراك هو الوجود.
-----------------------------
* المصدر: دروس في الفلسفة الاسلامية


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام