موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام

في مباحث الخير والشر
صدر الدين الشيرازي



ان الخير ما يتشوقه كل شيء ويتوخاه ويتم به قسطه من الكمال الممكن في حقه، ويكون كل ذات مولية وجد القصد الى شطره في ضروريات وجودها وأوائل فطرتها وفي مكملات حقيقتها ومتممات صفاتها وافعالها وثواني فضائلها ولواحقها، فالخير المطلق الذي يتشوقه كل الاشياء ويتم به أو بما يفيض منه ذواتها وكمالات ذواتها هو القيوم الواجب بالذات (جل ذكره) لأنه وجود مطلق لا نقص فيه ونور محض وبهاء محض وتام وفوق التمام، فيعشقه ويتشوقه كل ممكن بطباع إمكانه وكل موجود دونه بطباع نقصانه فيخضع له كل معلول بقوام معلوليته وفقره، فكل ما سواه لا يخلو من شوب نقص وفقر، فلم يكن شيء مع المعلولات خيراً محضاً من كل جهة بل فيه شوب شرِّية بقدر نقصان درجته عن درجة الخير المطلق الذي لا ينتهي خيريته الى حدّ ولا يكون فوقه غاية وللشرّ معنى آخر هو المصطلح عليه وهو فقد ذات الشيء او فقد كمال من الكمالات التي يخصه من حيث هو ذلك الشيء بعينه والشرّ على كلا المعنيين أمر عدمي وإن كان له حصول في بعض كحصول الاعدام والامكانات للاشياء ضرباً من الحصول في طرف الاتصاف ولاجل ذلك قالت الحكماء ان الشرّ لا ذات له بل هو أمر عدمي، أما عدم ذات او عدم كمال ذات والدليل عليه أنه لو كان امراً وجودياً لكان إما شراً لنفسه أو شراً لغيره لا جائز ان يكون شراً لنفسه وإلاّ لم يوجد لأن وجود الشيء لا يقتضي عدم نفسه ولا عدم شيء من كمالاته ولو اقتضى الشيء عدم بعض ما له من الكمالات لكان الشر هو ذلك العدم لا هو نفسه ثم كيف يتصور أن يكون الشيء مقتضيا لعدم كمالاته مع كون جميع الاشياء طالبة لكمالاتها اللائقة بها! والعناية الالهية كما أشير اليها لا تقتضي اهمال شيء بل توجب ايصال كل شيء الى كماله، فيكون الاشياء بطبائعها وغرائزها طالبة لكمالاتها وغاياتها لا مقتضية لعدمها ونقصانها ولا جائز أيضاً أن يكون الشرّ على تقدير كونه وجودياً شراً لغيره لأن كونه شراً لغيره إما أن يكون لأنه يعدم ذلك الغير أو يعدم بعض كمالاته أو لأنه لا يعدم شيئاً فان كان كونه شراً لكونه معدماً للشيء أو لبعض كمالاته فليس الشر إلاّ عدم ذلك الشيء أو عدم كمالهِ لا نفس ذلك الامر الوجودي المعدم، وإن لم يكن معدما لشيء أصلا فليس بشرّ لما فرض انه شرّ له فان العلم الضروري حاصل بأن كلما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كماله فإنه لا يكون شراً لذلك لعدم استضراره به، واذا لم يكن الشر الذي فرضناه أمراً وجودياً شراً لنفسه ولا شراً لغيره فلا يجوز عدّه من الشر وصورة هذا القياس على نظمه الطبيعي هكذا لو كان الشر أمراً وجودياً لكان الشرّ غير شرّ والتالي باطل فكذا المقدم وبيان اللزوم وبطلان التالي ما مر تقريره فعلم أن الشر أمر عدمي لا ذات له إما عدم ذات أو عدم كمال ذات.
وانت اذا تأملت واستقربت معاني الشرور واحوالها ونسبها وجدت كلما يطلق عليه اسم الشر لا يخرج من أمرين، فانه إما عدم محض أو مؤد الى عدم، فيقال شر لمثل الموت والجهل البسيط، والفقر والضعف، والتشويه في الخلقة، ونقصان العضو والقحط وامثالها من عدميات محضة ويقال: شر لما هو مثل الالم والحزن والجهل المركب، وغير ذلك من الامور التي فيها ادراك لمبدء ما وسبب ما لافقد لمبدء ما وسبب ما فُقِد فان السبب المضر المنافي للخير والكمال الموجب للفقد والزوال قسمان.
القسم الاول ما كان مواصلا للمضرور به المؤلف من جهة وجوده فيدركه بدرك عدم الصحة والسلامة كمن يتأذى بفقدان اتصال عضو بوجود حرارته ممزقة له، قطّاعة لذاعة فانه من حيث يدرك فقدان الاتصال وزوال الصحة بقوة شاعرة في مادة ذلك العضو وطبيعته _يدرك بتلك القوة بعينها السبب الموذي الحار ايضاً، فيكون هناك ادراكان: ادراك أمر عدمي على نحو ادراك سائر الامور العدمية وادراك أمر وجودي على نحو ادراك سائر الامور الوجودية، وهذا المدرك الوجودي ليس شراً في نفسه بل بالقياس الى هذا الشيء واما المدرك الاخر من عدم الكمال وزوال الاتصال فهو شر في نفسه، وليس شراً بالقياس اليه فقط حتى يتصور له وجود ليس يكون بحسبه شراً، بل وليس نفس وجوده إلا شراً فيه وعلى نحو كونه شراً فان العمى لا يجوز ان يكون إلاّ في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز ان يكون إلاّ شراً وليس له جهة أخرى يكون بها غير شر بخلاف ذلك الامر الوجودي المضر المؤلم فان الحرارة المؤذية أو الخلط اللذاع أو السم القاتل يتصور لها نحو آخر من الوجود لا تكون بحسبه شراً بل خيراً.
والقسم الثاني ما كان غير مواصل للمضرور كالسحاب المظل المانع لاشراق الشمس على المحتاج اليه في استكماله بالتسخين وكالبرد المفسد للثمار والمطر المانع عن تبيض الثياب، فان كان المفتقر الى الاستكمال دراكاً ادرك فقد كمال وعدم انتفاعه، ولكن لم يدرك _من حيث أنه يدرك لذاك _ ان السحاب قد حجب أو المطر قد منع أو البرد قد افسد ثماره، بل من حيث انه مدرك بقوة اخرى كالبصر أو غيره فان المفتقر الى التسخن بشعاع الشمس مثلا مزاج بدنه بقوة اللمسية، وهي بالحقيقة عادته للكمال اللمسي وفاقدة للسلامة والاعتدال المزاجيين وهي ايضاً مدركة لهذا الشرّ الحقيقي الذي هو العدم والفقدان واما المدرك للمزيل المانع كالسحاب ههنا فهو البصر لا قوة اللمس، فليس هو من حيث انه مبصر متأذيا عن السحاب ولا متضررا منه ولا منتقصاً، بل من حيث كونه ذا لمس وذا قوة لمسية والقوة اللمسية لا تدرك السحاب المعدم لكماله، بل الذي تدركه هذه القوة هو عدم الصحة وزوال الكيفية الملائمة فالشر بالذات هو العدم، ولا كل عدم بل عدم واصل الى الشيء ولا كل عدم واصل اليه فان عدم الحلاوة في قوة السمع والبصر ليس بشر لهما بل عدم واصل اليه، يكون عدم مقتضى طبيعته من الكمالات التي تخص لنوعه وطبيعته.
واما الوجودات فهي كلها خيرات إما مطلقاً _أي بالذات وبالقياس جميعاً _ أو بالذات، ولكن قد يعرضها بالقياس الى بعض الاشياء أن يؤدي الى عدمه أو عدم حال من أحواله، ويقال لها الشر بالعرض وهو المعدم المزيل، أو الحابس المانع للخير عن مستحقه أو المضاد المنافي لكمال يقابله وخير يضاده.
ومن هذا القسم الاخلاق المذمومة المانعة للنفوس عن الوصول الى كمالاتها العقلية كالبخل والجبن والاسراف والكبر والعجب وكذا الأفعال الذميمة كالظلم والقتل عدواناً وكالزنا والسرقة والغيبة والنميمة والفحش وما اشبهها فان كل واحد من هذه الاشياء في ذاته ليس بشر وإنما هي من الخيرات الوجودية وهي كمالات لأشياء طبيعية بل لِقوى حيوانية أو طبيعية موجودة في الانسان، وإنما شريتها بالقياس الى قوة شريفة عالية شأنها في الكمال ان تكون قاهرة على ما تحتها من القوى غير خاضعة ولا مذعنة ايّاها.
فالحر والبرد المؤلمان للحيوان المفسدان للثمار ولاغذية الانسان وسائر الانعام كيفيتان من الكيفيات الفعلية، وهما من كمالات الاجسام الطبيعية العنصرية، وإنما الشرّ في فقد الصحة والسلامة وزوال الاعتدال من أمزجة النبات والحيوان، وكذلك الاخلاق الذميمة كلها كمالات للنفوس السبعية والبهيمية وليس بشرور للقوى الغضبية والشهوية، وإنما شرّية هذه الاخلاق الرذيلة بالقياس الى النفوس الضعيفة العاجزة عن ضبط قواها عن الافراط والتفريط وعن سوقها الى مسلك الطاعة للتدبير الأتم الذي ينوط به السعادة الباقية، وكذا شرّية هذه الافعال الذميمة (كالزنا والظلم) بالنسبة الى السياسة البدنية أو المدنية والظلم إنما هو شرّ بالنسبة الى المظلوم على الوجه الذي عرفته وأما بالنسبة الى الظالم من حيث هو ظالم فليس بشرّ ألا بكونه ذا قوة نطقية فيتضرر به أزيد مما يتضرر به المظلوم في اكثر الامر، وكذلك الالام والاوجاع والغموم والهموم وغيرها فهي _من حيث كونها ادراكات لأمور ومن حيث وجودها أو صدورها من العلل الفاعلة لها خيرات كمالية وإنما هي شرور بالقياس الى متعلقاتها من الاعدام والفقدانات أو المفسدات والمؤلمات.
فاذا تصفحت عن جميع الاشياء الموجودة في هذا العالم المسماة عند الجمهور شروراً لم تجدها في أنفسها شروراً بل هي شرور بالعرض خيرات بالذات كما مر بيانه بالوجه القياسي.
شك وتحقيق
اعلم ان ههنا اشكالاً معضلاً لم تنحل عقدته الى هذا الوقت وهي منحلة بعون الله العزيز.
تقريره ان الألم هو نوع من الادراك، فيكون وجودياً معدوداً من الخيرات بالذات وان كان متعلقه عدمياً، فيكون شرّاً بالعرض كما ذكروا، فيكون هناك شرٌّ واحد بالحقيقة هو عدم كمال ما، لكنا نجد بالوجدان أنه يحصل هناك شرّان أحدهما ذلك الامر العدمي كقطع العضو مثلاً وزوال الصحة والاخر الامر الوجودي الذي هو نفس الألم وذلك الامر الوجودي المخصوص شرُّ لذاته وإن كان متعلقه أيضاً شراً آخر، فانه لا شك ان تفرّق الاتصال شرٌّ سواء أدرك أو لم يدرك، ثم الالم المترتب عليه شرٌّ آخر بين الحصول لا ينكره عاقل حتى لو كان التفرّق حاصلا بدون الالم لم يتحقق هذا الشرّ الآخر، ولو فرض تحقق هذا الالم من غير حصول التفرق لكان الشرّ بحاله.
فثبت ان نحواً من الوجود شر بالذات فبطلت هذه القاعدة الكلية: "أن كلما هو شرٌّ بالذات فهو أمر عدمي، فهذا ما ذكره "العلامة الدواني" في "حاشية التجريد" ولم يتيسر له دفعه ولذا قال "والتحقيق أنهم إن ارادوا أنّ منشأ الشرّية هو العدم فلا يردُ هذا النقض عليهم، وإن أرادوا أن الشرّ بالذات هو العدم وما عداه إنما يوصف به بالعرض حتى لا يكون بالحقيقة الأشرّية واحدة هي صفة العدم بالذات وينسب الى غيره بالتوسط كما هو شأن الاتصاف بالعرض فهو وارد فافهم (انتهى كلامه).
واقول في دفعهِ ان مقصودهم هو الثاني، والايراد مدفوع عنهم بأن الالم ادراك للمنافي العدمي كتفرق الاتصال ونحوه بالعلم الحضوري وهو الذي يكون العلم فيه هو المعلوم بعينه لا صورة اخرى حاصلة منه، فليس في الالم أمران احدهما مثل التفرق والقطع وفساد المزاج والثاني صورة حاصلة منه عند المتألم يتألم لاجلها بل حضور ذلك المنافي العدمي هو الألم بعينه فهو _وان كان نوعاً من الادراك لكنه من افراد العدم فيكون شراً بالذات وهو _ وإن كان نحوا من العدم _ لكن له ثبوت على نحو ثبوت اعدام الملكات كالعمى والسكون والفقر والنقص والامكان والقوة ونظائرها.
وقد علمت أن وجود كل شيء عين ماهيته، فوجود العدم عين ذلك العدم كما أنّ وجود الانسان عين الانسان ووجود الفلك عين الفلك وعلمت ايضاً أنّ العلم بكل شيء عين المعلوم منه بالذات فهيهنا الوجود عين التفرق أو الانقطاع أو الفساد الذي هو عدمي والادراك المتعلق به عين ذلك الوجود الذي هو نفس الامر العدمي.
فقد ثبت ان الالم الذي هو الشرّ بالذات من أفراد العدم، ولا شك أن العدم الذي يقال أنّه شرّ هو العدم الحاصل لشيء لا العدم مطلقا كما اشير اليه سابقاً فاذن لا يرد نقض على قاعدة الحكماء: "ان كلما هو شر بالذات فهو من افراد العدم البتة".
والذي يزيدك ايضاحاً لهذا المقام من أنّ الالام والاوجاع من جملة الاعدام: ان قوى النفس سارية في البدن وأنّها هي التي تشعر وتحس بأنواع المحسوسات، فهي بعينها الجوهر اللامس الذائق الشام وهي عين الصورة الطبيعية الاتصالية المزاجية، وكل ما يرد على البدن من الاحوال _وجودياً كان أو عدميّاً _ فالنفس تنفعل منه وتناله بالحقيقة وتتأثر منه لأجل قواها السارية في البدن فتفرق الاتصال الوارد على الجسم لا شك أنّه شر للجسم لأنه زوال اتصاله وعدم كماله، فلو كان الجسم موجوداً حيّاً عند انفصاله شاعراً يتفرق اتصاله كان له غاية الشرّية التي لا تتصور فوقها شرّية الشيء لانه يثبت عدمه له عند وجوده فاذا كان كذلك _والنفس كما علمت لها ضرب من الاتحاد بالبدن فكلما يرد على البدن عند تعلق النفس به فكأنما ورد على ذات النفس، ولهذا تتأذى وتتألم بالجراحات والامراض وسوء المزاج البدني بقدر تعلقها به واتحادها، لكن النفس لما كانت لها مقامات اخرى ونشآت غير هذه النشأة التي وقع لها الاذى بسببها لم يكن أذاها من جراحة عظيمة أو سوء مزاج شديد أو فساداً أو موت مثل اذى الحي الذي حياته بعينها حياة البدن.
فتأمل يا حبيبي لتدرك أنّ الشر غير لاحق الاّ لما في طباعه ما بالقوة، وذلك لاجل المادة الجسمية بسبب أن وجودها وجود ناقص متهيىء لقبول الفساد والانقسام والتكثر وحصول الاضداد والاستحالة والتجدد في الاحوال والانقلاب في الصور، فكلما هو أكثر براءة من المادة فهو أقل شرّ ووبالاً.
واعلم ان الشرور تلحق المواد على وجهين لأنها إما أن تلحقها لأول أمرٍ يعرضها في اول الكون وإمّا الأمر يطرء عليها بعد التكون فالقسم الاول كما تتمكن في اول وجودها هيئة من الهيئات تمنعها تلك الهيئة استعدادها الخاص للكمال الذي منيت المادة بشرّ يقابله ويوازيه كالمادة التي تتكون منها صورة انسان أو فرس أو نبات اذا عرض لها من الهيئات ما جعلها أسوء مِزاجاً وأقل اعتدالاً وأعصى جوهراً من قبول تلك الصورة على الوجه الاكمل، فلم يقبل التقويم الاحسن والتشكيل الأتم والتخطيط الاليق، فتشوهت الخِلقة بسببها ولم يوجد المحتاج اليه من كمال الاعتدال في المزاج وتمام الشكل في البينة، لا لأن الفاعل المعطي قد قصّر وما أجاد فيما أفاد، بل لأن المنفعل لم يقبل.
واما القسم الاخر فهو أحد أمرين: إما مانع وحاجب يحول بين الشيء ومكمله، وإما مضاد واصل مبطل للكمال ممحق. مثال الاول: وقوع سحب كثيرة متراكمة أو اظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار لتبلغ الى النضج وتنال الكمال ومثال الثاني: حصول البرد الشديد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد استعداده الخاص وما يتبعه من الصورة الكمالية.
__________________________________
* الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة الفلسفة وعلم الكلام