لم يفرد الإمام ( الشاطبي ) مبحثاً مستقلاً يبين فيه أنواع الأدلة
التي استند اليها للنهوض بحجية القاعدة المقصدية وجعلها قاعدة
صحيحة معتبرة , وإنما جاء ذكره لدليل القاعدة , في معرض بيانه
للقاعدة ذاتها . فهو إذ يذكر القاعدة
يذكر معها غالباً الدليل الذي ينهض بحجيتها. وعلى ذلك , فإن الوقوف
على أدلة القواعد يتطلب منا استقراء جميع القواعد المقاصدية
استقراءً تاماً للوقوف على سندها ودليل كل منها على انفراد
واستقلال . ومن
خلال الاستقراء لهذه القواعد , استطعت أن أقف على الأدلة , التي
يعتمدها الإمام ( الشاطبي ) في حجية القاعدة المقصدية وهي كالآتي :
أولاً : الاستقراء. ثانياً : الإجماع . ثالثاً : قاعدة شرعية قد
تقررت صحتها .
رابعاً : الدليل العقلي الذي يعتمد المنطق التشريعي . وتظهر هذه
الأدلة بشكل واضح إذا وقفنا عند كل منها , لنرى كيف يجعلها الإمام
( الشاطبي ) أسساً لبناء القاعدة وتشييدها . فدليل الاستقراء ,
والذي يقوم على
تتبع الجزئيات , وتصفح الفروع , للخروج منها بمعنى عام ينتظمها
جميعها " يعتمده الإمام ( الشاطبي ) كثيراً في إثبات القواعد
المقاصدية , وعادة ما يكون هذا الدليل مسانداً وملازماً للقواعد
الكلية , التي تعتبر
أصولاً لغيرها من القواعد التي تنبثق منها . فمثلاً , يستند الإمام
( الشاطبي ) الى الاستقراء , من كون الشارع قاصداً للمحافظة على
القواعد الثلاث : الضرورية , والحاجية , والتحسينية . ويقول : "
ودليل ذلك
استقراء الشريعة , والنظر في أدلتها الجزئية والكلية , وما انطوت
عليه من هذه الامور العامة على حد الاستقراء المعنوي الذي لايثبت
بدليل خاص , بل بأدلة مضاف بعضها الى بعض مختلفة الأغراض , بحيث
من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حد ما ثبت عند
العامة من وجود ( حاتم ) وشجاعة ( علي ) – رضي الله عنه – وما أشبه
ذلك . كما يستند الى الاستقراء – إضافة الى غيره من الأدلة – كدليل
ينهض بحجية القاعدة المقصدية . " الأصل في العبادات التوقف دون
الالتفات الى المعاني ,وأصل العادات الالتفاف الى المعاني " ,
ويعني بالمعاني : الحكم . حيث يبدأ ( الشاطبي ) بالاستقراء , كدليل
يثبت حجية
هذه القاعدة , فيقول : " الصلوات خصصت بأفعال مخصوصة على هيئات
مخصوصة , إن خرجت عنها لم تكن عبادات , وأن الذكر المخصوص في هيئة
ما مطلوب , وفي هيئة أخرى غير مطلوب . وأن الطهارة
من الحدث مخصوصة بالماء الطهور , وإن أمكنت النظافة بغيره . وأن
التيمم , وليست فيه نظافة حسية , يقوم مقام الطهارة بالماء المطهر
. وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما . فهذا الاستقراء ينهض
بالقسم الأول من القاعدة وهو التوقف في العبادات دون الالتفاف الى
المعاني . أما الالتفاف الى المعاني في العادات فمن أدلته أيضاً
الاستقراء , حيث يقول الإمام ( الشاطبي ) :" فإنا وجدنا الشارع
قاصداً لمصالح
العباد , والأحكام العادية تدور معها حيثما دارت , فترى الشيء
الواحد يمنع في حال لاتكون فيه مصلحة , فإذا كان فيه مصلحة جاز ,
كالدرهم بجنسه الى أجل يمتنع في المبايعة , ويجوز في القرض , وبيع
الرطب
باليابس , يمتنع حيث يكون مجرد غرر , وربا , من غير مصلحة , ويجوز
إذا كان مصلحة راجحة , ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماً كما
فهمناه في العادات . وقال تعالى ) ولكم في القصاص حياة ياأولي
الألباب )( 2البقرة / 179 ) , وقال : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل) (2 البقرة / 188) , وقال : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع
بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) (5 المائدة / 91 ) .الى
غير ذلك مما لا
يحصى , وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد , وأن الإذن
دائر معها إينما دارت . وموارد الاستقراء , التي يعتمد عليها
الإمام ( الشاطبي ) في سبيل النهوض بالقاعدة غالباً ما تكون نصوصاً
ثابتة ترشد
جميعها الى معنى واحد , وهذه النصوص إما أن تكون نصاً قرآنياً أو
حديثاً شريفاً , أو قول صحابي . ومثالها : القاعدة السابقة , حيث
اعتمد ( الشاطبي ) على جملة من النصوص القرآنية التي ترشد بمجموعها
الى
ملاحظة المعاني والحكم في الأحكام العادية . ومن هذه القواعد أيضاً
: " من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ". فالإمام (
الشاطبي ) يعمد الى استقراء جملة من النصوص القرآنية والنبوية التي
تدل
على هذا المعنى , منها قوله تعالى : ( إلا المصلين , الذين هم على
صلاتهم دائمون ) (7 المعارج 22-23) .وقوله تعالى : ( وأقيموا
الصلاة وآتوا الزكاة ) ( 2البقرة/ 43 ) . وفسرت الإقامة بمعنى
المداومة . وقوله
صلى الله عليه وسلم :" خذوا من الأعمال ما تطيقونه , فإن الله
لايمل حتى تملوا " . الى غير ذلك من النصوص التي ترشد الى قصد
الشارع الى المداومة على الأعمال والحفاظ عليها ,والاستمرار في
أدائها . أما
دليل الإجماع فهو مستند الإمام ( الشاطبي ) في الكثير من القواعد
أيضاً . ومن ذلك مثلاً القاعدة المقصدية : " الشارع لم يقصد
التكليف بالشاق والإعنات فيه ". فالإجماع من ضمن القواعد التي تنهض
بحجية هذه
القاعدة , إذ يقول ( الشاطبي ) : " الاجماع على عدم وقوعه – يقصد
المشقة أو الحرج – وجوداً في التكليف وهويدل يدل على عدم قصد
الشارع اليه ". أما الاستدلال على القاعدة بقاعدة أخرى : فإن
القاعدة قد تستند
الى قاعدة أخرى , سبق وأن تقررت وثبتت حجيتها , مثل قاعدة : " إن
المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً الى عظم أجرها , وله
أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته , من حيث هو عمل ".
حيث يستند الإمام ( الشاطبي ) على حجية هذه القاعدة التي توجه قصد
المكلف الى أصلين ثابتين : - الأول : القاعدة المقصدية :" أن
الشارع لم يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه ". - الثاني : " كل
قصد يخالف
قصد الشارع فهو باطل ". ولكل من هذين الأصلين أدلته الخاصة به ,
والتي تجعله أصلاً قوياً معتبراً فلذلك كان جديراً بأن تؤسس عليه
غيره من القواعد المقاصدية الأخرى . أما الدليل العقلي , فالإمام (
الشاطبي )
كثيراً ما يلجأ إليه كدليل يؤكد به القاعدة المقصدية ويعضدها , مثل
الاستدلال على حجية القاعدة المقصدية :" أن الجهة المغلوبة من
المصالح والمفاسد , لايتوجه اليها قصد الشارع ولا اعتباره". حيث
استدل الإمام (
الشاطبي ) على حجية هذه القاعدة بالدليل العقلي , فقال : الدليل
على ذلك : " أن الجهة المغلوبة – من المصلحة أو المفسدة – لو كانت
مقصودة للشارع لم يكن الفعل مأموراً به بإطلاق , ولا منهياً عنه
بإطلاق , بل
يكون ماموراً به من حيث المصلحة , ومنهياً عنه من حيث المفسدة ,
ومعلوم قطعاً أن الأمر ليس كذلك ".ثم يقول الدليل الثاني : " أن
ذلك لو كان مقصود الاعتبار شرعاً لكان تكليف العبد كله تكليفاً بما
لايطاق , وهو
باطل شرعاً . ( وظاهر من هذين الدليلين الاستناد الى المنطق العقلي
لتأييد هذه القاعدة حيث إن العقل يحيل أن يتوجه الأمر والنهي معاً
على ذات الفعل , ولو كانت المصالح المرجوحة أو المفاسد المغلوبة
ملتفتاً اليها
شرعاً لاقتضى ذلك أن يتوجه الخطاب بالأمر والخطاب بالنهي الى ذات
الفعل الواحد في آن معاً .ولاشك أن هذا محال , إذ لا إمكان لورود
الأمر والنهي عن ذات الفعل في وقت واحد , والمحال لايشرع .) كذلك
فإن
الدليل الثاني يقوم على المنطق العقلي :" لأن المصالح والمفاسد
المغلوبة , لوكانت معتبرة ومقصودة لكان تكليفاً بما لا يطاق ".
وبيان وجه كونه لايطاق : أن المكلف سيكون عندئذ مطالباً بإيقاع
الفعل , ومنهياً عن
إيقاعه في الوقت ذاته ,لأنه إذا كان مخاطباً بإيقاع المصلحة
الراجحة المعتبرة فهو مخاطب كذلك بالابتعاد عن المصلحة المرجوحة
على فرض اعتبارها .وبذلك يكون المكلف متردداً بين " افعل " و"
لاتفعل " لفعل
واحد , وهو عين التكليف بما لايطاق , وما لايطاق من التكليف لايشرع
ابتداء. وهكذا يستند الإمام ( الشاطبي ) الى الأدلة العقلية التي
تتناسق ومنطق التشريع لتكون سنداً مكيناً للقواعد المقاصدية . هذه
هي أقسام
القواعد المقاصدية وفق الاعتبارات المختلفة. وسأنهج في بحثي هذا
على اعتماد الموضوع أساساً في تقسيم هذه القواعد وبحثها , لأن ذلك
أدعى الى عرضها على وفق نسق واحد بحيث تجمع بين كل طائفة منها وحدة
واحدة تتمثل في الموضوع الذي ينتظمها جميعها .
المصدر : قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي ( عرضاً ودراسة
وتحليلاً ).