إن الأمثلة التي ذكرها الأصوليون في معرض بيانهم لوسائل حفظ
الضروريات كانت أمثلة على سبيل البيان لا الحصر,كقولهم بأن حفظ
الدين بقتال الكافرين,والجهاد في سبيل الله باللسان والسنان,وحفظ
النفس بمشروعية القصاص,وحفظ العقل بتحريم المسكرات ونحوها,وحفظ
النسل بوجوب الحد على الزاني,وإقامة الحد على القاذف,وحفظ المال
بقطع يد السارق وتضمين السارق. فمثل هذه الأحكام تظهر صورة من صور
المحافظة على الضروريات الخمس,وهي للبيان لاللحصر,وللتوضيح لاللقصر,إذ
إن وسائل حفظ هذه الضروريات, إقامة وتنمية وصيانة تتنوع وتستجد
بحسب تطور الزمان واختلاف البيئات,ومثل هذا الأمر يعطي الشريعة
الإسلامية ميزة عظيمة في قدرتها على استيعاب جميع التطورات
والمستجدات, رغم ثبات نصوصها,وذلك بما اتسمت به من قواعد كلية هي
من العموم والشمول بحيث يمكن أن تستوعب تلك المستجدات وتعطيها
وصفها المناسب اللائق بها,وهذا ماأشار اليه (فتحي الدريني):
"فالتشريع الإسلامي إذن كفيل بالوفاء بحاجات الناس ومطالبهم في كل
عصر وبيئة على ضوء من روح التشريع وغاياته في كل ما لم يرد فيه نص
خاص بعينه, وسبيل ذلك الاجتهاد بالرأي من أهله بمعايير
مرنة,والاستعانة بالخبرة العلمية المتخصصة التي تتعلق بالموضوع
المجتهد فيه". ولعل هذا الاستيعاب لجميع المستجدات ودخولها تحت هذه
المقاصد هو الذي حدا بالإمام (الغزالي) الى القول:"وكل مصلحة رجعت
الى حفظ مقصود شرعي,علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والإجماع,فليس
خارجاً من هذه الأصول,لكنه لايسمى قياساً بل مصلحة مرسلة".
ف(الغزالي) ينص صراحة على قدرة هذه الكلمات على استيعاب الجزيئات
استيعاباً كاملاً,لا عن طريق القياس الأصولي الذي يعتمد العلة
الجامعة بين الفرع والأصل للتسوية في الحكم بينهما,وإنما عن طريق
المصلحة المرسلة التي تستند على الكليات الخمس لاستيعاب كل حادثة
تعود عليها بالحفظ والصيانة. وعلى ذلك,يمكن الكثير من الوقائع
المعاصرة التي لها صلة وثقى بحفظ هذه المصالح,تحصيلاً أو إبقاء.
ومن ذلك:الفحص الطبي قبل الزواج,إذ إن انتشار الأمراض وازديادها,
وظهور أنواع جديدة منها تسوغ خضوع الزوجين لعملية الفحص,سعياً
للوقوف على حقيقة وضعهما الصحي,وتبين مدى إمكانية تحقيق المقصد
الأصلي من الزواج,والممثل في الحفاظ على النسل,فمثل هذا الإجراء
الوقائي هو تطبيق لما أسماه (الشاطبي):( الحفظ من جانب العدم بدفع
الخطر المتوقع ) ,خاصة إذا علمنا أن الفحص يسعى الى هدفين: الهدف
الأول :المحافظ على عقد الزواج نفسه,أو المحافظة على كيان
الزوجية,وأن تبقى العلاقة الزوجية سليمة,أساسها المودة والرحمة.
الهدف الثاني :المحافظة على صحة النسل والذرية لأن هناك أمرضاً
معدية,كالسل والجذام,وأمراضاً جنسية كالسيلان والكلاميديا والهربس
قد تطال الزوجين,فينبغي التثبيت من خلوهما منها. بما أن هذين
الهدفين يوثقان مقصد حفظ النسل بقاءً وصيانة,فلا تردد في الحكم على
هذا الإجراء بالمشروعية والجواز,ويأخذ حكمه من الوجوب أو الندب على
حسب درجة المفسدة وتوقعها,وهذا ما يحكم به أهل الخبرة والاختصاص
وإن مما يؤكد مشروعية مثل هذا الإجراء أن الاحكام الشرعية هي من
العناية والرعاية لهذه المقاصد بحيث لا تنتظر وقوع المفسدة للسعي
بعد ذلك للتخفيف من وطئها والتقليل من آثارها,والتي تكون في مثل
مسألتنا هذه,التفريق بين الزوجين عادة,وإنما تعمل على ذفع هذه
المفاسد ابتداء قبل وقوعها بإغلاق كافة السبل التي من شأنها أن
تؤدي اليها,إذ المفسدة المتوقعة من حيث الأثر والنتيجة فكان واجباً
إذن أن يتحدا في الحكم نظراً لاتحادهما في الأثر,إذ الدفع أسهل من
الرفع,ولأن الضرر يدفع بقدر الإمكان. ومن ذلك أيضاً:حفظ العقل,وهوآلة
الفهم وحامل الأمانة ومحل الخطاب والتكليف,إذ لا ينحصر الحفاظ عليه
بالمثل الذي ساقه الأصوليون من تحريم الخمر وأشباهها كونها مزيلة
للعقل,وإنما تشمل هذه المحافظة أيضاً الحفاظ عليه من جانب الوجود
بالبحوث العلمية,والنشرات الخاصة التي تعنى بالعلم والمعرفة وتهدف
الى الارتقاء العقلي وفتح آفاق جديدة أمام العقل لم يكن قد وقف
عليها من قبل. كما يدخل في ذلك أيضاً تشجيع العلماء على اختلاف
تخصصاتهم وحفزهم على الإبداع والتجديد والتطوير تحقيقاً لتنمية
العقول والارتقاء بها. وبعد: فهذه هي حقيقة الضروريات وتلك هي سبل
حفظها,ولو أني أخذت أعد وسائل إقامة هذه الضروريات للزمني أن أتكلم
عن أحكام الشريعة كلها على اختلاف أبوابها وموضوعاتها,إذ ما من حكم
عملي ولا فرع جزئي إلا ويكون منضوياً تحت أحد هذه الكلمات الخمس,إن
لم يكن من جانب الوجود والتحصيل,فمن جانب العدم والإبقاء.
المصدر: قواعد المقاصد عند الإمام
الشاطبي.