كما للزمان دور في تحول خصوصيات الموضوع والاجتهاد , يمكن أن يكون
للمكان دور في التحول أيضاً . اي ان يكون شيء في مكان ما من مصاديق
موضوع الحكم بالتحريم , ويكون ذلك الشيء نفسه في مكان آخر من
مصاديق موضوع الحكم بالجواز ; لذلك وضع فقهاء المذاهب الاسلامية
احكاماً لدار الاسلام لم يقرّوها في دار الحرب , بل انهم وضعوا
احكاماً خلاف ذلك في دار الحرب . وهذا الموضوع يحتاج بيانه الى
دراسة تفصيلية , لكن من الضروري هنا تقديم نماذج منها :- النموذج
الاول : وهو الربا المعاملاتي لا القرضي , الذي يحرم في المكيل
والموزون فيما يكون حلالاً في المعدود , أي حرمة بيع عشرة كيلوات
من الرز مقابل اثني عشر كيلواً . وكذلك بيع عشرة مكيالات من الحليب
مقابل احد عشر مكيالاً . اما لو بيعت عشرة دنانير مقابل اثني عشر
ديناراً , اذا ما قصد من ذلك المعاملة لا يعتبر رباً وحراماً على
رأي المشهور ; لانه ليس مما يكال او يوزن . ومن الواضح ان البضائع
تختلف من بلد الى آخر من حيث المعدودية او عدمها ; لانه يمكن ان
تكون بضاعة ما معدودة في بلد , بينما تباع في بلد آخر بالوزن ,
فعلى سبيل المثال يباع الموز في بعض الاماكن بالكيلوات , وفي مكان
آخر بالعدد وهكذا البيض و .... وفي مثل هذه الموارد على المجتهد ان
يصدر حكمه طبقاً لما هو مرسوم ومعمول به في ذلك المكان ; لان
الموضوع يختلف في مكانين من حيث الظروف والخصوصيات . وبالنتيجة يجب
ان يكون الحكم ايضاً متفاوتاً , إذن لايمكن بيان حكم كلي دون الاخذ
بنظر الاعتبار دور المكان في تحول الاجتهاد . النموذج الثاني :
برامج الاذاعة والتلفزيون , حيث تكون في بلد ما وسيلة للصلاح
والاصلاح ونشر المسائل والمعارف الدينية والاخلاقية , وفي بلد آخر
تكون وسيلة لنشر الفساد والفحشاء , ففي هذا المورد لايمكن لأي
مجتهد ان يصدر حكماً واجداً للمكانين دون الاخذ بخصوصيات كل منهما
. النموذج الثالث : دور العرف في الاجتهاد , وفي مسألة اشتراط رضا
الزوجة بالعقد تحديداً , جاء في الروايات ان اذنها صمتها ; اي ان
سكوت البنت عند عقد الزواخ دليل رضاها , وهنا نلاحظ أن في زمن صدور
هذه الرواية كان لهذا الامر حقيقة , وكانوا يكتفون بذلك عند ايقاع
العقد ; لان مبنى الحديث هو عرف ذلك الزمان , اي زمن الرسول ( ص )
. لكن اليوم حيث تغير العرف فلا يكمن الاكتفاء بسكوتها عند اجراء
العقد ; لان الحديث كان مبنياً على عرف ذلك العصر , وقد تغير, اذن
يجب على البنت اعلان رضاها عن طريق اللفظ , ولايمكن الاكتفاء
بسكوتها . النموذج الرابع : دور الاحوال في الاجتهاد , إذ نشاهد في
اجوبة رسول الله ( ص ) وائمة اهل البيت ( ع ) , انها كانت تتناسب
وما كان عليه حال الناس ; لذا نشاهد اجوبة مختلفة لسؤال واحد يطرحه
اشخاص متعددون , وسبب اختلاف اجوبتهم هو اختلاف احوال السائلين ,
كالطبيب الذي يصف الدواء لمرضاه طبقاً لحالاتهم وضروفهم المرضية
المختلفة . ونموذج آخر , وهو قصة تبول احد الاعراب في مسجد رسول
الله في المدينة امام الناس , فهاج اصحاب رسول الله وارادوا ان
يعاقبوه على فعلته , فمنعهم رسول الله ( ص ) عن ذلك , وامرهم ان
ينظروا الى حدود فهمه وادراكه وملاحظة بيئته , فهو اعرابي ولم
يتأدب بعد بآداب الاسلام , ثم امرهم بتطهير المكان واخلاء سبيل
الرجل . دور الزمان في الاحكام الحكومية لاشك ان للزمان دورا في
تحول خصوصيات وظروف الموضوعات التي تؤدي الى الاحكام الحكومية ,
ففي زمان معين – مثلاً – وبسبب ظروف خاصة ربما يكون استعمال شيء او
شرب نوع من المشروبات الغازية او بيع وشراء بضاعة معينة يؤدي الى
دعم البنية الاقتصادية عند الكافرين واعداء الاسلام , واضعاف
الحكومة الاسلامية , في ذلك الزمان يرى الحاكم الاسلامي من الواجب
عليه تحريم ذلك الشيء , حتى ترتفع آثاره ونتائجه السيئة , وفي زمان
آخر ليس هناك آثار ونتائج سيئة لبيع او شراء البصاعة الفلانية او
اكل الغذاء الفلاني او استعمال الشيء الفلاني , فيحكم الحاكم
بحليتها , ومن ذلك ماافتى به المرحوم الميرزا الكبير الحاج محمد
حسن الشيرازي في حرمة استعمال التنباك وموارد اخرى من هذا القبيل
لاضرورة لذكرها . ففي الموارد المذكورة لم يتحول حكم الشريعة
المترتب على موضوعاته الاصلية من منظار الفقه الاجتهادي , بل تغيرت
الخصوصيات الداخلية او الخارجية للموضوعات على مدى الزمان ; بسبب
التطور التقني والتقدم في الوسائل الطبية الحديثة والتفكير العميق
والدقيق ونوع الاستعمال او ان يكون قد حصل تغير في الاحوال
والامكنة او في العرف , فأصبحت لها خصوصيات اخرى , فأدى تغير
الموضوعات او الاماكن او العرف او الاحوال الى تغيير احكامها بشكل
طبيعي على اساس المباني الشرعية المعتبرة وعن طريق الاجتهاد . ]
اذن , مع ان الموضوع في الموارد المذكورة في الزمن الماضي والحاضر
وفي الاماكن المختلفة واحد في الظاهر , الا ان تغير خصوصياته حوّله
في الحقيقة الى موضوع آخر ; لذا وجب ان يكون له حكم آخرايضاً ,
واذا ما عادت اليه الخصوصيات الاولى نفسها , في هذه الحالة سيعود
الحكم الاول اليه ايضاً . [ وبهذا , لايرد الاشكال الذي يطرحه
البعض في حلية بعض الاشياء التي كانت في السابق محرمة او العكس ;
لأنها كانت محرمة في السابق بسبب الخصوصيات التي كانت لها , اما
اليوم فإن خصوصياتها تلك قد تغيرت وهذا ما جعلها محكومة بالحلية
والاباحة . اعتبار النبي والخلفاء للزمان والمكان والاحوال النموذج
الاول : نقل في المصادر ان النبي ( ص ) كان يطوف حول الكعبة وحولها
ثلاثمئة وستون صنماً , فلم يتعرض لها طوال الفترة المكية حتى دخلها
فاتحاً فكسرها . النموذج الثاني : لم يقطع النبي ( ص ) يد السارق
في الغزو خوفاً من أن يحمله ذلك على الفرار الى الكفار , وهذا مثال
على اعتبار النبي ( ص ) للمكان . النموذج الثالث : قال النبي ( ص )
لعائشة لولا حداثة قومك بالجاهلية لهدمت البيت وبنيته على قواعد
ابراهيم , وهذا منه ( ص ) اعتبار للحالة التي هم عليها وهي قرب
عهدهم بالجاهلية . النموذج الرابع عدم قطع الخليفة الثاني يد عامر
الرمادة اعتباراً بالحالة التي كانوا عليها من الجوع والفقر .
ولذلك كله , نحن نشترط في المجتهد ان يكون عالماً بشرائط الزمان
وأحوال الناس وعوائدهم واعرافهم , ولكن بناءه على هذه الاصول يحتاج
الى فهمه الدقيق لمقاصد الشريعة . ومن الضروري هنا الاشارة الى
نقطتين بشكل سريع : 1- ان تحول الزمان ووقوع المستجدات او التحول
في المكان والعرف او الاحوال لايؤدي الى حكم ثانوي للموضوع , لأن
ذلك يحصل للموضوع الواحد الذي له حكم أولي للمختاروحكم ثانوي
للمضطر . لكن موضوع بحثنا غير ذلك , لان تحول الموضوع او المكان او
العرف والاحوال على مدى الزمن هو نتيجة لتحول خصوصياته الداخلية او
الخارجية الذي وإن كان يتبعه حكم آخر , الا ان هذا الحكم يعد
اولياً لموضوع آخر , وليس للموضوع الاول حتى يعد حكماً ثانوياً. 2-
تحول حكم موضوع الى حكم آخر بسبب تغيره , لايتنافى وقوله ( ص ) :
(( حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم
القيامة )) , لان ذلك في حال ترتيب حكم آخر دون تحول في موضوع
الحكم , اما بتحول الموضوع – الذي هو المفروض في البحث – فلا بد ان
يترتب عليه حكم آخر . وبناءً على ماتقدم , يمكن تلخيص الرأي الاساس
للفقه الاجتهادي في الاسلام , بالنحو التالي : احكام الشريعة ثابتة
بطبيعتها , ولاتتغير بتغير الاحداث والوقائع على مدى الزمن , لكن
علينا ان نعلم , ان لها موضوعات وملاكات خاصة , وما شرّع الشارع
المقدّس تلك الأحكام الا بلحاظ هذه الموضوعات مالملاكات . اذن ,
مالم تتغير تلك الموضوعات على مدى الزمن او حسب المكان او بواسطة
العرف والاحوال , فإن احكامها ايضاً تبقى ثابتة غير متغيرة . أما
اذا حصل فيها تغيير على مدى الزمان , او بسبب المكان وما الى ذلك ,
نتيجة تحول وقائع ومظاهر الحياة الحديثة والعلاقات السياسية
والاجتماعية والاقتصادية , في هذه الحالة تتغير أحكامها ايضاً
وتجري عليها أحكام جديدة . وهذا يتطابق والموازين والملاكات التي
وضعتها شريعتنا نفسها .
المصدر : مجلة التوحيد / العدد 80 / 1996