موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

تقسيم البحث في الأدلة المحرزة
محمد باقر الصدر


يعتمد الفقيه في عملية الاستنباط على عناصر مشتركة تسمى بالأدلة المحرزة. وهي إما أدلة قطعية، بمعنى أنها تؤدي إلى القطع بالحكم فتكون حجة على أساس حجية القطع الناتج عنها، وأما أدلة ظنية، ويقوم دليل قطعي على حجيتها شرعاً، كما إذا علمنا بأن المولى أمر باتباعها فتكون حجة بموجب الجعل الشرعي. والدليل المحرز في الفقه سواء كان قطعياً أو لا، ينقسم إلى قسمين: الأول: الدليل الشرعي ونعني به كل ما يصدر من الشارع مما له دلالة على الحكم، ككلام الله سبحانه أو كلام المعصوم. الثاني: الدليل العقلي ونعني به القضايا التي يدركها العقل ويمكن أن يستنبط منها حكم شرعي كالقضية العقلية القائلة بأن إيجاب شيء يستلزم إيجاب مقدمته. والقسم الأول ينقسم بدوره إلى نوعين: أحدهما: الدليل الشرعي اللفظي، وهو كلام المعصوم كتاباً أو سنة. والآخر: الدليل الشرعي غير اللفظي، ويتمثل في فعل المعصوم سواء كان تصرفاً مستقلاً أو موقفاً إمضائياً تجاه سلوك معيّن وهو الذي يسمى بالتقرير. والبحث في هذا القسم بكلا نوعيه تارة يقع في تحديد دلالات الدليل الشرعي، وأخرى في ثبوت صغراه، وثالثة في حجية تلك الدلالة ووجوب الأخذ بها، ففي الدليل الشرعي إذن ثلاثة أبحاث. ولكن قبل البدء بهذه الأبحاث على الترتيب المذكور نستعرض بعض المبادئ والقواعد العامة في الأدلة المحرزة. - الأصل عند الشك في الحجية: عرفنا ان للشارع دخلاً في جعل الحجية للأدلة المحرزة غير القطيعة (الإمارات)، فإن أحرزنا جعل الشارع الحجية لإمارة فهو، وإذا شككنا في ذلك لم يكن بالامكان التعويل على تلك الإمارة لمجرد احتمال جعل الشارع الحجية لها، لأنها إن كانت نافية للتكليف ونريد أن نثبت بها المعذرية فمن الواضح بناء على ما تقدم عدم امكان ذلك ما لم نحرز جعل الحجية لها الذي يعني إذن الشارع في ترك التحفظ تجاه التكليف المشكوك، إذ بدون إحراز هذا الأذن تكون منجزية الاحتمال للتكليف الواقعي قائمة بحكم العقل، ولا ترتفع هذه المنجزية إلا بإحراز الأذن في ترك التحفظ، ومع الشك في الحجية لا إحراز للأذن المذكور. وإن كانت الإمارة مثبتة للتكليف، ونريد أن نثبت بها المنجزية خروجاً عن أصل معذر كأصالة الحل المقررة شرعاً، فواضح أيضاً إنا ما لم نقطع بحجيتها لا يمكن رفع اليد بها عن دليل أصالة الحل مثلاً، فدليل الأصل الجاري في الواقعة والمؤمن عن التكليف المشكوك، هو المرجع ما لم يقطع بحجية الإمارة المثبتة للتكليف. وبهذا صح القول إن الأصل عند الشك في الحجية عدم الحجية، بمعنى أن الأصل نفوذ الحالة المفترضة لولا تلك الإمارة من منجزية أو معذرية. - مقدار ما يثبت بالأدلة المحرزة: الدليل المحرز له مدلول مطابقي ومدلول التزامي، فكلما كان الدليل المحرز حجة ثبت بذلك مدلوله المطابقي، وإما مدلوله الالتزامي ففيه بحث، وحاصله إن الدليل المحرز إذا كان قطعياً فلا شك في ثبوت مدلولاته الالتزامية به لأنها تكون قطعية أيضاً، فتثبت بالقطع كما يثبت المدلول المطابقي بذلك، وإذا كان الدليل ظنياً وقد ثبتت حجيته بجعل الشارع كما في الإمارة مثل خبر الثقة وظهور الكلام فهنا حالتان: الأولى: أن يكون موضوع الحجية ـ أي ما حكم الشارع بأنه حجة ـ صادقاً على الدلالة الالتزامية كصدقها على الدلالة المطابقية، ومثال ذلك: أن يرد دليل على حجية خبر الثقة، ويقال بأن الإخبار عن شيء إخبار عن لوازمه، وفي هذه الحالة يثبت المدلول الالتزامي لأنه مما أخبر عنه الثقة بالدلالة الالتزامية فيشمله دليل الحجية المتكفل للأمر بالعمل بكل ما أخبر به الثقة مثلاً. الثانية: أن لا يكون موضوع الحجية صادقاً على الدلالة الالتزامية، ومثال ذلك: أن يرد دليل على حجية ظهور اللفظ، فإن الدلالة الالتزامية غير العرفية ليست ظهوراً لفظياً فلا تشكل فرداً من موضوع دليل الحجية، فمن هنا يقع البحث في حجية الدليل لإثبات المدلول الإلتزامي في حالة من هذا القبيل، وقد يستشكل في ثبوت هذه الحجية بدليل حجية الظهور، لأن دليل حجية الظهور لا يثبت الحجية إلا لظهور اللفظ، والدلالة الالتزامية لهذا الظهور ليست ظهوراً لفظياً فلا تكون حجة، ومجرد علمنا من الخارج بأن ظهور اللفظ إذا كان صادقاً فدلالته الالتزامية صادقة أيضاً، لا يبرر استفادة الحجية للدلالة الالتزامية لأن الحجية حكم شرعي، وقد يخصصه بإحدى الدلالتين دون الأخرى على الرغم من تلازمهما في الصدق. ويوجد في هذا المجال اتجاهان: أحدهما للمشهور وهو: ان دليل الحجية كلما استفيد منه جعل الحجية لشيء بوصفه إمارة على الحكم الشرعي كان ذلك كافياً لإثبات لوازمه ومدلولاته الالتزامية. وعلى هذا الأساس وضعوا قاعدة مؤداها أن مثبتات الإمارات حجة، أي إن الإمارة كما يعتبر إثباتها لمدلولها المطابقي حجة، كذلك إثباتها لمدلولها الالتزامي. والاتجاه الآخر للسيد الأستاذ (الإمام الخوئي) حيث ذهب إلى أن مجرد قيام دليل حجية إمارة على أساس ما لها من كشف عن الحكم الشرعي لا يكفي لذلك، إذ من الممكن ثبوتاً أن الشارع يتعبد المكلف بالمدلول المطابقي من الإمارة فقط، كما يمكنه أن يتعبده بكل ما تكشف عنه مطابقة أو التزاماً، وما دام كلا هذين الوجهين ممكناً ثبوتاً، فلابد لتعيين الأخير منهما من وجود اطلاق في دليل الحجية يقتضي امتداد التعبد وسريانه إلى المداليل الالتزامية. والصحيح هو الاتجاه الأول، وذلك لأننا نعرف أن الإمارة معناها الدليل الظني الذي يستظهر من دليل حجيته، إن تمام الملاك بحجيته هو كشفه بدون نظر إلى نوع المنكشف، وهذا الاستظهار متى ما تم في دليل الحجية كان كافياً لإثبات الحجية في المدلولات الالتزامية أيضاً، لأن نسبة كشف الإمارة إلى المدلول المطابقي والالتزامي بدرجة واحدة دائماً، وما دام الكشف هو تمام الملاك للحجية بحسب الفرض، فيعرف من دليل الحجية ان مثبتات الإمارة كلها حجة. وعلى خلاف ذلك الأصول العملية تنزيلية أو غيرها فإنها لما كانت مبنية على ملاحظة نوع المؤدى كما تقدم، فلا يمكن أن يستفاد من دليلها إسراء التعبد إلى كل اللوازم إلا بعناية خاصة في لسان الدليل، ومن هنا قيل إن الأصول العملية ليست حجة في مثبتاتها أي في مدلولاتها الالتزامية. - تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية: عرفنا ان الإمارات حجة في المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي معاً، والمدلول الالتزامي تارة يكون مساوياً للمدلول المطابقي، وأخرى يكون أعم منه، ففي حالة المساواة إذا علم بأن المدلول المطابقي باطل فقد علم ببطلان المدلول الالتزامي أيضاً، وبذلك تسقط الإمارة بكلا مدلوليها عن الحجية، وأما إذا كان اللازم أعم وبطل المدلول المطابقي، فالمدلول الالتزامي يظل محتملاً، ومن هنا يأتي البحث التالي: وهو ان حجية الإمارة في إثبات المدلول الالتزامي هل ترتبط بحجيتها في إثبات المدلول المطابقي أو لا؟ فالارتباط يعني إنها إذا سقطت عن الحجية في المدلول المطابقي للعلم ببطلانه مثلاً، سقطت أيضاً عن الحجية في المدلول الالتزامي وهو معنى التبعية، وعدم الارتباط يعني ان كلا من الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية حجة ما لم يعلم ببطلان مفادها بالخصوص، ومجرد العلم ببطلان المدلول المطابقي لا يوجد خللاً في حجية الدلالة الالتزامية ما دام المدلول الالتزامي محتملاً ولم يتضح بطلانه بعد. وقد يستدل على الارتباط بأحد الوجهين التاليين: الأول: إن الدلالة الالتزامية متفرعة في وجودها على الدلالة المطابقية، فتكون متفرعة في حجيتها أيضاً. ويلاحظ على ذلك ان التفرع في الوجود لماذا يستلزم التفرع في الحجية؟ أولا يمكن أن نفترض إن كل واحدة من الدلالتين موضوع مستقل للحجية بلحاظ كاشفيتها؟. الثاني: إن نفس السبب الذي يوجب سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية، يوجب دائماً سقوط الدلالة الالتزامية، فإذا علم مثلاً بعدم ثبوت المدلول المطابقي وسقطت بذلك حجية الدلالة المطابقية، فإن هذا العلم بنفسه يعني العلم أيضاً بعدم ثبوت المدلول الالتزامي، لأن ما تحكي عنه الدلالة الالتزامية دائماً حصة خاصة من اللازم، وهي الحصة الناشئة أو الملازمة للمدلول المطابقي لا طبيعي اللازم على الاطلاق، وتلك الحصة مساوية للمدلول المطابقي دائماً. وبكلمة أخرى إن ذات اللازم وإن كان أعم أحياناً، ولكنه بما هو مدلول التزامي مساوٍ دائماً للمدلول المطابقي فلا يتصور ثبوته بدونه، فموت زيد وإن كان أعم من احتراقه بالنار ولكن مَن أخبر باحتراقه بالمطابقة فهو لا يخبر التزاماً بالموت الأعم ولو كان بالسم، بل مدلوله الالتزامي هو الموت الناشئ من الاحتراق خاصة، فإذا كنا نعلم بعدم الاحتراق فكيف نعمل بالمدلول الالتزامي؟ - وفاءُ الدليل بدور القطع الموضوعي: الدليل المحرز إذا كان قطعياً فهو يفي بما يقتضيه القطع الطريقي من منجزية ومعذرية، لأنه يوجد القطع في نفس المكلف بالحكم الشرعي، كما انه يفي بما يترتب على القطع الموضوعي من أحكام شرعية، لأن هذه الأحكام يتحقق موضوعها وجداناً. والدليل المحرز غير القطعي (أي الإمارة) يفي بما يقتضيه القطع الطريقي من منجزية ومعذرية، فالإمارة الحجة شرعاً إذا دلت على ثبوت التكليف أكدت منجزيته وإذا دلت على نفي التكليف كانت معذراً عنه ورفعت أصالة الاشتغال كما لو حصل القطع الطريقي بنفي التكليف كما تقدم توضيحه، وهذا معناه قيام الإمارة مقام القطع الطريقي. ولكن هل تفي الإمارة بالقيام مقام القطع الموضوعي فيه بحث وخلاف فلو قال المولى كل ما قطعت بأنه خمر فأرِقه وقامت الإمارة الحجة شرعاً على ان هذا خمر ولم يحصل القطع بذلك، فهل يترتب وجوب الإراقة على هذه الإمارة كما يترتب على القطع أو لا؟ وهنا تفصيل وهو إنا تارة نفهم من دليل وجوب إراقة مقطوع الخمرية، إن مقصود هذا الدليل من المقطوع ما قامت حجة منجزة على خمريته وليس القطع إلا كمثال، وأخرى نفهم منه إناطة الحكم بوجوب الإراقة بالقطع بوصفه كاشفاً تاماً لا يشوبه شك ففي الحالة الأولى تقوم الإمارة الحجة مقام القطع الموضوعي ويترتب عليها وجوب الإراقة لأنها تحقق موضوع هذا الوجوب وجداناً وهو الحجة. وفي الحالة الثانية لا يكفي مجرد كون الإمارة حجة وقيام دليل على حجيتها ووجوب العمل بها لكي تقوم مقام القطع الموضوعي، لأن وجوب الإراقة منوط بالقطع بما هو كاشف تام، والإمارة وإن أصبحت حجة ومنجزة لمؤداها بجعل الشارع، ولكنها ليست كاشفاً تاماً على أي حال، فلا يترتب عليها وجوب الإراقة، إلا إذا ثبت في دليل الحجية أو في دليل آخر، إن المولى اعمل عناية ونزل الإمارة منزلة الكاشف التام في أحكامه الشرعية، كما نزل الطواف منزلة الصلاة في قوله: الطواف بالبيت صلاة، وهذه عناية إضافية لا يستبطنها مجرد جعل الحجية للإمارة. وبهذا صح القول إن دليل حجية الإمارة بمجرد افتراضه الحجية لا يفي لاقامتها مقام القطع الموضوعي. - إثبات الدليل لجواز الاستناد: من المقرر فقهياً ان إسناد حكم إلى الشارع بدون علم غير جائز، وعلى هذا الأساس فإذا قام على الحكم دليل وكان الدليل قطعياً، فلا شك في جواز إسناد مؤداه إلى الشارع لأنه إسناد بعلم. وأما إذا كان الدليل غير قطعي كما في الإمارة التي قد جعل الشارع لها الحجية وأمر باتباعها فهل يجوز هنا إسناد الحكم إلى الشارع؟ لا ريب في جواز إسناد نفس الحجية والحكم الظاهري إلى الشارع لأنه معلوم وجداناً. وأما الحكم الواقعي الذي تحكي عنه الإمارة فقد يقال: إن إسناده غير جائز لأنه لا يزال غير معلوم، ومجرد جعل الحجية للإمارة لا يبرر الإسناد بدون علم، وإنما يجعلها منجزة ومعذرة من الوجهة العملية. وقد يقال إن هذا مرتبط بالبحث السابق في قيام الإمارة مقام القطع الموضوعي، لأن القطع أخذ موضوعاً لجواز إسناد الحكم إلى المولى، فإذا استفيدت من دليل الحجية تلك العناية الإضافية التي تقوم الإمارة بموجبها مقام القطع الموضوعي، ترتب عليها جواز إسناد مؤدى الإمارة إلى الشارع وإلا فلا.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع