موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

عبد الهادي محمد تقي الحكيم
لابدّ من التقليد



قال أبي ـ وهو يبدأ حوارية التقليد ـ : دعني أشرح لك أولاً معنى التقليد. التقليد: أن ترجع إلى فقيه لتطبق فتواه، فتفعل ما انتهى رأيه إلى فعله، وتترك ما انتهى رأيه إلى تركه، من دون تفكير، وإعادة نظر،
وتمحيص، فكأنك وضعت عملك في رقبته (كالقلادة) محملاً إياه مسؤولية عملك أمام الله. ـ ولماذا نقلِّد؟ من المعروف أن الشارع المقدس قد أمرك ونهاك .. أمرك بواجبات يتحتم عليك أن تؤديها، ونهاك عن محرمات
يتحتم عليك أن تمتنع عنها، ولكن بماذا أمرك، وعن ماذا نهاك؟ بعض ما أمرك به واضح في الشريعة تستطيع ـ ربما ـ من خلال ما ربتك عليه بيئتك الملتزمة أن تشخصه، وبعض ما نهاك عنه واضح كذلك تستطيع ـ
ربما ـ من خلال تنشئتك المحافظة أن تميزه. والكثير الكثير ما بين هذه وتلك من الواجبات والمحرمات، ستبقى مجهولة لك وللكثيرين من أمثالك غائبةً أو غائمة. أضاف أبي: أنت تعرف أن الشريعة الاسلامية قد
ألمّت بجميع جوانب حياتك المختفة، فوضعت لكل واقعة منها حكماً، فكيف ستعرف حكمك الشرعي وأنت تمارس نشاطاتك الحياتية المختلفة، كيف ستعرف أن هذا الفعل يحلّه الشارع المقدس فتباشره، وان هذا العمل
يحرمه الشارع المقدس فتنأى عنه وتجانبه. ترى هل يمكنك أن ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلى الأدلة الشرعية لتستخرج منها حكمك الشرعي؟ ولم لا!! لقد بعدت الشقة يا بني بين عصرك، وعصر التشريع، وقد
أضفى هذا البعد؛ مع ضياع كثير من النصوص لاشرعية، وتغير لغة وأساليب وأنماط التعبير، ووجود الوضاعين ـ الذين اختلقوا أحاديث كثيرة وسربوها مع أحاديثنا المعتبرة صعوبات ومعوقات عسرت عملية
استخراج الحكم الشرعي. ثم أضافت مشكلة وثاقة ناقلي الروايات لذلك عقدة أخرى في طريق الساعين لذلك. ثم لنفترض أنك استطعت أن تتحقق بشكل ما من وثاقة رواة النص وصدقهم، ودقتهم فيما ينقلون،
وضبطهم؛ وأنك استطعت أن تختزل الزمن لتضبط نبض إيقاع المفردات في دلالتها على معانيها، فهل ستستطيع أن تهضم علماً عميقاً، واسعاً، متشعباً يحتاج إلى مقدمات طويلة، وسبر غوار عميقة، لتحصل منه بعد
ذلك على ما أنت بصدد معرفته، والبحث عنه واستبيانه؟ وكيف العمل إذاً..؟ ترجع إلى المتخصصين في هذا العلم أي (الفقهاء)، فتأخذ أحكامك منهم.. (تقلدهم). ليس هذا في مجال علم الفقه فقط، بل في كل علم. لقد
أفرزت الحضارة الحديثة مبدأ التخصص في العلوم، حيث أصبح لكل علم رجاله ومتخصصوه يرجع إليهم كلما طرأت حاجة ما لشأن من شؤون ذلك العلم. واستطرد أبي قائلاً: ـ لنأخذ مثلاً لذلك من علم الطب.. فلو
مرضت ـ عافاك الله ـ فماذا ستفعل؟ ـ أرجع الطبيب، وأعرض عليه حالتي المرضية ليشخص المرض وليصف لي الدواء المناسب بعد ذلك. ـ ولماذا لا تشخص أنت بنفسك مرضك وتصف الدواء؟ ـ لست طبيباً. ـ
كذلك الحال في علم الفقه. أنت محتاج إلى مراجعة الفقيه المتخصص لمعرفة أمر الله ونهيه، أو لعرض مشكلتك الشرعية عليه، كاحتياجك إلى مراجعة الطبيب المتخصص، لمعرفة أمر طبي ما، أو لعرض حالتك
المرضية عليه. فكما أنك محتاج إلى (تقليد) الطبيب في مجال اختصاصه، أنت محتاج إلى (تقليد) الفقيه في مجال اختصاصه. وكما أنك ستبحث عن طبيب فاضل، عالم في مجال اختصاصه ولا سيما إذا كان مرضك
خطيراً، فأنت ملزم بالبحث عن فقيه بارع في مجال اختصاصه (لتقلده) وتأخذ منه حكمك الشرعي كلما استدعتك الظروف المعاشة لاستيضاح حكم شرعي ما، فيها. ـ وكيف أعرف أن هذا الرجل فقيه؟ أو أنه أعلم
الفقهاء وأفضلهم؟ قال أبي مجيباً: دعني أسألك .. كيف تعرف أن هذا الطبيب فاضل أو أنه أفضل الأطباء في مجال اختصاصه لتراجعه، وتسلمه جسدك، يفعل به ما يراه مناسباً لعلاجه؟ قلت له: أعرف ذلك من سؤال
المهتمين بشؤون الطب، العارفين به، ممن لهم علم، ومعرفة، ودراية، و(خبرة) وتجربة فيه، أو أعرفه لشهرته بين الناس و(شيوع) وانتشار وذيوع اسمه في هذا الحقل العلمي. ـ بالضبط .. وكذلك تعرف الفقيه، أو
الفقيه الأعلم. تسأل شخصاً ملتزماً بالواجبات، وتاركاً للمحرمات، ثقةً، تتوفر فيه القدرة، والمعرفة، والعلم والعدالة و(الخبرة) على تمييز المستوى العلمي للأشخاص في مجال الاختصاص. أو (يشيع) ويشتهر ويذيع
بين الناس، فقاهة شخص، أو أعلميته من سائر الفقهاء، بحيث تجعلك تلك الشهرة الواسعة وذلك الذيوع والانتشار، و(الشيوع) متأكداً وواثقاً من فقاهته أو أعلميته. ـ وهل هناك شروط أخرى فيمن يجب علينا تقليده،
بعد أن نبلغ مبلغ الرجال، عدا شرط الفقاهة؟ ـ أن يكون مقلَّدك: رجلاً، بالغاً، عاقلاً، مؤمناً، عادلاً، حياً غير ميت، طاهر المولد ـ أي أن تكون ولادته قد تمت وفق مقاييس وضوابط شرعية ـ وألا يكون كثير الخطأ
والنسيان والغفلة. ـ حسناً ها أنا ذا قد بلغت مبلغ الرجال، وقد عرفت منك شيئاً عن التقليد فماذا يجب عليّ أن أفعل الآن؟ ـ تقلّد أعلم فقهاء عصرك، وتعمل بما يفتي به في شؤونك المختلفة .. في أحكام وضوئك ـ مثلاً
ـ وغسلك، وتيممك، وصلاتك، وصومك، وحجك، وخمسك، وزكاتك، وغيرها. كما تقلده في معاملاتك .. في أحكام بيعك ـ مثلاً ـ وشرائك، وحوالتك، وزواجك، وزراعتك، وإجارتك، ورهنك، ووصيتك، وهبتك،
ووقفك، و .. و.. ورحت أعدد مع أبي .. ـ وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وإيمانك بالله، وأنبيائه ورسله و .. ـ كلا .. الإيمان بالله وتوحيده، ونبوة نبينا محمد (ص) وإمامة الأئمة الإثني عشر (ع)، والمعاد ..
هذه أمور لا يجوز التقليد فيها فهي من أصول الدين، ولا يجوز التقليد في أصول الدين بل يجب أن يعتقد كل مسلم بها اعتقاداً جازماً لا شك فيه، ولا شبهة ولا ضبابية ولا التواء، واصلاً إلى إيمان قاطع بالله، باحثاً
عنه بجهوده، مسخراً ما منحه الله من طاقات فكرية فيه منتهياً من خلال ذلك كله إلى قناعة تامة راسخة لا تتزعزع به.. ـ طيب .. ألا يحق لي أن أقلد فقيهاً مع وجد فقيه أعلم منه في مجال اختصاصه؟ ـ يمكنك ذلك
شرط أن لا تعلم بوجود اختلاف بين فتاوى مقلدك وفتاوى الأعلم في مسائلك التي تحتاجها لتعمل بها. ـ لو قلدت الأعلم، ولم تكن له فتوى في مسألة ما تخصني؟ أو كانت له فتوى ولم يسعني استعلامها؟ ـ ترجع إلى
الأعلم من بعده أي من يتلوه في العلم من الفقهاء. ـ وإذا كان الباقون متساوين في العلم فماذا أفعل؟ ـ ترجع إلى مَن كان أورع من غيره، أي أكثر تثبتاً وحيطة في الرأي الذي يتخذه والفتوى التي يصدرها. ـ وإذا لم يكن
بعضهم أورع من بعض؟ ـ يمكنك أن تطبق عملك على فتوى أي منهم إلا في بعض الحالات المعينة حيث يجب فيها أن تعمل بالاحتياط ولا يسعني في هذا المقام أن أشرحها لك. ـ حسناً .. أستطيع حين أراجع الطبيب
أن أعرف رأيه في حالتي الصحية لو استدعت صحتي مراجعته فكيف أستطيع أن أعرف فتوى مقلدي في مسائلي الشرعية؟ كيف أصل إلى فتاواه لأطبقها؟ هل أراجعه في كل مسألة؟ ـ تستطيع معرفة فتاواه ..
بسؤاله مباشرة عنها، أو بسؤال من تثق بنقله ومعرفته وأمانته في نقل تلك الفتاوى، أو بمراجعة كتبه الفقهية كرسالته العملية مع الاطمئنان بصحتها.
*الفتاوي الميسرة وفقا لفتاوي السيستاني

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع