موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

 د. عبدالرحمن إبراهيم الكيلاني
صلاحية قواعد المقاصد للاستدلال بها في مقام الاجتهاد



لم يكتف الإمام (الشاطبي) بإيراد قواعد المقاصد وذكرها دون تنبيه منه إلى مقام هذه القواعد ومرتبتها، فأردف القواعد المقاصدية بقواعد أخرى تظهر مرتبتها وصلاحيتها للاحتجاج بها، ومن ذلك قوله: (كل أصل
شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائماً لتصرفات الشرع، ومأخوذاً معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعاً به). لقد أظهر الإمام (الشاطبي) بهذه
القاعدة المرتبة التي ترتقي إليها القاعدة المقصدية في مقام الاجتهاد، حيث بيّن أن الأصول الشرعية التي استفيدت من استقراء جزئيات متعددة يجمعها موضوع عام وحكم كلي، فهي أصول صحيحة ونبّه إلى وظيفة
هذا الأصل الكلي بقوله: (يبنى عليه، ويرجع إليه). أي أنه صالح لأن تبنى على كل منها الوقائع المستجدة التي تندرج في موضوعها وحكمها الكلي، بحيث يستفاد من معاني هذه الأصول الكلية لايجاد أحكام هذه
النوازل والمستجدات. إن الإمام (الشاطبي) يرتقي بهذه القواعد المقاصدية، التي هي من قبيل (العموم المعنوي)، يرتقي بها إلى مرتبة عليا من الاعتبار؛ حيث إنه إذا تم استفادة معنى عام من عدة أدلة وجزئيات، فإن
المجتهد في غنى بعد ذلك عن البحث عن دليل خاص لخصوص الجزئية التي يبحث عن حكمها. ويبين ذلك فيقول: (ثم استقرى معنى عاماً من أدلة خاصة، واطرد له ذلك المعنى، لم يفتقر بعد ذلك إلى دليل خاص
على خصوص نازلة تعن، بل يحكم عليها وإن كانت خاصة بالدخول تحت عموم المعنى المستقرى، من غير اعتبار بقياس أو غيره. إذ صار ما استقرى من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة، فكيف يحتاج مع
ذلك إلى صيغة خاصة بمطلوبه؟). ويظهر من ذلك أن حجية القاعدة المقصدية وصلاحيتها للاستدلال بها، قد استفيد من مجموع الأدلة الجزئية التي نهضت بمعنى تلك القاعدة، فإذا كان كل دليل جزئي هو حجة بذاته
يصح الاستدلال به فمن باب أولى أن تتحقق هذه الحجية في القاعدة التي أرشدت إليها مجموع الأدلة. وإن تتبع اجتهادات الأئمة الأعلام ليرشد إلى اعتبارهم لهذه القواعد واعتدادهم بها، للكشف عن الحكم الشرعي
المناسب للوقائع والمستجدات التي لم يرد فيها نص، الأمر الذي يبين لنا أن هذه القواعد كانت راسخة في أذهان المجتهدين. وأضرب لذلك مثلاً ببعض المسائل التي تظهر اعتبارهم لهذه القواعد: لقد صرح جمهور
الفقهاء: أن الجماعة يقتلون بالواحد وكان مما احتجوا به بالاضافة إلى قول الصحابي والقياس الاستدلال بمقاصد الشريعة. يرشد إلى ذلك، ما قاله (ابن العربي) منبهاً إلى المفسدة المترتبة في حال القول بعدم قتل
الجماعة بالواحد: (فإن الله سبحانه وتعالى إنما قتل من قتل صيانة للأنفس عن القتل، فلو علم العداء أنهم بالاجتماع يسقط القصاص عنهم لقتلوا عدوهم في جماعتهم، فحكمنا بإيجاب القصاص عليهم ردعاً للاعتداء،
وحسماً لهذا الداء). فخوفاً من صيرورة النفس الانسانية عرضة للإهدار مآلاً، حكموا بقتل الجماعة بالواحد، وهذا ما يؤكده (ابن قدامة) بقوله: (ولأن القصاص –أي للجماعة- لو سقط بالاشتراك، لأدى إلى التسارع إلى
القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر). وتأسيساً على هذا النظر المقاصدي الثاقب، قرر الإمام (الغزالي) أن الأيدي تقطع باليد الواحدة أيضاً، فقال: (الأيدي تقطع باليد الواحدة كما تقتل النفوس بالنفس،
حسماً لذريعة التوصل إلى الإهدار بالتعاون اليسير الهيّن على أخدان الفساد وأقران السوء). وظاهر في هذا كله كيفية الاسترشاد بالمقاصد الكلية للكشف عن الحكم الشرعي بل الاستدلال بها كدليل مستقل. ومن هذه
المسائل التي ترشد إلى اعتماد المجتهدين على القواعد المقاصدية للاستدلال بها أن المالكية نصّوا على أن الأصل في شهادة الصبيان بعضهم على بعض مقبولة، رغم أن الأصل في شهادة غير البالغين، أنها لا يعتد
ولا يحكم بها. غير أن المالكية، ورواية عن الإمام (أحمد)، قالوا بجوازها. وعند النظر في الأدلة التي استندوا إليها نجد أنها القاعدة المقاصدية المتمثلة في الحفاظ على النفس، وهذا ما صرّحوا به في قولهم: (فإن
اجتماعهم مشروع لتدريبهم على مصالح الدين والدنيا، والغالب عدم حضور الكبار معهم، فلو لم تقبل شهادتهم لبعضهم على بعض لأدى ذلك إلى هدر دمائهم. إن المحافظة على النفس التي تعتبر مقصداً من مقاصد
الشريعة هو الذي حتّم قبول شهادة الصبيان استثناءً من القياس والأصل؛ إذ إن عدم اعتبارها البتة، فيما يجري بينهم ولم يحضره الكبار البالغون، قد يفضي مآلاً إلى إهدار النفس الانسانية والتفريط فيها، وهذا مخالف
لمقصد الشرع. ويؤكد هذا المعنى الإمام (الباجي) بقوله: (والدليل على ما ذهب إليه (علي) ومن تابعه، وما احتج به شيوخنا من أن الدماء يجب الاحتياط بها، والصبيان في غالب أحوالهم ينفردون في ملاعبهم حتى لا
يكاد أن يخالطهم غيرهم، ويجري ما بينهم من اللعب والترامي ما ربما كان سبباً للقتل والجراح، فلو لم يقبل بينهم إلا الكبار وأهل العدل لأدى ذلك إلى هدر دمائهم وجراحهم. فقبلت شهادتهم بينهم على الوجه الذي يقع
على الصحة في غالب الحال). فظاهر إذن من هذا الاستدلال، أن المالكية يستندون إلى أصل حفظ الدماء الذي أخذ من استقراء نصوص الشريعة المفيدة للقطع. والحفاظ على الدماء، قاعدة مقصدية رأى المالكية
وجوب تحكيمها في هذه الجزئية.
*المصدر : قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع