موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

محمد توفيق المقداد
قيمة الإجماع في الفقه الإسلامي



تمهيد: لقد اعتبر الفقهاء والأصوليون من كافة المذاهب الاسلامية الإجماع دليلاً عاماً على استنباط الأحكام الشرعية الفقهية المرتبطة بعمل المكلفين؛ وتعاملوا معه كتعاملهم مع القرآن والسنة والعقل عند حصرهم
للأدلة العامة على الحكم الشرعي. وفي هذا البحث سوف نفصل الكلام حول هذا الموضوع، فنتكلم أولاً عن معنى الإجماع، ثم عن أدلته، لنصل إلى تحديد القيمة العلمية والعملية له في الفقه الاسلامي. أولاً ـ معنى
الإجماع: 1 ـ المعنى اللغوي: الإجماع لغة هو العزم والتصميم، أو الاتفاق، فيقال مثلاً: أجمع القوم أي عزموا: أجمع القوم أي اتفقوا. وقد ورد استعمال هذه الكلمة في القرآن حيث قال سبحانه: (فلما ذهبوا به وأجمعوا
أن يجعلوه في غيابت الجب) أي اتفقوا. 2 ـ المعنى الاصطلاحي: في هذا المجال نرى أن هناك اختلافً كبيراً واسعاً جداً في تحديد المعنى المصطلح للكلمة يتراوح بين مَن قال بأن الإجماع هو اتفاق الشيخين أو
الخلفاء الأربعة الراشدين فقط ومَن قال بأنه اتفاق الأمة كلها، وما بين هذين معان أخرى كثيرة ومنها: 1 ـ انه اتفاق أهل الحرمين (مكة والمدينة). 2 ـ انه اتفاق أهل المصرين (الكوفة والبصرة). 3 ـ انه اتفاق الفقهاء
(في كل العصور). 4 ـ انه اتفاق الفقهاء (في عصر واحد). 5 ـ انه اتفاق الصحابة (في عصر النبي –ص-). وبالجملة فما ثبت من معنى الإجماع أي القاسم المشترك بين جميع تلك التعاريف هو (الاتفاق) ولكن
حصل ا لاختلاف في تحديد ( مَن هم المتفقون). ثانياً ـ الإجماع أصل أو حكاية: والمراد بهذه النقطة تحديد أن الإجماع أصل بذاته في مقابل الكتاب والسنة فيستدل به بشكل مستقل على الحكم الشرعي؟ أو أنه حاك
وكاشف عن السنة التي هي مورد إجماع الفقهاء حسب اختلاف معناه؟ والسبب في بحث هذه النقطة بالذات هو أن الفتوى لما كانت محتاجة إلى الدليل الواضح لإسنادها إلى الله تعالى على أنها حكمه في المسألة
موضوع البحث، فيجب أن يكون الدليل صحيحاً في نسبته إلى الشريعة، فإذا تمكنا من الاستدلال على حجية الإجماع لحيثية أنه إجماع الفقهاء كان الإجماع أصلاً مستقلاً وهو نفسه الدليل على الحكم، أما إذا لم نستطع
من خلال الأدلة إثبات حجية الإجماع بذلك النحو فهذا يكشف أن الإجماع ساعتئذ يكون الواسطة بين الحكم والمجمع عليه وبين دليله من السنة وهو الرواية غير المكتوبة التي لم تصل إلينا لفظاً، وإنما وصلتنا بشكلها
الفتوائي نقلاً عن الفقهاء الذين أجمعوا، وهذا يعني أن الإجماع ليس أصلاً مستقلاً بذاته، بل هو فرع من فروع ما ثبتت به السنة الشريفة، والذي يبدو في هذا المجال أن الكثير من الفقهاء المسلمين لا يعتبرون الإجماع
أصلاً مستقلاً، خاصة بعد عدم وضوح أدلته من هذه الجهة، وبالأخص بعد أن كان إسناد حكم إلى الله باطلاً ما لم يقم عليه الدليل الواضح، ولهذا قال الكثيرون بأنه (لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند). وقد ورد في مقدمة
أصولية للنبهاني: (ان الأمر الهام الذي يجب أن يكون واضحاً، أن إجماع الصحابة على أن هذا الحكم حكم شرعي إنما يكشف عن دليل، يعني أن هناك دليلاً شرعياً من فعل الرسول (ص) أو قوله أو سكوته، وقد نقلوا
الحكم ولم ينقلوا الدليل، فكان نقلهم كاشفاً عن أن هناك دليلاً على هذا الحكم، فليس معنى إجماعهم هو اتفاق آرائهم الشخصية على رأي واحد، فإن آراءهم ليست وحياً وكل واحد منهم ليس معصوماً عن الخطأ). ثالثاً ـ
أدلة الإجماع: لقد استدل الفقهاء من المسلمين على حجية الإجماع بالقرآن والسنة والعقل، ولم يستدلوا بالإجماع أيضاً لاستلزامه الدور الصريح وهو باطل. أما ما ادعيت دلالته من القرآن على حجية الإجماع فهو: 1 ـ
قوله تعالى: (ومَن يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) النساء/ 115. حيث ربطوا بين مشاقة الرسول (ص) واتباع غير سبيل المؤمنين في
الوعيد، وهذا يعني حرمة المشاقة وحرمة اتباع غير سبيل المؤمنين، ولازمه اتباع جماعة المؤمنين حتى لا يكون شاقاً عصا الطاعة، وينتج عن هذا بمجموعه حجية الإجماع ولزوم اتباعه. إلا أن للانسان أن يقول في
مقام الرد على هذا الاستدلال بأن اتباع غير سبيل المؤمنين من دون مشاقة الرسول (ص) لا يشمله الوعيد الوارد في الآية، ومجرد أن يخالف الانسان الحكم المدعى الإجماع عليه ويفتي فيه برأي مخالف، فهذا لا
يكون مشمولاً للآية. مضافاً إلى أن الآية واردة مورد مَن يفارق جماعة المسلمين كلياً، وليست ناظرة إلى إجماع الأمة أو الفقهاء على حكم حتى نقول بدلالتها على ما استدلوا بها عليه، فيكون معنى الآية أن مَن ترك
الاسلام والمسلمين وسار تحت لواء الكافرين أعداء الدين فهذا هو الذي يصليه الله نار جهنم وساءت له مصيراً، ولا ربط للآية دلالياً بما نحن فيه. 2 ـ قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على
الناس) البقرة/ 143. أما دلالتها المدعاة على الإجماع فهي كما يلي: (ان الوسط هو العدل، والعدل لا يصدر إلا عن الحق، وبما أن الإجماع صادر عن الأمة، فهو صادر عن الحق، ولهذا فإن الإجماع حجة) إلا أن هذه
الآية قاصرة أيضاً عن إثبات حجية الإجماع، لأن أقصى ما تثبته هي العدالة، والعادل لا يمتنع صدور خلاف الحق عنه، تبعاً للأدلة الظاهرية التي تتجمع عند إرادته الحكم على شيء ما. 3 ـ قوله تعالى: (كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) آل عمران/ 110. وتقريب دلالتها فهو أن الأمة لما كانت هي خير أمة فهذا يعني أنها لا تقع في الخطأ، ومعنى عدم وقوعها في الخطأ أن ما
تحكم به هو الصحيح اللازم الاتباع، وإلا لو لم يكن كذلك لما كانت خير أمة ولا معنى للإجماع إلا هذا، لكن يمكن الرد على هذا الاستدلال بأن الأمة وإن كانت خير الأمم إلا أن هذا لا يستلزم عدم الوقوع في الخطأ
لعدم عصمة الأمة، وإن كانت الأمة معذورة فيما لو أخطأت من باب الاشتباه وما شاكل ذلك، مضافاً إلى القول إن الآية ليست ناظرة إلى هذه الجهة أصلاً، وإنما هي ناظرة إلى أفضلية الأمة الاسلامية على غيرها
لاعتناقها مبادئ الدين الحنيف بالشكل الذي يريده الله عزوجل في مقابل الأمم الأخرى التي انحرفت عن دين الله وبدلت فيه وغيرت كاليهود والنصارى. وبهذا نخلص أنه لا يوجد دليل قرآني واضح على حجية
الإجماع بالمعنى الذي أثبت له. وأما ما ادعيت دلالته من السنة على الإجماع فهي طوائف مختلفة من الأحاديث، أهمها وأشهرها في الألسنة دلالة هي عدم اجتماع الأمة على الضلالة وقد ورد هذا المعنى في صيغتين:
الأولى: ما عن أبي خلف الأعمى، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: (ان أمتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم). الثانية: ما نقله شريح عن أبي مالك
الأشعري قال: قال رسول الله (ص): (ان الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً… وأن لا تجتمعوا على ضلالة). وهناك صيغ أخرى لهذا المعنى، مثل: 1 ـ لم يكن الله ليجمع أمتي على
الضلالة. 2 ـ لا تجتمع أمتي على الضلالة. 3 ـ مَن سرّه أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من وراءهم. ولكن المتأمل في هذه الروايات يرى بأن العصمة إنما هي لمجموع الأمة بما هي
مجموع، وليست لكل فرد على حدة، أو لمجموعة من الأفراد كفقهاء الحرمين أو المصرين أو فقهاء المسلمين في العصر الواحد أو العصور المختلفة، ولهذا لجأ البعض من المستدلين بهذه الأحاديث على حجية الإجماع
إلى تأويل لفظ (الأمة) بأن المراد به هو (الفقهاء والمجتهدون) لأنهم عصارة الأمة وهم الذين تقع عليهم مسؤولية عدم انحراف الأمة، وهذا التأويل ذهبوا إليه لكي تكتمل الدلالة على ما ذهبوا إليه، إلا أن هذا التأويل لا
ينسجم مع لفظ (الأمة) الصريح في إرادة مجموعها أي الأعم من الفقهاء والمجتهدين وأهل الرأي والنظر، مضافاً إلى هذا فهناك كلمة ( الضلالة) التي تستبطن الإثم والانحراف، الذي هو غير الخطأ فيما يجمع عليه
المجمعون، وذلك لأن خطأ المجمعين لا يستلزم ضلالتهم وانحرافهم عن الدين والاسلام، فيكون مدلول الحديث هو عدم انحراف الأمة عن الاسلام، لا عدم اجتماعهم على الخطأ الذي هو مغتفر في حق الأمة إذا لم يكن
بقصد الانحراف، أو لم يكن ناشئاً عن انحراف. ولهذا ورد في مقدمة وضعها النبهاني ما لفظه: (فمن قال ان إجماع المسلمين دليل شرعي استدل بقوله –ص-: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) وهذا ليس فيه دليل، لأن
الضلالة هنا الارتداد عن الدين، وليس الخطأ وهو صحيح، فإن الأمة الاسلامية لا تجتمع على الارتداد عن الاسلام، ولكنها قد تجتمع على خطأ وأبسط دليل على هذا هو أن الأمة الاسلامية قد أجمعت على ترك العمل
لإقامة خليفة مدة تزيد عن رفع قرن وهو إجماع على خطأ). هذا من حيث دلالة هذه الطائفة من الأحاديث، حيث نرى أن الإشكال الدلالي محكم فيها لا يمكن الخروج عنه، ويضاف إلى الإشكال الدلالي، إشكال سندي
على الصيغتين الأساسيتين لحديث (لا تجتمع أمتي على الضلالة) اللتين أوردناهما في أول الاستدلال بالسنة، وهذا الإشكال السندي هو على طبق موازين أهل السنة في الأخذ بالحديث لا على طبق موازين الشيعة
الإمامية في الجرح والتعديل، وذلك لأن الصيغة الأولى الواردة في سنن ابن ماجة وردت عن أبي خلف الأعمى الذي شهد بضعفه جملة من علمائهم والصيغة الثانية الواردة في سنن أبي داود في سندها قضمضم وهو
محل خلاف من حيث صحة حديثه وعدمها. أما غير هذه الطائفة فلا ترقى في دلالتها إلى دلالة طائفة (لا تجتمع أمتي على ضلالة) بل فيها قصور ذاتي في حد نفسها لإثبات عصمة الأمة وذلك مثل الحديث القائل (ان
الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) أو (اتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذّ شذّ في النار) و(يد الله مع الجماعة) فمثل هذه الأحاديث ليست ناظرة إلى عصمة الأمة، بل ناظرة إلى حالة الوحدة والتآلف والتقارب
بين أفراد الأمة. وأما ما ادعي دلالته من العقل على حجية الإجماع فهو بالتقديم التالي: 1 ـ ان كثرة الفقهاء الذين هم أهل الرأي والفضل في العلم عندما يجهدون أنفسهم في البحث عن دليل حكم ما، فإن هذا بنفسه
يقتضي امتناعهم عن الخطأ عادة فيما يتوصلون إليه من نتائج فإذا أجمعوا كل من خلال نظره واجتهاده على حكم ما، نفهم أن هذا هو حكم الله في المسألة ولو لم يكن كذلك لما تحقق الإجماع. والجواب عن هذا الدليل
هو إننا نرى إن غير المسلمين مجمعون أيضاً على ما هم عليه من عقيدة ونظريات وأحكام مع كون أغلبها ينافي عقيدة التوحيد وشريعة الاسلام، مضافاً إلى أن عدم وجود أدلة حسية في هذا المجال، يجعل عملية
الاستنباط في مقامنا حدسية، ومجال الخطأ في الحدسيات أكثر منه في الحسيات، ولهذا نرى أن العلماء قد يتوصلون إلى نتيجة من خلال مقدمات حسية ثم يبطلونها بعد فترة لظهور مقدمات حسية أخرى تنافي النتيجة
التي توصلوا إليها أولاً. 2 ـ دليل قاعدة اللطف: ومؤداها أن الله سبحانه وتعالى في الموارد التي لم يكن فيها دليل على الحكم واضح، كان لابد من أن يرشد عباده خاصة المؤهلين منهم لاستنباط أحكام الشريعة إلى
الطريقة التي تجعلهم، بما يملكون من قابليات يتوصلون إلى الحكم الذي لا ينقض غرض الشريعة وأهدافها من خلال حياة البشر، حتى لا تقع الناس في الضياع والانحراف، ولهذا فلو فرضنا أن الأمة أو الفقهاء
أجمعوا على ما يلغي هدف الشريعة وينقض غرضها وجب على الله، من باب اللطف والحكمة والرحمة بعباده ن يلغي الخلاف بينهم، ولما لم يكن لذلك الخلاف وجود (إذ لو كان لبان) نستكشف صحة إجماعهم على
حكم ما من خلال أن الإمام المعصوم (ع) المكلف بحفظ أحكام الشريعة لم يتدخل لإلقاء الخلاف بين المجمعين. وهذا الدليل أيضاً لا ينطبق على كل المدعى، لأن الإجماع دليل عند عامة المسلمين، والدليل المذكور إنما
يفيد على رأي الشيعة الإمامية الذاهبين إلى أن الإمام المعصوم (ع) هو المفترض الطاعة والمكلف بحفظ الشريعة وهو في فترة غيابه، ويضاف إلى ذلك أن قاعدة اللطف لا تنحصر بالطريقة المذكورة، بل إنها
تقتضي أن يكلف الله الناس من خلال الوسائل المتعارفة من خلال الأنبياء والرسل والأئمة (ع) ولعل الأئمة بلغوا حسب ما هم مكلفون، لكن ابتعاد الناس أو عوامل أخرى كالإخفاء والتحريف كانت هي السبب في
ضياع أدلة الأحكام كما هو ملاحظ في الكثير منها حسبما تشير المصادر، فكما أن هناك مَن كذب على لسان النبي (ص) يعقل أن يكون هناك مَن أخفى بعض أدلة الأحكام تبعاً لهوى السلطات الحاكمة باسم الاسلام
زوراً وبهتاناً واغتصابا للحكم، فيكون التقصير راجعاً إلى الناس وليس إلى الله تعالى حتى يتم المطلوب من خلال تطبيق قاعدة اللطف بهذا الأسلوب، خاصة أنه قد يكون هناك أحكام لم يكلفنا بها الله وهذا ما نستكشفه
من خلال الأحاديث التي تقول بأن ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم وليسوا مكلفين بالبحث عنه أو بامتثاله. 3 ـ دليل الواسطة: وتقريبه أن الإجماع ليس الدليل بحد ذاته، وإنما هو كاشف عن دليل
وصل إلى المجمعين ولم يصل إلينا لكن لو وصلنا لكان دليلنا أيضاً كما كان عندهم كذلك وهذا يعني أن الإجماع واسطة بين الحكم ودليله، وأن الإجماع بناء على هذا الرأي يكون كاشفاً وحاكياً عن السنة كالقول والفعل
والتقرير. والجواب عن هذا الدليل هو أن كاشفية الإجماع قد تكون عن دليل قرآني أو سنتي أو عقلي، ولا يمكن أن يكون الإجماع كاشفاً عن إجماع لأنه يستلزم الدور الصريح، ومن هنا نقول: أ ـ لو كان الدليل
المستكشف بالإجماع قرآنياً، فالقرآن بين أيدينا ويمكننا الرجوع إليه، لأن اختلاف الفهم والنظر والتفسير قد لا يجعلنا نأخذ بالرأي الذي استفادة المجمعون، بل نعمل النظر في نفس ذلك الدليل، وفهم السابقين المجمعين
ليس حجة علينا، لأن الإجماع في مثل هذه الحالة مدركي، وإذا كان كذلك فالعبرة بمدركه، مضافاً إلى ذلك، فإن دليل الحكم لما لم يكن موجوداً بين أيدينا أصلاً، فلا يعقل أن يكون الدليل قرآنياً. ب ـ لو كان الدليل عقلياً،
فالمفروض أن الحكم مجمع عليه، وبما أنه كذلك، فلابد أن تكون مقدماته واضحة للجميع، حتى يمكن إجماعهم عليه، وبما أن الفقهاء في هذا العصر أو العصور لما بعد المجمعين هم من العقلاء، فكيف حدث أن
المجمعين استكشفوا الدليل ولم يستكشفه غيرهم، وبما أنهم لم يستكشفوه فهذا يعني أن هذا الدليل العقلي ليس قطعياً، بل قد يكون دليلاً ظنياً من قياس أو استحسان أو غيرهما مما هو محل الخلاف بين الفقهاء على
اختلاف مذاهب المسلمين. ج ـ لو كان الدليل من السنة، فهو لا يخلو إما أن يكون خبراً متواتراً أو غيره، فلو كان المتواتر فهذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد كونه مورد القبول عند كل المسلمين، ولكانت العبرة به
لا بالإجماع الناتج عنه، لكن من الواضح أن الدليل ليس المتواتر لعدم إمكانية اختفائه، مع إننا نفرض في مورد البحث أن الدليل ليس بأيدينا، فإذاً ينحصر الأمر في أن الدليل هو خبر ظني سنداً على الأقل، إن لم نقل
دلالة أيضاً وهذا مما لا يمكن قبول الإجماع منه، غذ لعل الذين أجمعوا استندوا إلى فهم معين من النص بحسب الدلالة قد لا نتفق معهم عليه، أو لعلهم من جهة أخرى قبلوا وثاقة الرواة أو بعضهم لو كان النص
موجوداً، ونحن لا نقبل وثاقتهم، وعليه فبما أن الاختلاف الدلالي والسندي متحقق في مورد الحديث غير المتواتر، فلا يمكن القول بأن الإجماع الكاشف عن دليل هو الحجة على غير المجمعين، ولهذا يقال ان فهم
المجتهدين في عصر ما ليس حجة على غيرهم من العلماء في العصور الأخرى. د ـ لو كان الدليل هو القياس، فهذا مما لا يستقيم أيضاً صغروياً وكبروياً على حد سواء: وأما المناقشة الصغروية فنعني بها اعطاء حكم
الأصل للفرع للمشابهة بينهما من بعض الجهات، فإن هذا الأمر لا يكون تاماً وصحيحاً إلا إذا كان الحكم في الأصل معللاً وعرفنا يقيناً وجود العلة في الفرع، لأنه بهذا يتبين أن العلة هي موضوع الحكم وليس الأصل
بعنوانه، وليس الفرع كذلك، ولهذا نرى أن ابن حزم يرفض أن يكون قياس (الإمامة الكبرى) أي إمامة الأمة على (الإمامة الصغرى) أي إمامة الجماعة بالنسبة للخليفة الأول أبي بكر، إذ يقول في هذا المجال: (برفض
أن يكون نصب أبي بكر خليفة قد تم بناء على قياسهم الخلافة على الإمامة في الصلاة التي قدمه الرسول (ص) فيها قبيل وفاته، لأن الخلافة هي الأصل وإمامة الصلاة فرع منها، ولا يقاس الأصل على فرعه، فإن
المشابهة في جهة الإمامة بين الأمة والصلاة، لا تكفي لتصحيح الحكم بخلافة الأمة قياساً على الإمامة في الصلاة، إذ الفارق بين الإمامتين كبير جداً، لأن الإمامة الكبرى لما كانت تتعلق بمجموع الأمة وبمصيرها، فلا
يعقل أن نتعامل معها بقياسها على الصلاة لإثبات خلافة أبي بكر، ولهذا لابد من البحث عن دليل آخر لإثبات الخلافة. وأما المناقشة الكبروية، فهي أن القياس كدليل شرعي محل خلاف بين المسلمين، فمنهم مَن يعتبره
دليلاً ومنهم مَن يرفض ذلك كأهل الحديث والشيعة، لأن الكاشفية في القياس بين الأصل والفرع ظنية تحتاج إلى دليل يكمل ذلك الكشف الظني ويتمم حجيته، وهذا مما لا وجود له، بل الأدلة على عدم حجية القياس
هي الواردة والمعتبرة، وبهذا يتبين أن القياس لا يمكن أن يكون دليلاً على حجية الإجماع، لعدم قبوله كدليل عند عامة المسلمين، وثبوت حجيته عند البعض لا يكفي في مقامنا هنا. رابعاً ـ كلمة أخيرة: من كل ما تقدم
يتبين أن الإجماع كدليل عام على الأحكام الشرعية في مقابل القرآن والسنة مما لا يمكن القول به أو التعويل عليه، وكذلك إذا قلنا أن الإجماع حاك وكاشف عن السنة، وذلك لأن الإجماع وإن كان فيه جهة كشف، غلا
أن جهة الكشف هذه ظنية تحتاج إلى ما يجعلها حجة ودليلاً معتبراً، ومما تقدم تبين لنا أنه لا توجد أدلة واضحة وصريحة تشير إلى تتميم حجية ذلك الكشف الظني، وبهذا تكون حتمية الإجماع علمية أكثر منها عملية.
ويبقى نقطة أخيرة لابد من الإشارة إليها، وهي أن الفقهاء قسموا الإجماع إلى أقسام متعددة بحسب الحيثيات الواردة، وتلك الأقسام هي: 1 ـ الإجماع المحصل: ويعنون به تحصيل الإجماع من خلال استقراء فتاوى
الفقهاء لمعرفة تطابق آرائهم في الحكم المقصود البحث عنه. 2 ـ الإجماع الدخولي: ويعنون به أن يكون الإمام المعصوم (ع) أحد المجمعين من دون أن يعرف بشخصه من بينهم، وإلا بطل كون الإجماع حجة، لأن
العبرة ساعتئذ بقول المعصوم (ع). 3 ـ الإجماع المنقول: وهو الإجماع الذي نقله فقيه واحد عن لسان الآخرين، ومناط حجيته بناء على القول بحجية الإجماع هو مدى حجية خبر الواحد وعدمه. 4 ـ الإجماع
السكوتي: وهو أن يفتي البعض من الفقهاء بحكم في أمر ما، ويسكت الباقون، فيستكشف من خلال سكوتهم امضاؤهم لذلك الحكم وقبولهم به. وفي كل هذه الأقسام للإجماع، توجد مناقشات كثيرة يطول البحث بذكرها،
ولا تفيد أكثر مما أثبتناه من أن الإجماع كاشف ظني، ولا يوجد دليل واضح يتمم كاشفيته حتى يكون حجة وبرهاناً، ولهذا ذهب الكثير من الفقهاء المسلمين إلى أن منكر حجية الإجماع لا يحكم بكفره، لأنه لم ينكر ما
هو ضرورة من ضروريات الدين الحنيف، وإنما هو إنكار لطريق من الطرق التي تثبت بها أحكام الشريعة، لعدم الدليل الواضح على حجية ذلك الطريق.

 المصدر : مجلة المنطلق /العدد59/السنة 1989م

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع