موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

د. محمد سليمان الأشقر
حكم البيان بالإشارة



إن الإشارة لما كان فيها من خفاء الدلالة على المراد ما فيها، منع من اعتبارها في حقوق الآدميين، إلا حيث لا وسيلة للتعبير سواها، كما في حال الأخرس والمعتقل، أما القادر على النطق فلا تعتبر منه، وهذا إن كانت إشارة مجردة. لكنهم اتفقوا على أن البيان الإفتائي بها صحيح.
أما إن انضم إليها نطق، فبينت الإشارة المراد به، فلا خلاف في أنها يصح البيان بها حتى من القادر على النطق. فلو قال الرجل لزوجته (أنت طالق، هكذا). وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثاً عند كل مَن يقول بوقوع الثلاث مجتمعة. ووجهه أن (هكذا) لفظ لابد من حمله على مدلوله. وقد بيّن المراد به بالإشارة فتعين.
ـ ما وقع في السنة من البيان بالإشارة:
الذي وقع في السنة من البيان بالإشارة ثلاثة أنواع:
النوع الأول: إشارة مجتمعة مع لفظ هو اسم من أسماء الإشارة، تبين الإشارة المراد به. وهذا النوع في السنة كثير. ومثاله ما تقدّم من حديث ابن عمر أن النبي (ص) قال: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) يعني ثلاثين. ثم قال: ((وهكذا وهكذا وهكذا)) يعني تسعة وعشرين. وقد عقد البخاري باباً بعنوان (الإشارة في الطلاق والأمور) أورد فيه وفي ما بعده من هذا النوع حديث ابن عمر المتقدم وأحاديث أخر، منها:
1 ـ أن النبي (ص) قال: ((إن الله لا يعذب بدمع العين، ولكن يعذب بهذا)) وأشار إلى لسانه.
2 ـ وقال: ((فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وعقد تسعين.
3 ـ وقال: ((الفتنة من هنا)) وأشار إلى المشرق.
4 ـ وأشار النبي (ص) بيده نحو اليمن: ((الإيمان هاهنا)) مرتين.
5 ـ وقال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا)). وإشارة بالسبابة والوسطى وفرج بينهما.
ومن هذا الباب أيضاً حديث عمار في التيمم: ((إنما يكفيك أن تقول بيدك هكذا)). ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه.
النوع الثاني: أن يجعل الإشارة كجزء من القول، أعني أن لا يذكر في الكلام اسم إشارة، وإنما يقيم الإشارة مقام اللفظ. وهذا النوع أقل وروداً من الأول، ومثاله ما في الحديث عن أبي هريرة مرفوعاً: ((في الجمعة ساعة، لا يوافقها عبد مسلم قائم يصلي، فسأل الله خيراً إلا أعطاه)). ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر. قلنا: يزهدها. اهـ.
أقول: فالإشارة هاهنا قائمة مقام النعت لكلمة (ساعة) أي: ساعة قليلة.
النوع الثالث: الإشارة المجردة من القول إذا أفادت. وهي جائزة في مقام بيان الأحكام، وإن كانت لا تعتبر في الحقوق بين الآدميين من القادر على النطق، كما تقدم. وقد تقدم عن السيوطي أنه استثنى الإشارة في الإفتاء، فأجازها من القادر على النطق. وكذلك فعل ابن عبادين.
وقد أُثر من ذلك في السنة قليل. ومنه حديث ابن عباس أن النبي (ص) سئل يوم النحر عن التقديم والتأخير، فأومأ بيده أن لا حرج. والذي سهّل الأمر في مثل هذا الحديث أن الإشارة وقعت في جواب وسؤال.
فهي في الحقيقة مضمومة إلى قول. ومثله حديث أبي هريرة أنه (ص) قال: ((يقبض العلم، ويظهر الجهل والفتن، ويكثر الهرج)). قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال بيده هكذا فحرفها، كأنه يريد القتل.
أما بيان الأحكام بإشارة مجردة عن سؤال أو نطق بالكلية، فلم نظفر له بمثال.
وقد نقل الزركشي عن ابن السمعاني أنه قطع بصحة البيان بالإشارة. ونقل عن صاحب الواضح، ولعله يعني ابن عقيل الحنبلي، أنه قال: ((لا أعلم خلافاً في الكتابة والإشارة يقع بهما البيان)). وعدّ الزركشي وغيره الإشارة قسماً من أقسام السنة، ومقتضى الاطلاق أن البيان يصح حتى بهذا النوع الثالث.
وهم إنما يمثلون بأمثلة من النوع الأول.
واحتجّ أبو يعلى الحنبلي للبيان بالإشارة، بقوله تعالى عن زكريا: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألاّ تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً) مريم/ 10. ومثله قوله تعالى لزكريا: (قال آيتك ألاّ تلكم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً) ثم قال: فقد قامت إشارته مقام القول في بلوغ المراد.
وليس هذا بحجة. فإن زكريا أفقده الله القدرة على النطق في تلك الأيام الثلاثة فرجع كالمعتقل لسانه، كما تدل عليه الآية (آيتك ألاّ تكلم الناس).
ومن هذا يتبين أن الأصوليين لم يحرروا هذا الموضع كما ينبغي له.
* المصدر : افعال الرسول ودلالتها على الاحكام الشرعية /ج2

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع