بعد ان ثبت بضرورة العقل والنقل ان الله سبحانه لطفاً منه ورحمة
بعباده قد كلفهم بما يقربهم إليه ومهد لهم الطريق الموصل إلى
رضوانه وجعل لكل واقعة حكماً، وأوجب على كل مكلف أن يكون في
عباداته ومعاملاته وايقاعاته وحتى في تحركاته وأقواله أوجب عليه أن
لا يتخطى ما فرضه الله في كتابه وسنن أنبيائه الادلاء على طاعته
والأمناء على وحيه ورسالته التي تنظم علاقة الانسان بربه ومجتمعه
وأسرته، وتضع حداً للصراع المستمر بين الحق والباطل والعدل والظلم،
وكان محمد بن عبدالله (ص) خاتمهم وشريعته خاتمة الشرائع ورسالته
خاتمة الرسالات، فلابد وأن تكون والحالة هذه وافية بكل ما يحتاجه
الانسان في معاشه ومعاده في كل عصر وزمان مهما تطورت الحياة وتجددت
الأحداث لأنه العليم بما كان والخبير بما سيكون، ومن غير الممكن أن
يترك الله سبحانه الناس يعيشون في متاهات الأحداث ويتخبطون في
مشاكل الحياة وتناقضاتها بدون أن يملأ ذلك الفراغ الشامل سياسياً
واقتصادياً واجتماعياً بشريعة غنية بأنظمتها ومبادئها وأحكامها
التي تتناسب مع الحياة وتقضي على الربا والاحتكار والاستغلال وتعلن
ان الناس سواسية كأسنان المشط وان أكرمهم على الله أتقاهم وترفع
المرأة الموءودة في ذلك المجتمع الذي كان لا يراها من الناس،
ترفعها إلى مركزها الكريم كانسان تكافئ الرجل في الانسانية
والكرامة وقد ترتفع عليه، وتضع الأسس الصحيحة لتوزيع الثروات
توزيعاً عادلاً حتى لا تكون دولة بين الأغنياء كما تعلن مبادئ
التكامل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تناد به الأمم
المتحضرة والمعادية للاسلام إلا بعد ذلك بمئات السنين إلى غير ذلك
من القيم والمفاهيم والتشريعات التي ينظر إليها حتى مَن لا يؤمن
بأنها من وحي السماء ويراها من أنفس وأروع ما عرفه تاريخ الانسان
من قيم وتشريعات يمكن أن يصل إليها الفكر البشري في تاريخه الطويل.
ومهما كان الحال فالمفروض على الانسان أن لا يتخطى في أعماله
وعباداته ومعاملاته وأقواله ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، ومعرفة
ذلك في عهد الرسول والأئمة الهداة من ذريته الذين جعلهم الرسول
عدلاً لكتاب الله من بعده وأمر بالرجوع إليهما والاعتصام بهما في
الحديث المشهور بين المسلمين (إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي)، ففي عهدهم كانوا المرجع إلى الناس، وبامكان مَن
جاورهم أن يأخذ الحكم من معدنه، وكانوا يرجعون إلى رواة أحاديثهم
وأصحابهم ويتركون إليهم مهمة الإفتاء والقضاء وتعليم الأحكام، كما
جاء عن الإمام الباقر (ع) انه كان يقول لأبان بن تغلب: يا أبان
اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس، فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك،
وقول الإمام في جواب مَن سأله إلى مَن يرجع في أمور دينه عليك بهذا
الجالس وأشار ليونس بن عبدالرحمن إلى غير ذلك مما جاء عن الأئمة
(ع) في ذلك، كما جاء عن النبي (ص) انه كان يختار من بين أصحابه مَن
يفقه الناس ويقضي بينهم كحذيفة اليمان وعمار بن ياسر وعلي (ع)
وغيرهم كما تؤكد ذلك المصادر الموثوقة.
وفي الغيبة الصغرى كان الشيعة يتصلون بالإمام المهدي (ع) بواسطة
نوابه وسفرائه الذين اختارهم من بين أصحابه وشيعته ليكونوا واسطة
بينه وبينهم ينقلون إليه رسائلهم ويردون إليهم أجوبتها فأحياناً
كان يجيب عن أحكام الحوادث وما يتعلق بعباداتهم ومعاملاتهم مباشرة،
وأخرى يرشدهم إلى العارفين بأحكام الله ورواة أحاديثهم كما جاء في
توقيع الحجة (ع) على رسالة اسحاق بن يعقوب وقد جاء فيه (وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم
وأنا حجة الله عليهم)، وفي الغيبة الكبرى بعد ان انتهى عهد
السفراء، ولم يعد الاتصال بالإمام ممكناً انحصر الطريق لمعرفة
الأحكام بالكتاب والسنة لأن الامتثال يتوقف على المعرفة، وتكليف
الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة يؤدي إلى الإخلال بالنظام والعسر
والحرج لو كان طلب العلم واجباً عينياً على كل مسلم، فلابد إذن من
توزيع المهمات حسب طاقة الانسان وامكانياته لتبقى الأمور في
مسيرتها الطبيعية فيؤدي كل فرد ما عليه مما يتوقف عليه بناء
المجتمع وسلامته وينصرف فريق من الناس إلى طلب العلم والفقه في
الدين ولارشاد الناس وتعليمهم أحكام الاسلام والقيام بحل مشاكلهم
واصلاح شؤونهم، وقد جاء القرآن الكريم ليؤكد هذا المبدأ في الآية.
(فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا
قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
كما نصت بعض الآيات على ان على الجاهل أن يرجع إلى العالم في أمور
دينه كما في الآية: (واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إلى غير
ذلك من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، كما وان الأئمة (ع) قد أمروا
العوام بالرجوع إلى العلماء في أمور دينهم في عشرات المناسبات، ومن
ذلك ما جاء عن الإمام العسكري في معرض توجيه أصحابه وارشادهم إلى
الطريق الذي يجب سلوكه لمعرفة الأحكام، (وأما مَن كان من الفقهاء
صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه
فللعوام أن يقلدوه) إلى غير ذلك من النصوص التي تفرض على الجاهل أن
يرجع إلى العالم، هذا بالاضافة إلى حكم العقل القاضي بوجوب امتثال
الأحكام بعد العلم بصدورها ولا سبيل إلى الجاهل بنظر العقل إلا
بالرجوع إلى غيره من الفقهاء العارفين بأحكام الله وحلاله وحرامه.
ومن مجموع ذلك تبين ان المكلفين في زمن الغيبة بين عالم بالأحكام
بالطرق المتعارفة لاستخراجها من الكتاب والسنة وبين مَن لا يستطيع
ذلك وهذا النوع من الناس وهم الأكثرية يتعين عليهم الامتثال أما
بالرجوع إلى العالم، أو بالاحتياط بنحو يحصل لهم الاطمئنان بموافقة
عملهم للواقع حتى ولو استلزم ذلك تكرار العمل بناء على ما هو
الأرجح من كفاية الامتثال الإجمالي حتى مع التمكن من الامتثال
التفصيلي ما لم يؤد ذلك إلى اللغو والسفه أحياناً.
ولعل العمل بالاحتياط إذا كان ممكناً أرجح من التقليد والرجوع إلى
الغير، لأن الرجوع إلى الغير لا يفيد أكثر من الظن بالامتثال،
وبالاحتياط يحصل العلم به في الغالب، ومع ذلك بعد التعبد الشرعي
بالرجوع إلى العالم وقيام الدليل على كفاية العمل الصادر من المكلف
إذا كان مطابقاً لفتوى العالم الذي قلده الجاهل لم يعد ما يوجب
تقديم الاحتياط على التقليد من حيث معذورية غير العارف بالأحكام
وطريقة امتثالها حتى ولو افترضنا عدم موافقة الظن الحاصل من فتوى
المقلد للواقع، لأن مقتضى التقيد بفتوى العالم كفاية الامتثال
الحاصل من المقلد ولا يبعد على اللطيف الخبير أن يعوِّض العامل
بالظن عما فاته من مصلحة الواقع إذا كان الفقيه مخطئاً في فتواه
واقعاً ما لم ينكشف خطؤه إلى مقلديه، أما إذا انكشف خطؤه فعليهم
الرجوع لغيره في تلك المسألة أو العمل بالاحتياط إذا كان ممكناً.
هذا كله حيث يكون الاحتياط ممكناً وميسوراً بالنسبة لبعض الناس اما
مع تعسره، أو مع الجهل بتشخيص موارده، فيتعين التقليد بالرجوع إلى
العالم.
قال الشيخ أحمد كاشف الغطاء في مقدمة رسالته سفينة النجاة وهو يمهد
لوجوب امتثال الأحكام بالاحتياط أو التقليد: قال لكن ذلك لا يستغنى
به عن الاجتهاد أو التقليد ولو في الجملة لمعرفة موارد الاحتياط،
إذ قد لا يحصل للعامي التفات إلى أشكال المسألة ليحتاط بها، وقد
يكون الاحتياط في ترك الاحتياط، وقد يتعارض الاحتياطان، فلابد من
الترجيح، مثلاً الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر يقتضي الاحتياط
عدم استعماله في رفع الحدث، لكن لو انحصر الماء به ينعكس الأمر
ويكون الاحتياط مقتضياً لاستعماله، بل قد يجب استعماله في هذه
الصورة إذا لم يكن الاحتياط بتركه لازماً، وأحوط من ذلك الجمع بين
استعماله والتيمم إلى غير ذلك من الموارد التي لم يكن سلوك طريق
الاحتياط فيها سهلاً وميسوراً بدون الاجتهاد والتقليد وأضاف إلى
ذلك أن الاحتياط إنما يتم من المكلف فيما يمكن فيه الاحتياط
كالشبهات الوجوبية أو التحريمية في مقام الشك في التكليف، أو في
المكلف به كما في الأقل والأكثر الارتباطيين حيث يكون الاشتباه في
جزئية شيء أو شرطية شيء للمأمور به أو يكون الشك في المانعية أو
القاطعية، وأما في موارد دوران الأمر بين المحذورين كالحرمة
والوجوب مثلاً فلا سبيل للمكلف إلا بالرجوع إلى العالم أو الاجتهاد
في المسألة إذا كان بامكانه ذلك ومضى يقول: هذا بالاضافة إلى ما
فيه من العسر والحرج الشديد على عامة المكلفين فإن مَن أراد
الاحتياط في فريضة واحدة في مقدماتها وأجزائها وشرائطها وموانعها
وقواطعها ربما لا يكفيه عامة نهاره وليله.
ومهما كان الحال فالاحتياط عند التمكن منه من أفضل الطرق في مقام
الامتثال لمن لم يتمكن من تحصيل الأحكام بنفسه وحتى للمتمكن إذا لم
يؤد إلى التلاعب واللغو به كما في بعض الفروض ومنها الفرض التالي:
لو افترضنا ان المكلف بامكانه أن يحصل العلم بالقبلة وأداء الفريضة
إليها، ولكنه مع ذلك ترك تحصيل العلم وصلى إلى الجهات الأربعة، ومع
ان المكلف في مثل ذلك يحصل الواقع حتماً ولكن العرف لا يرحب بهذا
النوع من الامتثال الإجمالي ويراه نوعاً من اللغو والتلاعب، ومع
عدم التمكن من الاحتياط لأحد الأسباب السابقة فالعقل والنقل يلزمان
بالرجوع إلى العالم حيث لا سبيل للامتثال بدونه.
أما ما يصح فيه التقليد وما لا يصح ومَن الذي يصح تقليده من
الفقهاء فقد نص الفقهاء على عدم جواز التقليد في أصول الاسلام
وأوجبوا تحصيل العلم من الأدلة المتوفرة لاثبات ذلك كل بحسب حاله،
وادعى بعضهم اعتماداً على بعض المرويات وجود الواسطة بين الاسلام
والكفر، وعد غير القادرين على تحصيل العلم بالأصول بين الاسلام
والكفر، وقد لخص الشيخ الأنصاري في رسائله موقف العلماء من أصول
الاسلام بالأقوال الستة التالية:
الأول وهو المنسوب إلى أكثر العلماء بل إلى جلهم وجوب تحصيلها
بالنظر والدليل وأضاف إلى ذلك الأنصاري إن العلامة الحلي قد ادعى
إجماع العلماء على ذلك.
الثاني كفاية العلم بها ولو من طريق التقليد أو غيره من الطرق، ذلك
لأنه لا يشترط فيها أكثر من الجزم كما يبدو من أدلتها فإذا حصل عن
طريق التقليد بنحو لا تعترضه الشبهات والأراجيف لا يمكن للشارع كما
يزعم أنصار هذا الرأي أن يلغي اعتقاده ويقينه ويكلفه بيقين آخر
حاصل من الأدلة والأقيسة المنطقية.
الثالث الاكتفاء فيها بالظن الحاصل من التقليد أو من الأخبار
الموثوقة وغيرها من الأدلة مهما كان نوعها كما ذهب إلى ذلك عامة
الاخباريين وأنصارهم من الحشوية الذين يقدمون الحديث على العقل
فيما يتعلق بأصول الاسلام وفروعه.
الرابع وجوب النظر والاستدلال لإثبات أصول الاسلام فإذا أعمل
الانسان فيها فكره واستعمل الأدلة كان معذوراً سواء حصل له الظن
منها أو العلم إلى غير ذلك من الأقوال، ولكن الذي يعكس رأي الشيعة
هو القول الأول القاضي بوجوب تحصيل العلم بها الحاصل من الأدلة،
وأضاف إلى ذلك الشيخ الأنصاري ان أصول الدين التي يجب التدين
والالتزام بها على قسمين الأول منهما ما يجب على المكلف الاعتقاد
والتدين به بدون شرط آخر. وهذه يجب فيها تحصيل العلم من باب
المقدمة كما هو الحال في سائر مقدمات الواجب المطلق.
والثاني هو ما يجب الاعتقاد والتدين به عند حصول العلم به
كالتفاصيل والخصوصيات المتعلقة بالتوحيد والنبوة وبقية الأمور
والخصوصيات المتفرعة عنهما، وهذه لا يجب تحصيل العلم والمعرفة بها
لأن وجوبها مشروط بالمعرفة فقبلها لا يجب الاعتقاد بها، وإذا لم
يجب الاعتقاد بها لا يمكن أن تتصف مقدمتها بالوجوب كما هو الشأن في
سائر مقدمات الواجب المشروط الذي لا يجب تحصيل مقدمته، وانتهى إلى
القول: بأن وجوب التدين بهذه الأمور لمجرد الظن الحاصل من الأخبار
ولو كانت صحيحة يكون من الاعتماد على الظن فلابد من التوقف في مثل
ذلك.
وأضاف ان الشهيد الثاني في مقاصده العلية صرح بأن ما ورد عنه (ص)
من طريق الآحاد في تفاصيل البرزخ والمعاد ونحو ذلك لا يجب التصديق
به، ولا الاعتماد فيه على أخبار الآحاد وإن كان طريقها صحيحاً
لأنها ظنية الدلالة وقد اختلف الباحثون في جواز العمل بها في
الأحكام الشرعية، فكيف بالأمور الاعتقادية التي تعود إلى كيفية
الحساب والجنة والنار والثواب ونحو ذلك، وأضاف إلى ذلك أن الشيخ
الطوسي في كتابه العدة قال: ان عدم جواز التعويل في أصول الدين على
أخبار الآحاد اتفاقي إلا من بعض غفلة أصحاب الحديث. ومجمل القول ان
الأمور التي يجب تحصيلها والتدين بها كالتوحيد والنبوة والمعاد
والجنة والنار والحساب ونحو ذلك يتعين على القادر العارف أن يبحث
عنها ويفتش ويستعمل جميع امكانياته للوصول إلى الاعتقاد الجازم،
أما إذا لم يكن قادراً على البحث والفحص كما هو الحال في عوام
الناس وبسطائهم فلا يمكن تكليفهم بالنظر والاستدلال لتحصيل العلم
بها، بل يكفي اعتقادهم بها من أي طريق كان حتى ولو من التقليد وهو
الذي يتناسب مع يسر الاسلام وسماحته.
أما المرويات التي تشير إلى أن المقلدة في العقائد لا من المسلمين
ولا من الكافرين بل هم بين الاسلام والكفر، هذه المرويات على تقدير
صحتها يمكن أن تكون ناظرة إلى ما يستحقه المقلد من الجزاء. غداً
عندما يلاقي كل انسان جزاء أعماله، ذلك لأن المقلدة في أصول
الاسلام وحتى في غيرها لا يستحقون مرتبة غيرهم من الموحدين
المؤمنين بكل ما جاءت به الرسالات عن علم ونظر واستدلال، كما لا
يستحقون عقوبة غيره من الجاحدين لمجرد انهم لا يملكون وسائل الدفاع
عن عقيدتهم والأدلة التي تنتهي بهم إلى المعرفة الكاملة. وجاء في
رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: أدنى ما يكون به
العبد مؤمناً أن يعرِّفه الله إياه فيقر له بالطاعة ويعرِّفه نبيه
فيقر له بالرسالة ويعرِّفه إمامه وحجته في أرضه وشاهده على خلقه
فيقر له بالإمامة والطاعة, فقلت: يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع
الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم، إلى غير ذلك من المرويات التي تؤكد
هذا المعنى.
وأما القسم الثاني وهو ما يتعلق بتفاصيل أصول العقائد كتفاصيل صفات
الواجب وخصائصه التي لا يتنافى الجهل بها مع مبدأ التوحيد، وأحوال
البرزخ وكيفية الحساب والصراط والجنة والنار وغير ذلك مما يتفرع
على أصول العقائد، فهذه لا يجب معرفتها بنحو التفصيل ولا الفحص
عنها لأنها من مقدمات الواجب المشروط الذي لا تجب مقدمته، وإذا حصل
العلم بها من خبر متواتر أو آحاد محفوف ببعض القرائن يتعين التصديق
والتدين بها، أما أخبار الآحاد التي لا تفيد أكثر من الظن فلا يجب
التعبد بها وإن كانت صحيحة السند لأن القدر المتيقن من أدلة حجية
تلك الأخبار هو جواز الرجوع إليها والاعتماد عليها في الأحكام لا
غير أو فيها وفي الموضوعات على قول ربما يكون له وجه مقبول، وفي
غيرهما فالظن الحاصل من أخبار الآحاد يبقى مشمولاً لتلك الأدلة
الناطقة بأن الظن لا يعني عن الحق شيئاً.
وكما لا يصح التقليد في أصول الدين ممن يتمكن من تحصيل اليقين بها
بالدليل والنظر كما ذكرنا لا يصح في غيرها من الضرورات في دين
الاسلام كوجوب الصلاة والصوم والخمس والزكاة والجهاد ونحو ذلك مما
نص عليه الاسلام كتاباً وسنة بصراحة لا تقبل الشك والتردد بحال من
الأحوال ومن ذلك عدد ركعات الصلاة اليومية وكون الصوم المفروض في
شهر رمضان بكامله من كل سنة عن الأكل والشرب والمنكر لشيء مما هو
من الضرورات يلحق بالمرتدين عن الاسلام لأن إنكاره يرجع إلى تكذيب
القرآن والرسول فيما أخبرا عنه، كما وان تأويل هذه الأصول الخمسة
وتفسيرها بغير ما جاء به الاسلام وما هو المعروف بين المسلمين كما
ينسب إلى بعض الفرق المحسوبة على المسلمين كالبابية والبهائية
والقرامطة وشذاذ الصوفية تأويلها بغير ما هو ثابت بين المسلمين
يوجب الخروج عن الاسلام، وربما تكون تلك الفرق المدعية للاسلام
والتي تتأول أصوله وفروعه بأمور لا تمت إلى الاسلام بصلة من الصلات
أسوأ حالاً من اليهود والنصارى المنكرين لأصل الاسلام.
وكذلك لا يصح التقليد في تطبيق المفاهيم الكلية على مصاديقها
والكبريات على صغرياتها، مما تكون الشبهة فيه على فرض حصولها
موضوعية ليس على عهدة الشارع إزالتها ولا من شأنه بيانها لأن منشأ
الشبهة فيها اشتباه الأمور الخارجية، وأضاف إلى ذلك الشيخ أحمد
كاشف الغطاء في رسالته سفينة النجاة فقال: ومثله الشك في أصل
ايجادها كما لو شك المكلف في انه أتى بالصلاة أم لا، ومضى يقول!
ولا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المفاهيم خارجية صرفة كالخمر والدم
والميتة، أو مخترعة للشارع كماهية العبادات ونحوها، ذلك لأنه بعد
معرفة الحكم الكلي وموضوعه الكلي المأخوذ من الشارع يكون تطبيقه
على مصداقه واحراز تحققه في الخارج من شؤون المكلف وحده ويستوي في
ذلك المجتهد والمقلد فلو شك المقلد في مائع انه خمر أو خل مثلاً
وقال المجتهد انه خمر لا يكون قوله حجة عليه إلا من حيث انه مخبر
عادل كغيره من المخبرين العدول، وكذا لو اشتبه على المكلف شيء بلون
الدم وقال المجتهد انه دم فلا ملزم للمكلف بقوله لأن تشخيص الموضوع
لا يعود إلى الشارع بل يستوي فيه العالم والجاهل، وأضاف إلى ذلك،
وكذا لو شك المقلد انه صلى أم لا وقال المجتهد له: لقد صليت فليس
عليه أن يتقيد بقوله، وعليه إذا لم يحصل له الاطمئنان من شهادته أن
يؤدي الصلاة المشكوكة كما هو الحال في جميع موارد الشك في
الامتثال.
هذا كله بالنسبة إلى تطبيق المفاهيم على مصاديقها وإحراز تحققها في
الخارج، وأما نفس المفاهيم التي هي الموضوع للأحكام، فلا ريب في
جريان التقليد فيها سواء كانت من الماهيات المخترعة أو من الأمور
العرفية أو اللغوية فإن موضوعات الأحكام الكلية بحدودها وقيودها
يعود الأمر فيها إلى الشارع والاشتباه فيها من حيث فقدان النص أو
إجماله وتعارضه يدخل في الشبهات الحكمية التي يرجع الأمر فيها إلى
المجتهد، وكل ما في الأمر انه إذا كان منشأ الاشتباه في الموضوع
العرفي إجمال النص فكما يمكن الرجوع إلى المجتهد لإزالة الاشتباه
يمكن الرجوع إلى اللغة والعرف في ذلك إذا كان له في العرف أو اللغة
حقيقة ثابتة.
هذا كله بالنسبة إلى الأحكام الواقعية المجعولة بعناوينها الأولية،
وأما الأحكام الظاهرية التي هي مفاد الأصول المجعولة للشاك فلابد
من الرجوع فيها إلى المجتهد سواء كانت جارية في الشبهات الحكمية أو
الموضوعية، وبينهما فرق من ناحية ثانية هي ان ما كان منها من
الشبهات الحكمية يختص بالمجهد استنباطاً وعملاً لأن اجراءها في
محلها لا يسوغ إلا بعد الفحص عن الأدلة وهو من وظائف المجتهدين ولا
يقدر عليه غيره بخلاف ما يجري منها في الشبهات الموضوعية فإنها من
المسائل الفقهية واستنباطها من وظيفة المجتهدين ذلك لأن المجتهد هو
الذي يستفيد من الأدلة. إن الأصل في مقام الشك في النجاسة والطهارة
هو الطهارة وللمقلد أن يستعمل هذا الأصل الذي انتهى إليه المجتهد.
للمقلد أن يستعمله في كل مورد يشك في طهارة الشيء ونجاسته لاحتمال
ملاقاته للنجس بعد أن قلده في أن الأصل المجعول في مثل ذلك هو
أصالة الطهارة، وليس للمقلد أن يستعمل هذا الأصل فيما لو شك في
طهارة ماء الغسالة وعرق الجنب من الحرام لخروج ذلك عن موضوع أصالة
الطهارة ولابد من الرجوع في مثل ذلك إلى الأدلة الخاصة، وهو من
وظائف المجتهد.
ومهما كان الحال فالتقليد في موارده من الضرورات لأن الامتثال لا
يمكن لغير المتمكن من الاحتياط إلا بالرجوع إلى العالم وقد اشترط
الفقهاء في المفتي بالاضافة إلى الاجتهاد البلوغ والعقل والإيمان
والعدالة، وقد أخذ عامة الفقهاء بهذه الشروط وكأنها من المسلمات
فيما بينهم، في حين أن عمدة أدلة التقليد هي حكم العقل القاضي
بوجوب الامتثال المتعسر بالنسبة إلى الجاهل بدون الرجوع إلى العالم
بالأحكام، هذا بالاضافة إلى بناء العقلاء على الرجوع إلى أهل
الخبرة في سائر أمورهم ولا فرق بنظر العقل والعقلاء بين البالغ
وغيره إذا كان غير البالغ في مرتبة غيره من البالغين في الفضل
والعلم بالأحكام، فلابد لكي يصح اشتراط البلوغ في المفتي من نص أو
إجماع يكشفان عن خطأ العقل والعقلاء في اعطاء غير البالغ صلاحية
البالغ في خصوص المقام. قال السيد الحكيم في المجلد الأول من
مستمسكه: ان اعتبار البلوغ لابد وأن يكون بدليل شرعي يكون رادعاً
عن اطلاق بناء العقلاء وليس هو إلا الإجماع إن تم، ومجرد كونه
محجوراً من التصرف ومرفوعاً عنه القلم ومولى عليه وعمده خطأ ونحو
ذلك لا يصلح رادعاً لبناء العقلاء، ولا يوجب إلا الاستبعاد المحض،
وأضاف إلى ذلك: كيف وربما يكون غير البالغ حائزاً مرتبة النبوة أو
الإمامة فكيف لا يصح أن يحوز منصب الفتوى على حد تعبيره، ومضى
يقول: إلا أن يقوم الدليل على كون منصب الفتوى مختصاً بالمعصوم
وبمن يجعله له، والشك في جعله لغير البالغ كاف في المنع لكنه خلاف
ظاهر الأدلة وبخاصة بناء العقلاء.
وأما اعتبار العقل في المفتي فالظاهر أن عليه بناء العقلاء وسيرة
المتشرعة إذ لم يعرف من حالهم الاعتماد على المجنون في شيء من
الأمور والأدلة الأخرى منصرفة عنه حتماً، وعلمه على تقديره لا يعد
علماً بنظر العقلاء ما دام لا يملك من العقل ما يمكنه من استعمال
العلم في محله، ووضعه في اطاره ولا اشكال في شيء من ذلك بالنسبة
إلى الجنون المطبق المستغرق لكل أوقاته وحالاته.
وأما الجنون الأدواري الذي لا يستغرق جميع أوقات الانسان وحالاته
ففي حال صحوه واستقامته ورجوعه إلى الحالة الطبيعية لا يفرق
العقلاء وحتى المتشرعة بينه وبين غيره وتشمله أدلة التكاليف في كل
ما له وعليه بلا خلاف في لك، وجاء في المجلد الأول من المستمسك
للحكيم ان بعض متأخري المتأخرين كصاحبي المفاتيح والاشارات ذهبا
إلى جواز الرجوع إليه ورجحه الحكيم في مستمسكه إن لم ينعقد الإجماع
على خلافه لعموم أدلة التقليد وشمولها لمن كان جنونه ادوارياً في
حال صحوه واستقامته.
والغريب في المقام هو أنه يصرح بأن صاحبي المفاتيح والاشارات ذهبا
إلى جواز الرجوع إليه حال صحوه واستقامته ومع ذلك يقول: لا بأس
بذلك إذا لم ينعقد اجماع على خلافه، وكيف يتحقق الإجماع المعتبر
على عدم جواز الرجوع إليه مع تصريح فقيهين من الفقهاء بعدم الفرق
بينه وبين غيره، مع العلم بأنه هو وغيره يعترفون بأنه لا دليل على
حجية الإجماع إلا إذا كان الإجماع شاملاً بنحو يطمئن لموافقة رأي
المعصوم للمجمعين، ومع وجود المخالف لا يمكن إحراز هذا الأمر كما
تقرر ذلك في محله.
وأما اعتبار الإيمان في المفتي فلا إشكال بأن العقل وبناء العقلاء
لا يقتضيان اعتبار هذا الشرط ولا فرق بين المؤمن وغيره بنظرهما ما
دام عارفاً بالأحكام ومحيطاً بأدلتها ومبانيها، ولكن الذي يعترض
بناء العقلاء وسيرتهم اتفاق الفقهاء وسيرة المتشرعة على اعتبار
الإيمان في المفتي، بالاضافة إلى بعض النصوص التي تؤكد هذا الشرط،
وقد جاء فيما كتبه أبو الحسن الثاني (ع) لعلي بن سويد: (لا تأخذن
معالم دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين
الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، انهم ائتمنوا على كتاب
الله فحرفوه وبدلوه)، كما جاء فيما كتبه الإمام أبو الحسن الثالث
(ع) لأحمد بن حاتم بن ماهويه وأخيه: (اصمدا في دينكما على كل مسن
في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء الله). ولا
وجه للمناقشة في الرواية الأولى بأن النهي عن الرجوع لغير الشيعة
من جهة عدم الائتمان لا من جهة اعتقاد الخلاف، وانه منصرف إلى
القضاة الذين كانوا يعتمدون على القياس ونحوه من الحجج الظنية في
مقابل فتوى المعصومين وأحكامهم، لا وجه لهذه المناقشة لأن الرواية
تكاد تكون نصاً في عدم جواز الرجوع في أمور الدين لغير الشيعة، وإن
مَن تعداهم ورجع إلى غيرهم فقد أخذ عن الخائنين الذين غيروا وبدلوا
ما أنزل الله على نبيه وفي كتابه، أما الرواية الثانية فلا تدل على
المدعى ويتعين حملها على الاستحباب لأن الجمود على المسنين في حب
أهل البيت لم يقل به أحد من الفقهاء بشهادة السيد الحكيم في
مستمسكه.
ومما يدل على اعتبار الإيمان في المفتي ما رواه في الاحتجاج عن
العسكري (ع) وأما مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه
مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه، وذلك لا يكون
إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فإن مَن ركب من الفواحش والقبائح
مراكب علماء السوء فلا تقبلوا منهم شيئاً ولا كرامة، فإن الخطوط
التي رسمتها الرواية لا ينطبق شيء منها على غير المؤمن.
ومهما كان الحال فالعمدة في اعتبار هذا الشرط الإجماع المدعى وسيرة
المتشرعة بالاضافة إلى الروايتين المذكورتين وإلى ما يستفاد من
غيرهما مما ورد في القضاء وغيره من الموارد المتفرقة.
وأما العدالة فلا مصدر لاعتبارها كما يبدو من المجاميع الفقهية سوى
الإجماع الذي يدعيه الفقهاء خلال حديثهم عن المفتي وشروطه وحتى إن
رواية الاحتجاج عن العسكري التي تنص على أنه لابد وأن يكون صائناً
لدينه ومخالفاً لهواه ومطيعاً لأمر مولاه، حتى هذه الرواية يقول
السيد الحكيم في مستمسكه انها ظاهرة في اعتبار الأمانة والوثوق وإن
موردها أصول الدين التي لا يجوز فيها التقليد ولا يقبل فيها الخبر
تعبداً، فلم يبق سوى الإجماع وسيرة المتشرعة المستمرة على مراعاة
هذا الشرط والاهتمام به إلى حد لو صدرت من المفتي زلة أو معصية
يرون ذلك من موانع تقليده ولا يقبلون له عذراً ولا توبة.
أما بقية أدلة التقليد كبناء العقلاء وغيره بما في ذلك آية النفر
التي عدها الفقهاء من أدلة وجوب التقليد فليس في هذه الأدلة ما
يوحي بوجوب مراعاة هذا الشرط.
والانصاف ان مجال الاستدلال على عدالة المفتي ليس ضيقاً كما يحاول
بعض الفقهاء ان يضعه بهذا المستوى بعد وجود الإجماع وسيرة المتشرعة
ورواية الاحتجاج التي وصفته بتلك الصفات التي تلتقي مع أعلى مراتب
العدالة هذا بالاضافة إلى ما ورد في القاضي مما يجب أن يتوفر مثله
في المفتي بناء على ما هو المعروف بينهم من أن جميع ما ثبت للقاضي
يثبت للمفتي ولا عكس على حد تعبيرهم.
وأما اعتبار الرجولة، فقد قال السيد الحكيم: فهو أيضاً كسابقه عند
العقلاء وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف اطلاقات الأدلة إلى
الرجل واختصاص بعضها به، ولكنه لو سلم فليس بحيث يصلح رادعاً عن
بناء العقلاء، ولعله لذلك أفتى بعض الفقهاء بجواز تقليد الأنثى
والخنثى وأضاف إلى ذلك ان اعتبار الحرية في المفتي هو المحكي عن
جماعة منهم ثاني الشهيدين بل قيل انه المشهور، ومضى يقول: بأن
مقتضى بناء العقلاء وغيره من المطلقات عدمه فلم يبق سوى بعض
الاستحسانات المقتضية لاعتبارها، مثل كونه مملوكاً لا يقدر على شيء
وكونه مولى عليه هذه الاعتبارات لا تصلح دليلاً في مقابل بناء
العقلاء والاطلاقات الشاملة للصنفين.
ولابد في المفتي بالاضافة إلى كل ذلك من كونه مجتهداً مطلقاً
واعتبار ذلك فيه هو المعروف بين الفقهاء وقد ادعى عليه الإجماع غير
واحد منهم ومقتضى ذلك عدم جواز الرجوع إلى المتجزي، ولكن أكثر
الأدلة وفي طليعتها بناء العقلاء لا تقتضي ذلك فإنهم يرجعون إلى
أهل الخبرة فيما يجهلونه في سائر أمورهم بدون تحديد لكونهم محيطين
بمهنتهم من جميع جهاتها كما هو في قضية الاجتهاد المطلق.
كما وان مشهورة أبي خديجة التي تلقاها الفقهاء بالقبول لم تشترط
أكثر من كونه عالماً بشيء من قضاياهم، وقد جاء فيها: (إياكم ان
يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم
شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا
إليه)، وتكاد تكون صريحة في جواز الرجوع في القضاء لمن يعلم شيئاً
من الأحكام، وورودها في القضاء لا يمنع من جواز الاستدلال بها على
الإفتاء لأن مَن يجوز له القضاء يجوز له الافتاء على حد تعبير
الفقهاء، كما وان هذه الرواية لا تتعارض مع مقبولة ابن حنظلة، وقد
جاء فيها انه قال سألت أبا عبدالله عن رجلين من أصحابنا يكون
بينهما نزاع في دين أو ميراث فيتحاكمون إلى السلطان أو القاضي أيحل
ذلك؟ قال (ع): مَن تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى
الطاغون وما يحكم له فإنما يأخذه سحتا وإن كان حقاً ثابتاً له لأنه
أخذ بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال تعالى: (يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به). قلت: فكيف يصنعان؟
قال: ينظران مَن كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا
وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً
فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله ورد علينا
والراد علينا راد على الله وهو على حد الشرك بالله.
ويدعي أكثر الفقهاء ان هذه الرواية لا تتعارض مع ما يسمونها مشهورة
أبي خديجة لأن قوله (ع): ينظر منكم ممن قد روى حديثنا ليس المراد
كل حديث لهم إذ من العسير جداً أن يتيسر ذلك لشخص في زمان صدور
الرواية وغيره على أنه ليس في كلام الإمام ما يشعر بأن مراده مَن
روى كل حديثنا ونظر في كل حلالنا وحرامنا وعرف كل أحكامنا لصدق
التعبير بدون تكلف أو تجوز على مَن نظر في مقدار معتد به من حلالهم
وحرامهم وعرف من أحكامهم ما يلحقه بقافلة العلماء.
وضاف السيد الحكيم إلى ذلك: إن العلماء مجمعون على عدم اعتبار
رواية جميع أحاديثهم ولا النظر في جميع حلالهم وحرامهم، وهذا
الإجماع على حد تعبيره منعقد حتى من القائلين بأن المفتي لابد وأن
يكون مجتهداً مطلقاً، ومضى يقول: فيتعين حمل الحديث والحلال
والحرام ومعرفة الأحكام على الجنس الصادق على البعض، كما وان حمل
المعرفة على الملكة كما يدعيه القائلون باعتبار الاجتهاد المطلق مع
انه خلاف ظاهر المعرفة يلزم منه التفكيك بين فقرات الرواية وسياقها
يأبى التفكيك بينها.
والانصاف ان حمل المعرفة على الملكة التي تلازم الاجتهاد المطلق
ليس غريباً ولا بعيداً عن ظاهر الرواية بل هو المعنى الصالح لها
عندما تتعلق بالأحكام، ولا يلزم منه تفكيك في فقرات الرواية كما
يدعي الحكيم وغيره لأن فقراتها الثلاثة محل الشاهد مختلفة ولكل
واحدة منها معنى يتناسب مع متعلقه، ولا يمكن أن يراد من رواية
الحديث نفس المعنى المراد من النظر في الحلال والحرام، ولا من
كليهما المعنى المراد من معرفة الأحكام التي هي عبارة عن نهاية
المطاف، لأن المعرفة الكاملة بالأحكام تتوقف على رواية الحديث
والنظر والبحث في مضامين تلك الأحاديث، وبعد ذلك يأتي دور المعرفة
بالأحكام الذي يلازم الملكة غالباً عندما تكون تلك المعرفة من
نتائج رواية أحاديثهم والنظر والتأمل فيما تضمنته من الحلال
والحرام.
ومهما كان الحال فالحديث عن تقليد العالم ببعض الأحكام عن أدلتها
وجواز الرجوع إليه فيما يعلمه إنما يصح إذا أمكن التفكيك بين العلم
بالبعض عن العلم بالكل الذي هو عبارة عن التجزي بنحو يكون مجتهداً
في بعض المسائل دون بعضها الآخر أو تكون ملكة الاجتهاد في البعض
أقوى منها في البعض الآخر، وأما بناء على أن العلم بالبعض لا ينفك
عن العلم بالبعض الآخر أو أن الملكة لا تتجزأ كما ذهب إلى ذلك
جماعة فلا يبقى مجال للبحث ولا للنزاع في هذه المسألة لعدم الثمرة
العملية بعد أن كان العلم بالبعض لا ينفك عن العلم بالكل كما
يدّعون.
* المصدر : الولاية والشفعة والاجارة