موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

الإسلاميون والهرمنوطيقا



مفردة الهرمنوطيقا كغيرها من المصطلحات الحديثة، كالفلسفة التحليلية وعلم اللغة، وفلسفة اللغة، وعلم الدلالة، لا أصل لها في أي من فروع المعرفة الإسلامية، فلم يقدم علماء الإسلام، سواء منهم المتكلمون أو الفلاسفة أو الأصوليون أو المفسرون، دراسة تتناول هذا الفن بصفة رسمية منتظمة. ولكن من الممكن أن تكون بعض الدراسات ذات الصلة بالهرمنوطيقا المحددة المعالم، قد تسربت إلى بعض مدارات الفكر الإسلامي. ونحاول في ما يلي تسليط الضوء على هذا الاحتمال. ولكن قبل أن نقدم جوانب لهذه الحالات، من الضروري الإشارة إلى أن النحل الهرمنوطيقية متنوعة، وقد تتناسب الفكرة مع نحلة هرمنوطيقية ولا تتناسب مع أخرى.
كانت الهرمنوطيقا قبل ((هايدغر)) متخصصة في النصوص بنحو حاسم. فقد استأثر التنظير لكيفية تفسير النص وتصحيح وتنقيح المنهج الصحيح لفهم النص بحصة الأسد من الجهود الهرمنوطيقية المبذولة. والهرمنوطيقا الفلسفية، رغم أنها لا تتخذ من فهم النص غاية أساسية لها، غير أنها توليه أهمية بالغة. من جانب آخر، تبدو العلوم الإسلامية بمختلف تفريعاتها، وخصوصاً الفقه والكلام والتفسير، وثيقة العلاقة بفهم النصوص الدينية وتفسيرها. وبذا ينتهج علماء الإسلام نظرية تفسيرية خاصة في مراجعاتهم للنص الديني. وطبعاً يمكن اعتبار مباحث علماء الدين المسلمين في نظريتهم التفسيرية مباحث هرمنوطيقية، حتى لو لم تمل اسم الهرمنوطيقا بصفة رسمية.
وبديهي أن ثلاثة فروع علمية من المعرفة الإسلامية، الكلام والفقه والتفسير، هي المعنية أكثر من غيرها بتشذيب وتنقيح النظرية التفسيرية الخاصة بفهم النصوص الدينية. ومن المناسب استهلال المؤلفات التي توضع في هذه الحقول العلمية بدراسات عن هذه النظرية. بيد أن المألوف هو اجتراح هذه الدراسات ضمن مجالين إثنين:
الأول والأوسع استيعاباً لهذه الدراسات هو علم الأصول، الذي يأخذ على عاتقه، بوصفه علماً تمهيدياً للفقه، تنقيح القواعد والأصول المستخدمة في استنباط الحكم الشرعي. ولا تختص كل المباحث الأصولية برسم قواعد لفهم النص، لأن الأدلة الفقهية ومصادر الأحكام الشرعية غير محدودة بالأدلة النقلية المأخوذة من الكتاب والسنة، ومع هذا فإن قسماً كبيراً من عمل الأصول يختص بقضايا فهم النص والمبادئ التي تتحكم في فهم النصوص الدينية، ومن ذلك مباحث ((الألفاظ)).
الثاني: يشير المفسرون بنحو غير منتظم في مقدمات تفاسيرهم، إلى بعض القضايا ذات الصلة بآلية فهم القرآن الكريم وتفسيره، وهي طروحات تعد هرمنوطيقية بدورها. وللتمثيل نذكر الأسلوب التفسيري للمرحوم الطباطبائي في تفسير الميزان، فهو بإطلاقه أسلوب تفسير القرآن بالقرآن، قدم فكرة تفسيرية مختلفة. ولنا أن نقارن هذه النظرية التفسيرية بالنسق الفكري للأخباريين الذين لا يرون الآيات القرآنية مستقلة في دلالتها على القصد، ويعتبرون القرآن مختلفاً عن الحوارات العرفية، ويؤكدون أن الله لم يهدف إلى تفهيم مراده بواسطة الآيات القرآنية في حد ذاته، إنما يتحتم الاستعانة بروايات المعصومين للتوافر على التفسير الصحيح ومعرفة مرامي الآيات القرآنية. هذا التنظير التفسيري الذي يرسي الدعائم الأولى لتنوع أساليب التفسير، نمط من أنماط الطرح الهرمنوطيقي. كما أن ميول طائفة من العرفاء والصوفية لتفسير القرآن أنفسياً، وعدم الاكتفاء بالظواهر اللفظية، ونزوعهم إلى إضفاء مسحة رمزية على الآيات القرآنية، هو الآخر نوع من لاميول الهرمنوطيقية، له خلفياته عند فريق من اللاهوتيين المسيحيين.
يقوم التفسير الرمزي (Allegorical) للنصوص على قبلية أن لغة النص تبتعد عن لغة التحاور الدارجة، وتتلبس أغلفة كنائية رمزية متكاثفة، لذا يجب التوغل إلى المعاني الحقيقية الكامنة وراء هذه الرموز والتمثيلات، ولا يتعذر على المعاني الظاهرية للألفاظ تقديم العون لنا في استكناه المعنى الحقيقي وحسب، بل تمثل معوقات تعرقل جهودنا في هذا السبيل.
الجدير ذكره أن نظرة الهرمنوطيقا الفلسفية للفهم بصفة عامة، وفهم النصوص على وجه خاص، تعد نظرة مبتكرة غير مسبوقة، والنقاشات التي تطرحها هذه الهرمنوطيقا على بساط البحث لا جذور لها في آراء المفكرين الإسلاميين.
إذن لا يمكن تحري وجهات نظر في الدراسات الإسلامية تمت بصلة إلى الهرمنوطيقا الفلسفية أو تكون قريبة منها، بل إن النظرية التفسيرية الشائعة بين علماء الدين المسلمين، تقف على مستوى الضد من نتائج الهرمنوطيقا الفلسفية على صعيد فهم النص، إلا أنها تتناسب بصورة واضحة والطروحات الهرمنوطيقية السابقة للهرمنوطيقا الفلسفية، كما تشتمل على أوجه شبه كثيرة مع هرمنوطيقا عصر التنوير والهرمنوطيقا الحديثة لـ ((شلاير ماخر)) وأتباعه في القرن العشرين، بصرف النظر عن مواطن افتراقها عن كل واحدة من هذه المدارس الهرمنوطيقية.
* المصدر : المحجة / العدد السادس / 2003 م

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع