إن المسائل التي طرحت في الأدلة والمصادر الاجتهادية على نوعين:
بديهية ونظرية:
أما في النوع الأول: فلم يقع فيه خلاف بين فقهاء المذاهب الإسلامية
مثل: وجوب الصلاة والصوم والحج وحرمة أكل المال بالباطل والربا
والزنا وإباحة الطيبات وحرمة الفواحش، إذ جاءت هذه الأحكام في
منابع
الشريعة بطريقةٍ واضحةٍ في جانب الإيجاب والتحريم والإباحة،
واستنباطها من أدلتها لا يحتاج إلى إعمال النظر والاجتهاد فيها،
ولذا تكون حقائق ثابتةً في جميع الأزمنة ولا تتغير مهما تغير
الزمان والمكان
والأحوال إلى يوم الدين، لعدم كونها مبتنيةً على الاجتهاد حتى
يقال: إن الأحكام المبتنية عليه تتحول بتحول الزمان والمكان
والأحوال.
أما في النوع الثاني: فقد وقع الخلاف بين علماء المذاهب فيه:
كشرائط الواجبات وأجزائها وموانعها، لعدم مجيئها في الأدلة
والمصادر الاجتهادية بطريقةٍ واضحةٍ، بل جاءت على نحوٍ صالحٍ لأن
تختلف فيه الأفهام
وتتعدد فيه وجهات الأنظار، وهذا النوع من المسائل الفرعية جعلتها
الشريعة موضع اجتهاد المجتهدين، إذ لا يمكن استخراج الأحكام من
مصادرها بدون الاجتهاد وإعمال النظر، ولذا تكون هذه الأحكام غير
ثابتةٍ
وقابلةً للقبض والبسط، لكونها مبتنيةً على الاجتهاد، وبتحول الزمان
والمكان والأحوال تتحول تلك الأحكام على أساس المنابع.
ومهما يكن من أمرٍ فالخلاف في المسائل الفرعية النظرية بين العلماء
أمر طبيعي ويعمّ جميعها، سواء كانت فقهيةً أو غيرها، بل لا يختص
هذا الخلاف فيها بعلماء المسلمين، بل يعم علماء سائر الفرق
والأديان.
ومن المناسب هنا أن أذكر نماذجاً لذلك، فنقول: إنه لم يختلف أحد من
علماء المسلمين في أن الأرجل من أعضاء الوضوء، لوضوح دليله وهو
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم
وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... )
المائدة/ 6.
وإنما وقع الخلاف بينهم بالنسبة إلى كيفية طهارتها (من جهة عدم
التصريح بها في الآية في أنها المس أو الغسل أو التخيير بينهما أو
الجمع).
ففي هذه المسألة آراء ونظرات:
منها: المسح، واختاره فقهاء الإمامية وعدة من فقهاء الصحابة
والتابعين مثل: ابن عباس وعكرمة وأنس والشعبي وأبي العالية، من دون
فرق بين قراءة الأرجل في الآية بالجر والنصب.
ومنها: الغسل، واختاره فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية
والأوزاعية والسفيانية والإباضية والتميمية والنخعية والليثية و
... على كلتا القراءتين.
ومنها: التخيير بين المسح والغسل، واختاره الثورية والبصرية
والظاهرية والجريحية، لعدم الدليل على ترجيح إحدى القراءتين على
الأخرى.
ومنها: الجمع بين المسح والغسل، واختاره بعض علماء الظاهرية
والناصر للحق من أئمة مذهب الزيدية، لتعدد قراءة الأرجل، ووجود
العلم الإجمالي بين المسح والغسل، وهو يقتضي الجمع بينهما.
وهنا مثال آخر: أنه لم يختلف أحد من علماء المذاهب في أن الاستطاعة
موضوع لوجوب الحج لوضوح دليله وهو قوله تعالى: (ولله على الناس حج
البيت مَن استطاع إليه سبيلاً ومَن كفر فإن الله غني عن العالمين)
آل عمران/ 97، وإنما الخلاف وقع بينهم في أن المراد منها هل هو
العقلية أو الشرعية أو العرفية وذلك لعدم التصريح في الآية بأحدها؟
فمنهم: مَن يعتقد بأن المراد منها هو: العقلية، وهو ما ذهب إليه
مالك بن أنس الأصبحي إمام مذهب المالكية، لاعتقاده بأنها المستفادة
من ظاهر الآية، ولزوم حمل الأخبار الواردة في تفسيرها بالزاد
والراحلة، وتخلية
السرب على ما إذا لم يتمكن من الحج بدونها.
ومنهم: مَن يعتقد بأن المراد منها: العرفية، وهو منسوب إلى السيد
المرتضى علم الهدى، لاعتقاده بأن الأخبار الواردة في تفسيرها لا
تدل على أزيد من الاستطاعة العرفية.
ومنهم: مَن يعتقد بأن المراد منها هو: الشرعية، وذهب إليه فقهاء
الإمامية والحنفية والشافعية والحنبلية وغيرهم، للأخبار المروية في
تفسير الاستطاعة بأنها القوة في البدن واليسار في المال أو أنها
الزاد والراحلة
وتخلية السرب والرجوع إلى الكفاية.
ومثال ثالث: لم يختلف أحد من علماء المذاهب الإسلامية بأن الموسيقى
الغنائية حرام إذا اقترنت بشيء من المعاصي والمحرّمات، أو اتخذت
وسيلةً للحرام، وإنما وقع الخلاف بينهم إذا لم تقترن بأحد المعاصي
والمحرمات، فذهب الإمام الشافعي والغزالي والنابلسي والشيخ شلتوت ـ
في رسالته الفتاوى ـ إلى عدم حرمته، كما ذهب إليه من الإمامية
الفيض الكاشاني والمحقق السبزواري، وذهب الإمام أبو حنيفة ومالك
وأحمد
ابن حنبل وابن الجوزي والجزيري ـ صاحب الفقه على المذاهب الأربعة ـ
إلى حرمته.
وقد تحققنا في محلّ هذا البحث بعدم التنافي بين هذين النظرين، لأن
مراد القائلين بحرمتها في حد نفسه هو الغناء بالمعنى الشرعي الذي
جعل موضوعاً للحكم الشرعي، وهو مركب من الصوت على النحو اللهوي.
هذا إذا كان من مقولة الكيف المسموع العارض على الصوت، أو كونه
مشتملاً على الكلام الباطل إذا كان الغناء من مقولة الكلام.
وأما مراد القائلين بعدم حرمته في نفسه هو: الغناء بالمعنى اللغوي
الذي لم يجعل موضوعاً للحكم الشرعي حسب تحقيقي في هذه المسألة، وهو
بسيط غير مركب، وهذا المعنى أعم من المعنى الأول، لشموله لكل
صوت حسن، ورد الأمر في بعض الأحاديث بالتغني بالقرآن الذي هو:
عبارة عن تحسين الصوت الذي لا يمكن تحققه بدون ترجعيه. وكيف كان،
فعلل اختلاف علماء المسلمين في المسائل النظرية الفرعية عبارة
عما يلي:
1 ـ الاختلاف في بعض المصادر والأدلة الاجتهادية، إذ لم يتفق رأي
جميع المذاهب على اعتبار كل المصادر والأدلة، بل وقع الخلاف بينهم
في بعضها، ومن المناسب أن أذكر هنا نماذجاً لذلك:
منها: الاستحسان: فإن الإمام أبا حنيفة يعتبر الاستحسان ـ الذي
أسسه عبدالله بن عمر ـ من مصادر التشريع، بينما الإمام محمد بن
إدريس الشافعي والإمامية والظاهرية والأوزاعية والثورية لا
يعتبرونه منها، وأن
الشافعي قد ألّف كتاباً في إبطال الاستحسان ونقده ضمن عبارات لاذعة
حيث قال: (الاستحسان تلذذ، ومَن استحسن فقد شرّع) أراد أن يكون
شارعاً (أي: المجتهد).
ومنها: المصالح المرسلة والسيرة العملية لأهل المدينة وسد الذرايع
وفتح الذرايع، فإن الإمام مالك قد تبناها كأصل للتشريع، والإمامية
والحنفية والليثية والثورية والأوزاعية لم يقبلوها على إطلاقها،
وأحمد بن حنبل
علّق قبولها في الحالات الضرورية.
ومنها: قاعدة الاستصلاح: فهي معتبرة عند أتباع المذهب الحنفي ـ وهم
الذين أسسوه بعنوان أصلٍ للتشريع ـ وغير معتبرة عند غيرهم.
2 ـ الخلاف في شروط الأدلة: ومن ذلك: أن أبا حنيفة ـ على ما هو
المعروف ـ يعتبر التواتر من الشرائط في اعتبار الخبر، ولكن الشافعي
ومالك وفقهاء الشيعة الإمامية ـ عدا الشريف المرتضى ـ وأحمد بن
حنبل لا
يرونه شرطاً من شروط اعتباره، بل اعتبروا في اعتباره الوثوق ولو
كان من أخبار الآحاد، وحتى أحمد بن حنبل كالأخباريين من الشيعة لم
يعتبروا في اعتبار الخبر للتواتر ولا الوثوق والاطمئنان.
3 ـ الخلاف في نوعية الدليل: أن أئمة المذاهب اتفقوا على اعتبار
قياس الأولوية والمنصوص العلة، وإنما وقع الخلاف بينهم في نوع خاص
من القياس، وهو قياس التمثيل والتشبيه، وقد ذهب الحنفية والنخعية
ومذهب ابن أبي ليلى إلى اعتباره من مصادر التشريع، ولكن فقهاء
الإمامية والظاهرية والثورية والأوزاعية ذهبوا إلى عدم اعتباره من
مصادره.
4 ـ الخلاف في مرحلة الاستظهار والاستنباط من الأدلة، وقد ذكرنا
نماذج لذلك في صدر المبحث.
5 ـ الخلاف في كيفية اعتبار الدليل كالإجماع، فإن أئمة المذاهب
الأربعة يعتبرونه في نفسه حجةً، وينظرون إليه بعنوان أصل مستقل،
ولكن الشيعة الإمامية لا ينظرون إليه بعنوان أصل مستقل فلا
يعتبرونه في نفسه
حجة، بل يقولون باعتباره إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم، ومن ذلك
أيضاً: الاجتهاد، إذ الأئمة الأربعة يعتبرونه من طريق الرأي
والتفكر الشخصي أصلاً مستقلاً في نفسه، ولكن فقهاء الشيعة يرفضون
هذا. وبتعبير
آخر: أن الأئمة الأربعة يعتبرون الاجتهاد غايةً، والشيعة تعتبره
وسيلةً لإعماله في مصادر التشريع لاستنباط الأحكام الشرعية للحوادث
الواقعة والموضوعات المستحدثة.
6 ـ الاختلاف في التمسك بظاهر الألفاظ الوارد في الأدلة الاجتهادية
والجمود عليها وعدم الجمود.
7 ـ الاختلاف في الاقتصار على العناوين الواردة في العناصر الخاصة
للاستنباط وعدم الاقتصار عليها.
8 ـ الاختلاف في الاقتصار على الموضوعات المأخوذة في لسان الأدلة.
9 ـ الاختلاف في لزوم الملاحظة والتحقيق حول شرائط الموضوعات في
طول الزمان وعدم لزوم ذلك.
10 ـ تعارض الأحاديث، سيما الأحاديث التي ترتبط بشرائط الأحكام
وأجزائها وموانعها التي رُويت بواسطة أو بوسائط. ولتعارض الروايات
أسباب نذكر أهمها:
أ ـ اختلاف الصحابة في ضبط أحاديث الرسول (ص).
ب ـ اختلاف الصحابة في مراتب حفظ الحديث.
ج ـ عدم حضور جميع الصحابة في كثير من الأوقات التي كان الرسول (ص)
يحدِّث ويبين الأحكام الإلهية، وهذا يسبب عدم استيعاب جميعهم لتمام
الحديث، فالذي حضر في ابتداء كلام الرسول (ص) كان يستوعب
كلامه كله، لكن الذين حضروا أثناء المجلس أو أواخره لم يستوعبوا
جميعه، ولذا نرى أن الصحابة بعد عصر الرسول (ص) وبعد تفرقهم في
البلاد يروون عنه في مسألة واحدة أحكاماً مختلفة، فالصحابي المدني
ينقل
عنه غير ما كان ينقله المصري، والصحابي الشامي يروي عنه غير ما
يرويه زميلاه، وهذا الخلاف في النقل ربما يعود إلى المدني الذي
استمع من الرسول حكماً لم يسمعه المصري، أو أن الصحابي المصري سمع
حكماً لم يسمعه الشامي، أو أن الشامي تلقى عن النبي (ص) حكماً لم
يتلقاه الكوفي، وهكذا.
د ـ عدم التفات بعض الرواة إلى القرائن الحالية التي كانت تصحب
كلام الرسول (ص)، والتفات بعض الرواة إليها.
هـ ـ عدم التزام جميع الرواة نقل نفس الكلمات والجمل التي نطق بها
النبي (ص).
و ـ محو بعض القرائن المقالية التي كانت تقترن بالحديث.
ز ـ نقل الروايات بالمعنى من ناحية الرواة.
ح ـ تقطيع الحديث على يد الراوي بحيث نقل صدر الحديث دون ذيله أو
بالعكس.
ط ـ صدور الحكم متدرجاً أحياناً في بعض الروايات.
ي ـ ورود بعض الأحكام أولاً بصورة مجملة، ثم وروده بصورة تفصيلية.
ك ـ عدم الوضوح في الناسخ والمنسوخ.
ل ـ وضع وجعل الروايات على أساس النزعات الاجتماعية والسياسية على
مستوى واسع، وقد صرح العلماء في دراية الحديث وعلم الرجال بأنه وضع
أكثر من 50000 حديث، وكانت الأحاديث الموضوعة سبباً
لنقد الحديث وجعله في ميزان النقد على معايير خاصة ليميزوا الأصيل
من الموضوع، وفي أثر ذلك دوّن علم الرجال وعلم الحديث.
ولا يخفى أن الأسباب التي تقدم ذكرها وإن أوجبت الخلاف بينهم في
المسائل الفرعية النظرية ولكن مع ذلك في أكثرها مجال للتقريب. وأما
في بعضها وإن لم يكن التقريب ولكن لا يختص هذا الخلاف بمذهب دون
مذهب، بل يعمّ جميع المذاهب، وهذا دليل على عدم كون منشأ الخلاف هو
المذهب، بل المنشأ فيه هو كونها نظرية، والاختلاف في المسائل
النظرية أمر طبيعي، فليس منشأ الخلاف فيها الهوى والتعصب، بل يكون
منشؤه أصول الشريعة ومصادرها التي يجب على الفقهاء والمجتهدين
الاعتماد عليها في مقام استنباط الأحكام للحوادث الواقعة
والموضوعات المستحدثة، إذ الفقهاء وإن اعتقدوا بأن كتاب الله هو
المصدر الأول وسنة
رسول الله هي المصدر الثاني لاستنباط ولكن من جهة اختلافهم في
أفهامهم وفي قواعدهم النظرية واختلاف أهل اللغة في بعض الكلمات
الواردة في هذين المصدرين واختلاف القراء في قراءة بعض الكلمات في
المصدر الأول، واختلاف الرواة في نقل الروايات وتعارضها، وفي
اعتبار رواية عند فقيه، وعدم اعتبارها عند الآخر، وفي وثوق مجتهد
على راو، وعدم الوثوق به عند مجتهد آخر في المصدر الثاني صار
موجباً
للاختلاف بين الفقهاء في المسائل النظرية، وهذا الاختلاف في نفسه
ليس خطراً على الأمة.
أما أولاً: لأن هدفهم فيه واحد، وهو الوصول إلى حكم الله ورسوله.
وأما ثانياً: فلأنه يوجب توسعة الفقه من ناحية المصاديق، ولهذه
الفائدة قالوا: ((رحمة الأمة في اختلاف الأئمة))، أو ((اختلاف
أصحابي لأمتي رحمة))، أو ((اختلاف أصحابي رحمة))، أو ((اختلاف
الصحابة في حكم
اختلاف الأمة))، أو ((اختلاف أمتي رحمة)).
ومهما يكن من أمر فالاختلاف في المسائل الفرعية بين الفقهاء ليس
خطراً، وإنما يكون خطراً إذا صار سبباً للنزاع الذي حذّر الله منه
بقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع
الصابرين)
الأنفال/ 46.
أو صار موجباً للتفرقة التي نهى الله عنها بقوله: (واعتصموا بحبل
الله جميعاً ولا تفرقوا) آل عمران/ 103.
إن إخواننا أهل السنة وإن لم يعتقدوا كالشيعة بأن أئمة أهل البيت
أئمة منصوص عليهم ولكن يحبونهم ويعتقدون في حقهم بأنهم أئمة في
العلم والدين، وأنهم سادة لهم فضلهم في الأمة ومكانتهم في الإسلام.
ولذا نحن
نعتقد بأن المسلمين كلهم سنيون وكلهم شيعة. أما كونهم سنيين فلأجل
أنهم يعملون بسنة رسول الله. وأما كونهم كلهم شيعة فلأجل أنهم
يحبون أهل البيت.
وأما بعد وفاة رسول الله وإن اختلف طريق الشيعة وطريق أهل السنة في
الوصول إلى سنة رسول الله إذ الشيعة اعتقدوا بأن سنة أئمة أهل
البيت موجب لتداوم سنة رسول الله، والسنة اعتقدوا بأن سنة الصحابة
موجب لتداوم سنة رسول الله، ولكن هدفهما واحد ومشترك، وهو سنة رسول
الله، فكلنا مسلمون.
قال الإمام الخميني رضوان الله عليه: (والذين يُثيرون الخلاف بين
المسلمين ليسوا من السنة ولا من الشيعة).
وقال قائد الثورة الإسلامية آية الله الخامنئي (دام ظله): (إن
الذين يدعون إلى وحدة المسلمين ليسوا بأعداء الإسلام، وأنهم يريدون
الخير لأتباع دينهم ... ، وقال: اعلموا، أن أعداء الإسلام يتربصون
بكم الدوائر للنيل
من وحدتكم، فكونوا على حذر، لا تسمحوا لبروز الخلافات بينكم،
حاذروا من الأمور الموجبة لها والتي يستطيع الأعداء أن يجعلوا منها
مستنداً لزرع الفرقة ... ).
إن المسلمين اليوم بأمسّ الحاجة إلى الوحدة، إذ أن وضعهم وسيرتهم
تكون أخطر وأدق مما كانوا عليه زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم
الأوائل، إذ كلهم يعلمون أن سياسة أعداء الإسلام في هذا الزمان غير
سياستهم
في تلك الأزمنة، وذلك لأن سياستهم لا تقوم في زماننا على المعاهدة
والمفاوضة والاتفاق والحب والبغض والصدق والكذب، بل تقوم على القوة
للاستيلاء على ثروات المسلمين، وأن سياستهم لا تعتمد على أسس ثابتة
ولا على منطق سليم، بل تتلون وتتغير وتتبدل حسب مصالحها ومطامعها
وتتكيف حسب رغباتها، ولا تتبع القوانين، وإنما تتبع مصالحها
الخاصة، ورأى المسلمون أن الولايات المتحدة الأمريكية تهتم بسياسة
المواقع
الاستراتيجية لرفع مستوى بلادها في جميع ميادين الحياة، وأنها قد
كرست جهودها على إيجاد الثغرات والفتن والويلات في البلاد المتحررة
التي لا تخضع لسياستها، ولذا فقدت كثير من البلدان الاستقرار،
وسادتهم
الاضطرابات، وليس عندهم رأفة ولا يعرفون الرحمة، ولا يؤمنون بمصالح
الشعوب والإنسانية وهم يدعون تقرير حقوق الإنسان في قوانينهم، ولكن
لا يجف قلمهم حتى يسعوا لجعل عدة من الدول معرضة للأخطار
والدمار في صميم أوطانهم، وطرد مئات الآلاف من بني الإنسان من
ديارهم، ليكونوا فريسة الجوع والجهل والمرض، ومحرومين من الحرية
والاستقلال وهم يدعون أنهم ضد التمييز العنصري والطائفي، ولكنهم
يسدون آذانهم تجاه فلسطين وشمال أفريقيا وجنوبها والبوسنة والهرسك
وكشمير وأفغانستان وجميع الزنوج والمسلمين في آفاق العالم، كأن
هؤلاء ليسوا من بني الإنسان الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وهم
يدّعون حرمة
القتل والحرق والتدمير، ويتوعدون المخالفين لذلك بأشد أنواع
الجزاء، ولكن يخالفون في ذلك تجاه المسلمين في أنحاء العالم،
ويفرحون بما يفعل الصرب في البوسنة والهرسك، واليهود في فلسطين
ولبنان تجاه
المسلمين، وكأن دم المسلمين وكرامتهم لا تدخل في منطوق قراراتهم.
وكيف كان، فنحن نعلم أن انتصار المسلمين الأوائل على أعدائهم لم
يكن إلا حين ما كانوا يداً واحدة وتمكنوا بها على نشر دين الله
وإعلاء كلمة الله، وهداية البشرية وإخراجهم من عبادة الأوثان إلى
عبادة الرحمن،
ومن جور الطغيان إلى عدل الإسلام، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم،
ومن الكفر إلى الإيمان. فيجب عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم مع
الاستعانة بالله، ولا يعتمدوا لا على الغرب ولا على الشرق، ويتركوا
خلافاتهم
ويرصوا صفوفهم، ويجمعوا كلمتهم في مقابل أعداء الإسلام لردّ
عدوانهم عن المسلمين في جميع أنحاء العالم، ولإنقاذ أراضي المسلمين
من أيديهم، وخاصة أرض فلسطين، لترفرف عليها راية الإسلام مرة أخرى،
وينشد المسلمون نشيدهم المدوِّي (الله أكبر) عليها. فبالاتحاد ونبذ
الخلاف يذهب الحزن والخوف، ويحل النظر كما قال تعالى: (ولا تهنوا
ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران/ 139.