موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

د. سمير عالية
خصائص القواعد الشرعية



ـ تعريف القاعدة الشرعية وبيان خصائصها:
تعرّف القاعدة الشرعية بأنها ((القاعدة التي تستفاد من القرآن والسنة النبوية والمصادر الأخرى المعتبرة شرعاً، والتي تنظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع بتبيان ما لهم من حقوق وما عليهم من التزامات
وحدود. يجب عدم تجاوزها وإلا تعرضوا للجزاء الشرعي الذي يستحقونه)).
ويعرّفها البعض بأنها ((كلمة من الله في صورة خطاب لتنظيم الأفعال الإنسانية والأقوال وحتى الأفكار والنيات. وهذا الخطاب يُعبر عن إقرار الله لبعض الأفعال على أساس أصل الإباحة، وأمره بإتيان بعض
الأعمال ونهيه عن مقارفة البعض الآخر، وتبيان الجزاء في حالة مخالفة هذا الأمر أو النهي)).
والحقيقة أن مفهوم القاعدة الشرعية هو ذات مفهوم الحكم الشرعي، ولا يوجد أيفرق بين القاعدة الشرعية والحكم الشرعي سواء التزمنا بنظرة الأصوليين في اعتبار لفظ الحكم الشرعي علماً على ذات خطاب
الشارع،أو جارينا نظرة الفقهاء الجهة كون الحكم دالاً على أثر خطاب الله تعالى. وإذا قيل أن ثمة فرقاً يوجد بين القاعدة والحكم، لأن الحكم هو القاعدة التي تدخل مجال التطبيق الإلزامي بالنص عليها في التشريع أو
بالنص على اعتبارها مصدراً للأحكام، وإنها إن لم تكن كذلك أضحت غير واجبة الاتباع كبعض القواعد الفقهية. فإنه يُرد على ذلك، بأن القاعدة لا توصف بأنها قانونية إن لم تفد حكماً يلتزم الناس به، كما أن القاعدة
الشرعية يجب إتباعها امتثالاً لإرادة الله تعالى.
والواقع أيضاً أن مفهوم الحكم الشرعي يصلح للتعبير عن القاعدة الشرعية والقاعدة القانونية الإسلامية بذات الوقت. والدليل على ذلك أن علماء الأصول عندما بحثوا موضوع الحكم الشرعي تناولوه بمعنى القاعدة
الدينية والقاعدة القانونية بآن واحد. فقسموه إلى حكم تكليفي وحكم وضعي، ودرسوا تحت النوع الأول الأفعال الواجبة والمندوبة والمباحة والمكروهة والمحرمة، كما درسوا تحت النوع الثاني الأفعال الصحيحة
والأفعال الفاسدة والباطلة، ومواضيع الشروط والأسباب والموانع والرخص والعزائم وما أشبه. وفصلوا أيضاً أسباب التكليف وشروطه، وأهلية المكلفين وعوارض الأهلية، بصورة واحدة مبدئياً للناحيتين الدينية
والقانونية. ومن ثم طبقوا هذه القواعد والضوابط على العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة، كما طبقوها على التصرفات القولية كالعقود، وعلى التصرفات الفعلية كالإتلاف.
وأثناء دراسة الحكم الشرعي استشهد علماء الأصول والفقهاء بأمثلة من مسائل الدين والمعاملات القانونية معاً. واستعملوا ذات التعابير في كل القواعد والمسائل. وهي بتأثير أحكام المعاملات القانونية، تنم عن الصفة
الشرعية أو الانضباطية القانونية وحتى في مسائل الأخلاق، بحث العلماء المسلمون في الفضائل والرذائل، وعينوا حدودها وقيودها وشروطها، كما لو كانت قواعد قانونية. فاعتبروا الصدق مثلاً من الفضائل،
والكذب من الرذائل.
نخلص من ذلك إلى القول بأنه تصح المقارنة بين القاعدة الشرعية (أو الحكم الشرعي) وبين القاعدة القانونية، لأن كلاً من القاعدتين تتضمنان حكماً يلزم الناس به وهو واجب الاتباع امتثالاً لإرادة الله أو لإرادة
القانون.
هذا وتفترض القاعدة الشرعية (الحكم الشرعي) وجود الحاكم والمحكوم فيه والمحكوم عليه. أما الحاكم فهو الذي يصدر عنه الحكم الشرعي وهو الله تعالى، فلا حكم إلا ما حكم به ولا شرع إلا ما شرعه، وعلى هذا دلّ
القرآن وأجمع المسلمون، ففي القرآن قوله تعالى: (إن الحكم إلا لله) سورة الأنعام/ آية 57. وأما المحكوم فيه فهو ما ينصب عليه الحكم الشرعي، بشموله إلى الحكم العملي وحده، من قول أو فعل أو اعتقاد أو أخلاق.
ويشترط فيه أن يكون معلوماً علماً تاماً حتى يتصور قصده إليه وقيامه به كما طُلب منه، والمراد بالعلم علم المكلف فعلاً أو إمكان علمه بالسؤال عما كلف به. كما يُشترط أن يكون في مقدور المكلف، فلا تكليف
بالمستحيل وما يخرج عن إرادة الإنسان. وأما المحكوم عليه فهو الإنسان المكلف بالحكم الشرعي، ويُشترط فيه أن يكون أهلاً للتكليف. والأهلية قسمان: الأولى ـ أهلية الوجوب، وتعني صلاحية المكلف لوجوب
الحقوق المشروعة له أو عليه. والثانية ـ أهلية الأداء، وتعني صلاحية المكلف لصدور الفعل منه على وجه يعتد به، ومناط أهلية الأداء التمييز والعقل، فمن كان مميزاً أي أتم السابعة من عمره، تمتع بأهلية أداء
ناقصة، ومَن بلغ عاقلاً توافرت لديه الأهلية الكاملة.
ويُعرف البلوغ بظهور علاماته فإن لم يوجد منها شيء تحدد البلوغ بالسن، وسن الرشد هو تمام الثامنة عشرة من العمر للذكر وتمام السابعة عشر للأنثى في رأي الإمام أبي حنيفة، وتمام الخامسة عشرة لكليهما في
رأي الصاحبين أبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو الرأي الغالب والمفتي به.
بيان خصائص القاعدة الشرعية: من التعريف السابق للقاعدة الشرعية يمكن استخلاص الخصائص الجوهرية التالية:
أولاً ـ القاعدة الشرعية أصلها سماوي وطابعها ديني:
جاء الشرع الإسلامي من عند الله، فهو مصدره. فقد تنزل عن طريق الوحي الإلهي معنى ولفظاً في صورة آيات قرآنية، أو جاء وحياً بالمعنى دون اللفظ في صورة سنة للنبي (ص). وما جاء من قواعده عن طريق
الاجتهاد فقد استفيد منه بالواسطة واستناداً إلى القرآن والسنة. فأصل الشرع القرآن الكريم، وهو دين وقانون معاً. فالقاعدة الشرعية، التي هي مفرد الشرع والوحدة التي يتكون من مجموعها، تستمد من الشرع أصلها
السماوي، وهي في ذلك تختلف عن القاعدة القانونية التي تكون من عمل الإنسان فرداً أو هيئة أو مجتمعاً، إلا إذا اعتبرت القاعدة الشرعية قاعدة قانونية في الوقت ذاته.
ولأن الشرع الإسلامي مصدره الله، والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق الذي هو من لوازم ذاته، فقد تميزت قواعد الشرع عن غيرها من القواعد الاجتماعية ومنها قواعد القانون، بموافقتها للعدل والحق والصواب،
وبعصمتها من الخطأ والنقص والجور والهوى الشخصي.
ثانياً ـ القاعدة الشرعية قاعدة السلوك:
تتفق القاعدة الشرعية مع القاعدة القانونية في أنها قاعدة سلوك، فهي تحدد سلوك الفرد وتحكم واجباته في حياته على نحو ما يجب أن يكون عليه. هذا مع الملاحظة بأن القاعدة القانونية تحدد فقط سلوك الفرد في
علاقته بغيره من الناس، بينما تنظم القاعدة الشرعية واجب الفرد نحو ربه وتجاه نفسه وحيال غيره من الناس. ومقتضى هذا أن القاعدة الشرعية تطالب المكلف بأكثر مما تطالب به القاعدة القانونية، بحيث تجعله
بالعقيدة وبالأخلاق يسمو نحو الكمال الروحي والأخلاق الفاضلة.
كذلك تتفق القاعدتان في أن كلاً منهما، في توجيهها لسلوك الأفراد، تتضمن إباحة فعل أو أمراً بفعل أو نهياً عن فعل. فالحكم الشرعي التكليفي إما مباح، وإما واجب أو مندوب، وإما محرم أو مكروه.
ثالثاً ـ القاعدة الشرعية تحكم ظاهر السلوك وباطنه:
إذا كان مقياس الحكم على سلوك الفرد في ظل القانون الوضعي هو ظاهري أو خارجي فحسب، فيقف عند المظاهر المادية ولا يتعداها إلى النوايا الكامنة في النفس. فإن الأمر على خلاف ذلك في نظر الشرع
الإسلامي حيث إن مقياس الحكم على التصرفات هو مقياس مزدوج: ظاهري أو خارجي يحاسب الإنسان على ظاهر سلوكه وآثاره، وباطني أو داخلي ينفذ إلى داخل النفس ويكشف عن مقاصدها. فإذا سلم الشخص
من الحساب القضائي الدنيوي لسلامة تصرفه وسلوكه في الظاهر، فإنه يُعتبر آثماً شرعاً إذا كان مقصده سيئاً ونيته خبيثة.
فمن جهة أولى إن ما تأخذ به القاعدة القانونية لجهة حكمها للسلوك الخارجي للأفراد لا تأباه القاعدة الشرعية بل هي تقرره أيضاً. ذلك أن الشخص إذا نوى أمراً ولكن هذه النية لم تقترن بالفعل بل ظل أمر النية في
زوايا النفس، قاصراً على مجرد الهواجس والوساوس، فإن الإسلام لا يؤاخذ الشخص على ذلك. وفي هذا المسلك رحمة بالناس لأن التجرد عن التفكير ومنه السيئ، أمر غير ممكن، فأخذ الإنسان لمجرد التفكير في
أمر معين هو تكليف بما لا يستطاع فلزم رفع الحرج، ولذلك يقول تعالى: (لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) البقرة/ 286، يعني أن لها أجر ما كسبت من خير وعليها وزر ما أتت من شر.
وقول الرسول (ص): ((أُمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر))، ويقول كذلك: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به)). ويقول أيضاً: ((مَن همّ بحسنة فلم يفعلها كُتبت له حسنة،
ومَن همّ بسيئة فلم يفعلها لم يُ:تب عليه شيء)). وبهذا يكون الإسلام، كما هو حال القانون، قد رفع الإثم والعقاب عن حديث النفس السيئ الذي وقف عند هذه الحدود.
ومن جهة ثانية، فإن الشرع الإسلامي لا يكتفي بحكم السلوك الخارجي للأفراد، وإنما ينفذ أيضاً إلى داخل النفس ويكشف عن مقاصدها، ليحكم كذلك قصد الإنسان في تصرفه. فالبيع مثلاً في ظاهره هو نقل ملكية
المبيع مقابل الثمن، وهو من ناحيته الباطنية متوقف على قصد المتعاقد فيوصف بأنه مباح أو مندوب أو حرام. فإذا كان البيع مثلاً لحاجة البائع إلى الثمن كان مباحاً، وإذا كان لاستثمار المال كان مندوباً، وإذا كان
وسيلة لأكل الربا كان حراماً لا ينبني عليه الفساد في رأي بعض الفقهاء، وإنما تكون المؤاخذة عليه يوم القيامة. وعلى هذا الأساس، من خالف القواعد الشرعية واستطاع أن يفلت من الرقابة الدنيوية، فإنه لن يفلت من
الرقابة العليا للخالق العليم الذي يعلم ما تخفي الصدور.
رابعاً ـ القاعدة الشرعية خطاب يوجه إلى الأشخاص في مجتمع:
وكون القاعدة القانونية خطاباً يتفق مع ما يقرره الأصوليون في الشرع الإسلامي في الحكم الشرعي من أنه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً. فقوله تعالى: (أوفوا بالعقود) هو خطاب من
المشرع متعلق بالإيفاء بالعقود طلباً لفعله. وقوله: ((لا تقتلوا النفس)) هو خطاب متعلق بالقتل طلباً لتركه. والطلب والترك يقابلان الأمر والنهي. ومثال كون الحكم الشرعي تخييراً قوله تعالى: (فإذا قُضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض) الجمعة: 10. ومثال الخطاب على سبيل الوضع (أي جعل الشيء سبباً لآخر أو شرطاً له أو مانعاً منه) قوله تعالى: (السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) المائدة: 38، فإنه خطاب
بجعل السرقة سبباً للعقوبة.
والقاعدة الشرعية خطاب موجه للأشخاص، والشخص هو مَن كان صالحاً لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، سواء كان إنساناً فيسمى بالشخص الطبيعي، أو كان غير الإنسان فيسمى بالشخص المعنوي.
وما دام إن الإنسان كائن اجتماعي، فالقاعدة الشرعية شأنها في هذا شأن القاعدة القانونية لا توجد إلا حيث يكون هناك مجتمع. غير أن هناك ثقة فارقين بين القاعدتين في النطاق يظهران في مضمون الخطاب الموجه
إلى الشخص.
فالفارق الأول هو أن القاعدة القانونية توجه خطابها إلى الشخص باعتباره عضواً في مجتمع، حيث تفرض عليه سلوكاً معيناً نحو غيره من الناس. في حين أن القاعدة الشرعية توجه خطابها إلى الشخص باعتباره
فرداً وباعتباره عضواً في مجتمع، فهي بالاعتبار الأول تحدد سلوك الفرد نحو ربه وتجاه نفسه، وبالاعتبار الثاني تحدد سلوكه إزاء غيره من الناس.
والفارق الثاني هو أن القاعدة القانونية تنظم الروابط بين الأشخاص في المجتمع فحسب، ولا تثبت الحقوق أو تقرر الالتزامات وفقاً لها إلا للشخص، ولا تُعنى بحكم العلاقة بين الشخص والحيوان. أما القاعدة
الشرعية فيجوز أن يكون المحكوم له في خطابها حيوان، فللحيوانات أهلية وجوب تستحق بمقتضاها الإحسان في الرعاية والرفق في المعاملة. وتثبت لها هذه الحقوق ديانة في رأي الإمام أبي حنيفة وابن رشد
المالكي، وديانة وقضاء في رأي غيرهما فترفع الدعوى من أجلها حسبة على المالك لها.
والقاعدة الشرعية في جانبها الخاص بتنظيم علاقة الفرد بغيره من الناس في المجتمع تتفق مع القاعدة القانونية في أنها قاعدة اجتماعية، ومن ثم يكون الشرع الإسلامي في هذا المجال على صلة بالعلوم الاجتماعية
الأخرى.
خامساً ـ القاعدة الشرعية قاعدة عامة ومجردة:
إن من خصائص القاعدة القانونية، أن صفة العموم أو التجريد فيها تعني عدم تعلقها بشخص معين بالذات ولا بواقعة معينة بذاتها، وإنما تنطبق القاعدة على كل مَن تتوافر فيه شروط تطبيقها.
والقاعدة الشرعية، شأنها في ذلك شأن القاعدة القانونية، فهي قاعدة عامة ومجردة تنطبق على كل مَن توافرت فيه صفة خاصة حددها الحكم الشرعي إن كان شخصاً، أو شروط خاصة تحددت فيه إن كان واقعة أو
فعلاً، وإذا كان بعض الآيات القرآنية والسنة النبوية يبدو في الظاهر أحياناً وكأنه يقصد فرداً معيناً بالذات أو فعلاً محدداً بعينه، إلا أن ما يستفاد منه من حكم شرعي ينطبق على كل من توافرت فيه ذات الصفات إن
كان شخصاً ونفس الشروط إن كان فعلاً. فلذا قيل في القاعدة الكلية الواردة في كتاب المجامع أن: ((الحكم يُراعى في الجنس لا في الأفراد))، أي أن القاعدة الشرعية (أو الحكم) عامة كالقانون، لم توضع لفرد معين أو
لواقعة مخصوصة.
وإذا كان المشرع الوضعي عند وضعه للقاعدة القانونية على نحو عام ومجرد، ولكي يصل إلى تحقيق المساواة بين الأفراد، يعتد بالوضع الغالب الذي تشترك فيه الأغلبية العظمى من الناس، دون الاكتراث بالظروف
الخاصة التي ينفرد بها بعضهم، فإن هذا المعنى يظهر بوضوح عند بعض فقهاء الشرع الإسلامي. فالإمام الشاطبي يقول عن القواعد الكلية المتعلقة بالضروريات والحاجيات والتحسينات ما حرفيته: ((هذه الكليات إذا
كانت قد شرعت للمصالح الخاصة بها فلا يرفعها تخلف آحاد الجزئيات. ولذلك أمثلة: أما في الضروريات فإن العقوبات مشروعة للازدجار، مع أنا نجد مَن يُعاقَب فلا يزدجر عما عوقب عليه، ومن ذلك كثير. وأما في
الحاجيات فكالقصر ي السفر، مشروع للتخفيف وللحوق المشقة، والملك المترفه لا مشقة له، والقصر في حقه مشروع. والقرض أجيز للرفق بالمحتاج مع أنه جائز أيضاً مع عجم الحاجة. وأما في التحسينيات فإن
الطهارة شرعت للنظافة على الجملة مع أن بعضها على خلاف النظافة كالتيمم. فكل هذا غير قادح في اصل المشروعية، لأن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كلياً.
وأيضاً فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت)).
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن التجريد، الذي تتطلبه فكرة المساواة التي يقيمها القانون الوضعي على أساس العدل الذي ينطلق من الوضع الغالب دون الاكتراث ببعض الجزئيات الخاصة، قد خفف من آثاره الشرع
الإسلامي الذي ينشد العدالة لا مجرد العدل، وذلك عن طريق التضييق من نطاق الحالات التي لا يحقق فيها الحكم الشرعي العدالة. حيث يصار إلى الاستعانة ببعض مصادر الشرع، كالاستحسان الذي يجيز للقاضي
أن يوسع من نطاق فكرة العدالة، فيستثني بعض الجزئيات المعزولة عن القاعدة ويعتد بظروفها الخاصة، ويعطيها حكماً آخر تحقيقاً للعدالة. من ذلك مثلاً: أن الغرر أو الغبن منهى عنه في العقود، ومن ثم يبطل العقد
الذي يدخله الغرر، إلا أن المالكية أجازوا قليل الغرر استحساناً، لأن المصلحة في تصحيح العقود تفوق مفسدة الغرر (أو الغبن) اليسير. ومثاله أيضاً: أن الحكم المقرر في الفقه الحنفي أن الحقوق الارتفاقية، كحق
الشرب والمسيل والمرور للأرض الزراعية، لا تدخل في عقد البيع دون النص عليها، وقد تقرر اعتبار تلك الحقوق داخلة في العقد في حال وقف الأرض وذلك استحساناً ومراعاة للعدالة.
وبذلك يتضح أن الشرع الإسلامي يحقق في تطبيق أحكامه العدالة المطلقة، في حين أن القانون الوضعي يكتفي بمجرد تحقيق العدل النسبي.
سادساً ـ القاعدة الشرعية ملزمة باقترانها بجزاء دنيوي وأخروي:
والقاعدة الشرعية، شأنها شأن القانونية، يجب لجعلها مُلزمة وواجبة الاحترام أن تُقترن بجزاء يوقع على مَن يخالفها، إذ لو تركت القاعدة الشرعية دون ثواب أو جزاء، فلا يوجد ما يحمل الناس على اتباعها، لأن
مخالفة هذه القاعدة أمراً محتملاً لما للناس من إرادة حرة تمكنهم من عصيانها. وبهذا المعنى العام تتفق القاعدة الشرعية مع القاعدة القانونية.
غير أن هناك فروقاً في صدد الجزاء بين القاعدتين ترجع إلى كون الشرع الإسلامي ديناً وقانوناً في آن، وهذه الفروق تظهر في الآتي:
أولاً ـ من حيث وسيلة الجزاء: يتمثل الجزاء القانوني في وسيلة واحدة تترتب فقط عند مخالفة القاعدة القانونية فتكون عقوبة أو تعويضاً، بينما يتمثل الجزاء الشرعي في وسيلتين: الأولى تكون ثواباً أو مكافأة عند
الانصياع لأحكام القاعدة الشرعية، والثانية تكون عقوبة أو ضماناً عند مخالفتها.
ثانياً ـ من حيث طبيعة الجزاء: إن الجزاء الشرعي أكثر تنوعاً من الجزاء القانوني، لأن الشرع الإسلامي تناول بالتنظيم شؤون الفرد كافة سواء تعلقت بالاعتقاد أو الأخلاق أو العبادات أو المعاملات.
فكل مخالفة لقاعدة شرعية لها جزاء أخروي يتولاه رب العالمين، بل إن الأصل في أجزية الشرع الإسلامي هو هذا الجزاء الأخروي، غير أن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الأفراد
على نحو واضح يضمن حقوقهم، كل ذلك دعا إلى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي. وهذا الجزاء الدنيوي يتولاه الحاكم أي السلطة العامة، فإذا نفذ هذا الجزاء سقط الجزاء الأخروي، وإذا تاب المخالف
توبة صادقة وتحلل من حق الغير سقط عنه الجزاء في الدنيا والآخرة رحمة من الله وغفراناً.
والمخالفات للقاعدة الشرعية نوعان: الأول مخالفات يمكن إثباتها لاستنادها إلى وقائع ظاهرة يتوفر الدليل عليها، كجرائم القتل والسرقة والاعتداء على المال، وكامتناع البائع عن تسليم المبيع وإبرام عقد باطل، فهذه
وما يشبهها يكون لها جزاء دنيوي يلفظه القضاء وينفذه الحاكم. والنوع الثاني، مخالفات يتعذر إثباتها لكونها خفية لا يمكن ضبطها بمظاهر محددة، كحالات الاغتياب والنميمة والكذب والحقد، فهذه يكون الجزاء عليها
أخروياً.
أما فيما يتعلق بطبيعة الجزاء القانوني، فهو دنيوي توقعه السلطة المختصة في الدولة على الجرائم والمخالفات الوضعية التي يمكن إثباتها، ولا شأن للقانون الوضعي بالمخالفات لقواعد الأخلاق التي يتعذر إثباتها.
ثالثاً ـ من حيث نطاق الجزاء: يبدو نطاق الجزاء الشرعي أكثر اتساعاً من الجزاء القانوني، لأن الإنسان لا يُحاسب في ظل الشرع الإسلامي على فعله فقط وإنما يُساءل على قصده أيضاً، فالشرع ليس قانوناً فحسب
وإنما هو دين وضمير.
وأما القانون الوضعي فلا يؤاخذ على القصد بذاته إلا في حالات محدودة إن دلت عليه أمارات خارجية.
أنواع الجزء الدنيوي الشرعي: تختلف أنواع الجزء الدنيوي في الشرع الإسلامي كذلك باختلاف نوع القاعدة الشرعية التي وقعت المخالفة عليها، فقد يكون عقابياً في نطاق قواعد قانون العقوبات الإسلامي، ومدنياً في
نطاق قواعد القانون المدني الإسلامي، وإدارياً في نطاق قواعد القانون الإداري الإسلامي.
فالجزاء العقابي (أو الجنائي) هو أثر على مخالفة الأفعال الجرمية المحظورة شرعاً، ويوصف هذا الأثر بأنه عقوبة توقع على المجرم. ويلاحظ هنا أن الفقه الإسلامي يرى أن الجريمة هي كل مخالفة للقواعد الشرعية
الجنائية، خلافاً للقانون الوضعي الذي يقصد بالجريمة كل مخالفة لقواعده، مدنية كانت أم جنائية. كما أن الفقه الإسلامي لم يتطرق إلى تقسيم الجرائم إلى جنايات شديدة وجنح متوسطة ومخالفات خفيفة تبعاً لمقدار
العقوبة المترتبة على كل منها، خلافاً للقانون. ولذلك فإن لفظ الجناية ولفظ الجريمة يُعتبران مترادفين في الشرع الإسلامي.
والعقوبات الإسلامية قد تكون بدنية كالقصاص بقتل القاتل، وكالرجم والجلد، وقد تكون سالبة للحرية كالحبس، وقد تكون مالية كالدية والضمان ومضاعفة الغرم على المجرم أو إتلاف المال الحرام أو مصادرته. وقد
تكون في أي صورة أخرى يراها ولي الأمر محققة لأغراض الشرع من العقاب، كأن ترد في صورة تعزيز وهو عقوبة في جناية ليس لها حد مقرر في الشرع.
فيترك للمشرع الإسلامي الوضعي تحديد ما يراه من جرائم وما يقترن بها من عقوبات، وقد تكون العقوبة بين حدين أعلى وأدنى، أو قدراً متناسباً مع جسامة الجريمة، وقد يُعطى القاضي حق تقدير العقوبة في ضوء
ظروف القضية ومقتضيات المصلحة العامة. وقد ذكر الشرع الإسلامي بعض جرائم التعزيز دون ذكر عقوبة حد لها كالربا وإساءة الأمانة والرشوة، كما عرف هذا الشرع صوراً مختلفة لعقوبات التعزير، كالقتل في
الجرائم الخطيرة والجلد والحبس والغرامة والتوبيخ،ولا مانع من الأخذ بصور أخرى له تساير روح العصر وتحقق الغرض من العقاب وفقاً للوعي الاجتماعي.
أما الجزاء المدني في الشرع الإسلامي فيكون بتنفيذ الالتزام أو الضمان جبراً، أو بمحو أثر المخالفة بإعادة الحال إلى ما كانت عليه.
والضمان الشرعي هو التعويض المدني، ويتمثل في صورتين: الأولى ـ ضمان العقد أي المسؤولية العقدية المترتبة على الاخلال بتنفيذ العقد، سواء كان عدم تنفيذ ذات ما تعهد بتنفيذه، وإن تعذر التنفيذ العيني الجبري
حل التعويض محله. والثانية ـ ضمان الفعل الواقع خارج دائرة العقد أي في نطاق المسؤولية التقصيرية، وقوامها عنصر الضرر وحده. ويبدو على صورة تعويض يلتزم بدفعه كل مَن ألحق ضرراً بغيره.
أما محو أثر المخالفة بإعادة الحال إلى ما كانت عليه، فيكون بإجبار المخالف مباشرة على محو أثر المخالفة كأن يُطرد من المنزل من يشغله بدون وجه حقن أو بإجبار المخالف على هدم الجدار الذي حجب الضوء
عن جاره كان متعسفاً في استعمال حقه.
وهناك صور عديدة لمحو أثر المخالفة في نطاق العقد غير الصحيح: من ذلك أن يُعتبر العقد باطلاً إذا ورد على شيء لا يصح التعامل فيه، كبيع الخمر والدم والميتة، أو يُعتبر العقد فاسداً إذا اقترن بشرط ينطوي على
غرر (أي يعرضه للهلاك) كبيع ثوب مع اشتراط لبسه أسبوعاً، أو يُعتبر العقد موقوفاً إذا أبرم مع قاصر لا يجوز له إبرامه كما لو تصرف صبي مميز في منزل يملكه بالبيع، أو يُعتبر العقد غير لازم إذا شابه غلط أو
خداع أو غبن أو إكراه، فيكون للعاقد في مثل هذه العيوب أن يختار بين نقض العقد أو إجازته، أو يكون العقد قابلاً للفسخ إذا قصر أحد المتعاقدين في الوفاء بإلتزامه، كعقد إيجار أُبرم دون قيام المستأجر بدفع الأجرة
للمؤجر.
وقد يجتمع الجزاء العقابي مع الجزاء المدني بالنسبة إلى ذات المخالفة للقاعدة الشرعية. فالسرقة عند الإمام الشافعي لها جزاءان، أحدهما يتعلق بالنفس وهو قطع اليد، والآخر يتعلق بالمال المسروق وهو الضمان
بالتعويض. وجزاء قطع الطريق نوعان، أحدهما يتعلق بالنفس وهو وجوب عقوبة الحد، والآخر يتعلق بالمال وهو وجوب الرد إن كان المال قائماً بعينه، إن لم يكن كذلك ضمنه المجرم مثله أو قيمته.
وأما الجزاء الإداري في الشرع، فيكون في صورة العزل من الوظيفة أو إلغاء القرار الإداري المخالف للشرع أو التعويض عن أعمال الإدارة المتخذة خلافاً لأحكامه.
------------------------
* المصدر: علم القانون والفقه الاسلامي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع