موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

الضروري أصل الحاجي والتكميلي
د.عبد الرحمن الكيلاني



أولاً: بيان معنى القاعدة,وموقف الأصوليين منها: في هذه القاعدة يكشف الإمام (الشاطبي) عن مكانة الضروريات ومرتبتها التي تعلو ماسواها,بحيث يؤهلها ذاك العلو والاعتبار أن تكون أساساً للمرتبتين الأخريين الحاجية والتحسينية,وهو أمر محل اتفاق بين الأصوليين,بدليل تصريحهم بتقديم المقاصد الضرورية الخمسة على غيرها من المراتب,أي على غيرها من الحاجية أو التحسينية. يعلل الإمام (الشاطبي) بأسلوب تحليلي عميق السبب الذي أقتضى اعتبار الضروريات اصلاً للحاجيات والتحسينيات,يظهر ذلك بقوله:"فلو فرض اختلاف الضروري بإطلاق,لاختلا باختلاله بالإطلاق,ذلك لأن مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة,فإذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود بالنسبة للمكلفين والتكليف,ولم يكن للأمور الأخروية أن تقوم إلا بهذه الخمسة أيضاً". ومما يؤكد هذا الأمر الأمثلة المبينة لهذه الحقيقة: "فلو عدم مقصد الدين لعدم ترتب الجزاء المرتجى,ولو عدم مقصد النفس لعدم من يتدين ويقوم بالتكليف,ولو عدم العقل لارتفع التدين,ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء,ولو عدم المال لم يبق عيش,فثبت بذلك أن ارتفاع هذه الضروريات مؤذن بفوات مصالح الدين والدنيا,ولذا اعتبرت أصلاً لما سواها". فإذا كان هذا هو حال الضروريات من حيث إيجادها لأصل المصلحة الدنيوية والأخروية,"فإن المصالح الحاجية تتردد على المصالح الضرورية لتكملها,بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات,وتميل هذه الحاجيات بحياة المكلفين الى التوسط والاعتدال في المور,حتى تكون جارية على وجه لايميل الى أي من طرفي الإفراط أو التفريط". وإذا كان هذا البيان من الإمام (الشاطبي) يظهر قدر الضروريات,فإنه في الوقت ذاته يظهر قدر الحاجيات,إذ إن مرتبة الحاجيات مكملة لمرتبة الضروريات,ووظيفتها تقوية اصل المصلحة التي تقوم عليها الضروري فلا تفوت أصل المصلحة بفوات الحاجي, ولكن تقل أو تتطرق اليها اسباب الضعف والانحلال. وتظهر هذه الصلة بين هاتين المرتبتين – أقصد الضرورية والحاجية – بالنظر الى التكاليف التي راعت أحوال المكلفين: كالترخيص للمسافر بالصلاة قاعداً أو مضطجعاً حسب الحال,والتيسير على المسافر بترك الصيام في سفره,والرخصة له بالجمع والقصر,فإن مثل هذه الحاجيات التي ترفع الحرج عن المكلف دائرة في حمى الضروري من حيث إضفاؤها صفة اليسر على الحياة ورفعها لمعاني العسر والمشقة,فلذا كانت مكملة للضروريات ومتممة لها. كذلك الأمر بالنسبة لمرتبة التحسينيات,والتي تدور أحكامها حول معنى الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات,فإن موقعها من الحاجي والضروري هو موقع المكمل من مكمله,حيث تضفي على حياة المكلفين بعد إقامتها وتحقيق يسرها عوامل التزيين والتحسين لها,الأمر الذي يعود على الحاجي والضروري بزيادة الحفظ والتمام. ومثال ذلك: إن حفظ العورات,وإن كان من التحسينيات التي لاتدعو إليه ضرورة,ولاتلح على وجوده حاجة,فإنه عائد على الضروري بتأكيد وزيادة رعايته,ذلك أن كشف العورات مدعاة الى تهديد النسل وهو من جملة الضروريات,وتهديد النسل مدعاة الى إهدار النفس,ولذا كانت الدعوة الى حفظ العورات وسترها سعياً الى صون الضروري انتهاءً,هذا ماعناه (الشاطبي) بقوله:"فالتحسينية – أي المصالح التحسينية – كالفرع للأصل الضروري ومبني عليه" واستند في ذلك "على أن التحسيني مكمل للحاجي,والحاجي مكمل للضروري,والمكمل للمكمل مكمل". فالتحسينيات تتخذ وصف الحائل دون تسرب اسباب الإهدار للضروري,وتعمل على زيادة الإكمال والتتميم. وهنا نلحظ البراعة والتجديد في بيان الإمام (الشاطبي) حيث استطاع من خلال مفهوم المكمل والمكمل أن يظهر الخيط الواصل بين هذه المراتب الثلاث وما بينها من انسجام وتآلف بحيث تشكل معاً وحدةً واحدة في إقامة مصالح الدنيا والآخرة وتكميلها وتحسينها. وبهذا يتبين خطأ بعض الأصوليين كالإمام (الآمدي) مثلاً,حين عزل رتبة التحسينيات عن الرتبتين الأوليين – الضرورية والحاجية – ونزع عنها وصفها المكمل لما فوقها من المراتب وكأنها قائمة بنفسها مجتثة عن أصليها المرتبطة بهما,ظهر هذا من خلال مابينه الآمدي لمرتبة التحسينيات,حيث قال فيها: "وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجيات الزائدة فهو القسم الثالث,وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية احسن المناهج في العادات والمعاملات,وذلك كسلب العبيد أهلية الشهادة في أن العبد نازل القدر والمنزلة,لكونه مستسخراً للمالك مشغولاً بخدمته,فلا يليق به منصب الشهادة لشرفها وعظم خطرها,جرياً للناس على ما ألفوه وعدوه من محاسن العادات,وإن كان لاتتعلق به حاجة ضرورية ولازائدة,ولا هو من قبيل التكملة لأحدهما". فقوله :"إن كانت لاتتعلق به حاجة ضرورية ولازائدة" بيان أن هذه المرتبة ليست من قبيل الضروريات ولاالحاجيات.ثم قوله بعد ذلك :"ولاهو من قبيل التكملة لحدهما",نزع وصف المكمل عن التحسيني,بحيث لايعود له وجه صلة بمرتبة الضروريات مطلقاً, وهذا مابين (الشاطبي) مخالفته للواقع التشريعي,حيث إن التحسينيات,وإن كانت أخفض رتبة من الضروري والحاجي,فإنها تعود على المصلحة التي تقوم عليها المرتبتان الأخريان بزيادة الحفظ والتكميل والتتميم. ثانياً: بعض التطبيقات والمسائل المتفرعة عن هذه القاعدة: عندما ذكر الأصوليون هذه المراتب الثلاث مبينين تقديم الضروري على الحاجي,والحاجي على التحسيني,بينوا أن فائدة مراعاة الترتيب تظهر في حال تعارض مصلحتين,فينظر عندئذ الى أي المراتب تنتمي هذه المصالح وتقدم المصلحة الأولى بالاعتبار حسب الترتيب المعهود,الضروري فالحاجي فالتحسيني.وإن الأمثلة على هذه الموازنة بين مراتب المصالح الثلاث كثيرة: أ‌- مانص عليه الحنفية والشافعية من جواز التداوي بالنجاسات,إذا لم يجد المريض طاهراً يقوم مقام الدواء النجس,لأن ترك تناول النجاسات هو من المصالح التحسينية,وحفظ عافية الإنسان وتحقيق سلامته هو من الضروريات أو الحاجيات على أقل تقدير, والتحسينيات متأخرة في الرتبة والاعتبار عن كل من الضروري والحاجي,وهذا ما نبه اليه (العز) بقوله:"لأن حفظ الأرواح أكمل مصلحة من اجتناب النجاسات". ب‌- ما اتفق عليه الفقهاء من جواز نظر الطبيب الى العورة ولمسها للتداوي,وسند ذلك:الموازنة بين المفسدة الناشئة عن كشف العورة والمتعلقة بالضروريات إن كان يترتب عليها حفظ النفس أو الحاجيات إن ترتب على عدم التداوي الوقوع بالمشقة والحرج,وكلا المرتبتين مقدمة على المرتبة التحسينية. ج- مايتعرض له أبناء المسلمين في بعض الدول الغربية (خاصة في أمريكا الجنوبية) من فرض التسمي بالأسماء النصرانية, ولايسمح بتسجيل المواليد إن لم يكن الاسم مما تقبله الدولة وتختاره. حيث يمكن رد هذه المسألة الى فقه التحسينيات والحاجيات,ذلك أن التسمي بالأسماء الإسلامية هو داخل ضمن مبدأ التحسينيات,إذ لا يتوقف عليه حفظ ضروري ولايترتب عليه دفع مشقة,ولكنه أمر يتصل بمحاسن الأخلاق وكريم الصفات بأن يكون الاسم حسناً في عرف الشرع. فإذا كان التسمي بالأسماء الإسلامية الحميدة من التحسينيات,وتعارض هذه التحسيني مع حاجي,كأن يكون في إسلامية الأسماء حرج شديد,أو مشقة بالغة تغدو معها الحياة عسرة لاتطاق,كونه يحرم من حقوق المواطنة وامتيازاتها,ومن حقه في التعليم والعلاج والمسكن,فهنا يطبق مبدأ الموازنة بين الحاجيات والتحسينيات ليقال بجواز التسمي بالأجنبي من الأسماء ما دام سيلحقه حرج ومشقة غير معتادة,عملاً بالقاعدة التي توجب تقديم الحاجي على التحسيني. على ان يراعي في ذلك كله,أنه إذا كان قادراً على اختيار أسماء مشتركة بين المسلمين وغيرهم: كداود,وإسحاق,ونور,كان عليه أن يختار هذه الأسماء,فإذا عجز عنها,وتعين عليه اسم غير إسلامي ولامشترك,فالحكم على وفق البيان المتقدم. د- مايسأله المسلمون في الغرب عن حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين,حيث لايسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك, ولاتوجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوروبية. يمكن بيان حكم هذه المسألة بالقول على الوجه الآتي:إننا في هذه المسألة أمام مفسدتين,مفسدة تنجم في حال دفن المسلم في مقبرة غير إسلامية,ومفسدة أخرى تترتب في حال ترك هذا المسلم من غير دفن. (وإن من إكرام الميت واحترامه,دفنه ومواراة جسده,صوناً له عن الأذى,وحماية لكرامته الإنسانية,وهو أمر حاجي فيما يظهر حيث إن الحياة ستغدو لاتطاق لو أن الأموات تركوا من غير دفن ولامواراة لأجسادهم,فيعتريها النتن والقذارة. وتعارض هذا الحاجي مع مصلحة تحسينية تتعلق بمكارم الأخلاق,وهو أن يكون الدفن في مقابر المسلمين,وكونه لايمكن تحصيل هذا التحسيني إلا بفوات الحاجي,قدم الحاجي,وجاز دفن الميت المسلم في مقابر النصارى استثناءً,مادام قد تعذر قبره في مقابر المسلمين). ذلك أن المفسدة الناجمة في حال دفن الميت المسلم في مقابر النصارى أقل ضرراً من تركه بغير دفن. ثالثاً: الضروريات:وإن كان أصلاً للحاجيات والتحسينيات,فإنها ليست على وزان واحد. إذا كانت القاعدة المتقدمة قد أشارت الى أن الضروريات هي أصل للمصالح الحاجية والتحسينية,فلا بد من الإشارة الى أن هذه الضروريات ليست على درجة واحدة من حيث الرتبة والقدر والمكانة والأهمية,وهذا ما نبه (الشاطبي) اليه بقوله: "الأمور المتعلقة بالضرورية,ليست كالأمور المتعلقة بالحاجية والتحسينية,ولا الأمور الضرورية ليست في الطلب على وزان واحد,كالطلب المتعلق بأصل الدين ليس في التأكيد كالنفس,ولا النفس كالعقل الى سائر الأصناف". هذا أمر يقرره جمهور الأصوليين,حيث يصرحون بتقديم حفظ الدين على كل مقصد آخر يليه حفظ النفس.على أنه قد جرى الاختلاف بينهم في ترتيب ما عدا هاتين المرتبتين: فالإمام (الغزالي) يجعل الترتيب :حفظ الدين فالنفس فالعقل فالنسل فالمال.بحيث قدم في ترتيبه للضروريات حفظ العقل على حفظ النسل. أما الإمام (الآمدي) :فإنه مع اتفاقه على تقديم مقصدي الدين والنفس على ما عداهما من رتب,فهو يرى أن يكون حفظ النسل مقدماً على حفظ العقل,لأن حفظ النسل إنما كان مقصوداً لأجل حفظ الولد حتى لايبقى ضائعاً لا مربي له,فلم يكن مطلوباً لعينه,بل لإفضائه الى بقاء النفس,فلذا كان مقدماً على حفظ العقل,فيكون الترتيب:حفظ الدين فالنفس فالنسل فالعقل فالمال. على أنه لايمكن الجزم بأن تقديم الإمام (الغزالي) لحفظ العقل على حفظ النسل بالذكر دال على تقديمه من حيث الاعتبار,حيث لم يتعرض (الغزالي) للمقارنة بين المراتب المتأخرة على الدين والنفس,بذلك فإنني أرى أن الأمام (الغزالي) عرض هذه المراتب مع جزمه بتقديم الدين و النفس,وتأخير ما عداهما دون تعرض للمقارنة بين الرتب الثلاث على سبيل التفضيل. وعلى ذلك,يمكن الجمع بين ترتيب (الآمدي) و (الغزالي),بأن (الآمدي) فصل ما أجمله (الغزالي) في المراتب المتأخرة عن الدين والنفس,إذ قدم حفظ النسل على حفظ العقل وأخر المال عنهما فلا اختلاف بينهما وفق هذا البيان والفهم. أما الإمام (الشاطبي),فهو,وإن كان يجوز بتقديم حفظ الدين والنفس على كل مرتبة,فإنه لم يعقد موازنة بين المراتب الثلاث الأخرى,وما أظنه أقام للتقديم في الذكر دلالة على التقديم في الاعتبار والمكانة,يشير الى ذلك أنه تارة يقدم حفظ النسل على المال والعقل فيقول:"حفظ النسل والمال والعقل".وتارة يؤخره عن حفظ العقل ويقدمه على حفظ المال فيقول:"وحفظ العقل والنسل والمال". وبناء على ذلك أرى التزام ترتيب الإمام (الآمدي) وأحسبه المعتبر عند جل الأصوليين,ذلك أن الختلاف في الترتيب أحياناً,ليس دليلاً كافيا على الاختلاف في الاعتبار. ولقد قامت الكثير من الأحكام مستندة في دليلها على هذا التفاوت بين أقسام الضروريات,بحيث إذا تعارض حفظ الدين مع حفظ النفس,قدم حفظ الدين,وإذا تعارضا مع أي من المراتب الأخرى قدما عليها,ومن ذلك: 1- إذا اضطر إنسان الى أكل مال الغير ليحافظ على حياته جاز له الأكل من غير إذنه,لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس ولأن مقصد حفظ النفس مقدم على مقصد حفظ المال. 2- شرب الخمر يهدد مقصد الحفاظ على العقل,وهو محرم حفاظاً على هذا المقصد,فإذا توقف حفظ النفس على شرب الخمر جاز ذلك,لأن حفظ النفس مقدم على حفظ العقل ولأن النفس إذا فاتت ففواتها دائم,أما فوات العقل فإنه منقطع لارتفاعه بالصحو بعد ذلك. 3- إذا أحاط الكفار بالمسلمين ولامقاومة بهم,جاز دفع المال إليهم,لأن في تهديدهم للمسلمين واصطلامهم لهم مفسدة تلحق بأصل الحفاظ على النفس,وفي تقديم المال لهم مفسدة تصيب مقصد الحفاظ على المال,وحفظ النفس مقدم على حفظ المال. فهذه بعض الأمثلة التي تظهر كيفية الترجيح بين أقسام الضروريات في حال تعارضها,واختلافها في الرتبة. أما إذا كان التعارض بين مصلحتين هما من ذات الرتبة,كالتعارض بين مصلحتين كلتيهما تتعلقان بمقصد حفظ الدين,أو النفس,أو المال,أو العقل,فحينئذ ينتقل الى جانب آخر من جوانب الموازنة تحكمها القواعد التي قررها الفقهاء في أمهات القواعد الفقهية مثل: أ- درء المفاسد أولى من جلب المصالح. ب-يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. ج- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. د- إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما. وهذه القواعد كما تطبق في حال تعارض مصلحتين ضروريتين,فكذلك تطبق في حال كون كلا المصلحتين حاجية أو تحسينية. وبذلك كله يتبين مكانة هذه القاعدة وأثرها,وما بني عليها من فروع جزئيات. المصدر: قواعد المقاصد عند الامام الشاطبي.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع