موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

شعبان محمد إسماعيل
آراء العلماء المعاصرين في الاجتهاد الجماعي



إن الدعوة الى الاجتهاد الجماعي ليست وليدة اليوم، وإنما هي حاجة ملحة منذ أمد بعيد، والذي نريد التركيز عليه هو التوسع في هذه الناحية، وتطبيقها في سائر الدول الإسلامية، تحاشيا للخلافات التي تظهر على
الساحة من حين لآخر.
ويحسن هنا أن نورد مقتطفات من أقوال علمائنا ومشايخنا في العصر الحاضر، كمنارات للسير في هذا الطريق..
1_ الشيخ عبد الوهاب خلاف:
يقول في كتابه: "مصادر التشريع فيما لا نص فيه:
"الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من
المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الاسلامي، كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي".
2_ الشيخ علي حسب الله:
يرى أن الأحكام نوعان:
(أ) النوع الأول: ما يتعلق بالعبادات، والعلاقة بالله تعالى، من الأمور التي يكون الخلاف فيها يسيرا، ويكفي في ذلك الاجتهاد الفردي ممن تحققت عنده شروط الاجتهاد.
(ب) النوع الثاني: ما يتعلق بالمعاملات، فيقول عن هذا النوع: "ومنها ما يتعلق بمعاملاتهم بعضهم مع بعض، واختلاف الأحكام في هذا مجاف للنظام ومجانب للعدل، وخاصة في البيئة الواحدة، والبيئات المتماثلة،
والاجتهاد هنا إنما يفيد فائدة عملية إذا اتجه وجهة جماعية، بأن تكون هناك جماعة من المجتهدين ينظرون فيما جدّ من الحوادث، ويستنبطون _مستعينين بأنوار من آراء السابقين _ ما يلائم أحوالهم من الأحكام،
وتكون أحكامهم هذه نافذة في الناس، يلزمون جميعاً باتباعها، ويحكم القضاة بمقتضاها".
3_ الشيخ أحمد محمد شاكر:
أما الشيخ أحمد محمد شاكر _رحمة الله تعالى عليه _ فيدعو إلى الاجتهاد الجماعي فيقول:
"لا تظنوا أني حين أدعوكم إلى التشريع الاسلامي، أدعوكم إلى التقيد بما نص عليه "ابن عابدين" أو "ابن نجيم" _مثلاً _ ولا إلى تقليد الفقهاء في فروعهم التي استنبطوها غير منصوصة في الكتاب والسنة، وكثير
منها فيه حرج شديد، كلا، فأنا أرفض التقليد كله ولا أدعو إليه، سواء أكان تقليدا للمتقدمين أم للمتأخرين.
ثم إن الاجتهاد الفردي غير منتج في وضع القوانين، بل يكاد يكون محالاً أن يقوم به فرد أو الأفراد، والعمل الصحيح المنتج هو الاجتهاد الجماعي، فإذا تبودلت الأفكار، وتداولت الآراء، ظهر وجه الصواب، إن شاء
الله.
ثم يبين الخطة العملية فيقول:
"فالخطة العملية، فيما أرى: أن تختار لجنة قوية من أساطين رجال القانون وعلماء الشريعة، لتضع قواعد التشريع الجديد غير مقيدة برأي، أو مقلدة لمذهب، إلا نصوص الكتاب والسنة، وأمامها أقوال الأئمة وقواعد
الأصول وآراء الفقهاء، وتحت أنظارها رجال القانون كلهم، ثم تستنبط من الفروع ما تراه صوابا، مناسبا لحال الناس وظروفهم، مما يدخل تحت قواعد الكتاب والسنة، ولا يصادم نصا، ولا يخالف شيئا معلوما من
الدين بالضرورة".
4_الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي:
يرى فضيلة الأستاذ الدكتور القرضاوي أن يسير الاجتهاد الجماعي جنبا إلى جنب مع الاجتهاد الفردي فيقول:
"ينبغي في القضايا الجديدة أن تنتقل من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصا فيما يكون له طابع العموم، ويهم جمهور الناس، فرأي الجماعة أقرب إلى
الصواب من رأي الفرد، مهما علا كعبه في العلم، فقد يلمح شخص جانبا في الموضوع لا ينتبه له آخر، وقد يحفظ شخص ما يغيب عن غيره، وقد تبرز المناقشة نقاطا كانت خافية، أو تجلى أمورا كانت غامضة، أو
تذكر بأشياء كانت منسية، وهذه من بركات الشورى، ومن ثمار العمل الجماعي دائماً، عمل الفريق، أو عمل المؤسسة، بدل عمل الأفراد".
وبعد أن ساق بعض الأدلة من السنة وعمل الصحابة _رضى الله عنهم بالشورى والاجتهاد الجماعي قال:
"وهذا الاجتهاد الجماعي المنشود يتمثل في صورة مجمع علمي إسلامي عالمي، يضم الكفاءات العليا من فقهاء المسلمين في العالم، دون نظر إلى إقليمية أو مذهبية، أو جنسية، فإنما يرشح الشخص لعضوية هذا
المجمع فقهه وورعه، لا ولاءه لهذه الحكومة، أو ذاك النظام، أو قربه من الحاكم أو الزعيم.
يجب أن يتوافر لهذا المجمع كل أسباب الحرية، حتى يبدي رأيه بصراحة، ويصدر قراره بشجاعة، بلا ضغط وإرهاب من الحكومات، أو من قوى الضغط في المجتمع، يجب أن يتحرر من الضغوط السياسية
والاجتماعية معا".
ثم قال:
"واذا اتفق علماء هذا المجمع على رأي في مسألة من المسائل الاجتهادية اعتبر هذا "إجماعاً" من مجتهدي العصر، له حجيته وإلزامه في الفتوى والتشريع.
وإذا اختلفوا كان رأي الأكثرية هو الأرجح، ما لم يوجد مرجح آخر له اعتباره شرعاً.
على أن هذا الاجتهاد الجماعي لا يقضي على اجتهاد الأفراد، ولا يغني عنه، ذلك أن الذي ينير الطريق للاجتهاد الجماعي هو البحوث الأصيلة المخدومة التي يقدمها أفراد المجتهدين، لتتناقض مناقشة جماعية،
ويصدر فيها بعد البحث والحوار قرار المجمع المذكور بالإجماع أو الأغلبية.
وإذا لم يوجد هذا النوع من البحوث الاجتهادية الفردية، فإن القرارات الجماعية كثيرا ما توجد فيها ثغرات تجعلها عرضة للنقد والتشكيك.
وسيظل حق الأفراد في الاجتهاد قائما على كل حال، بل إن عملية الاجتهاد في ذاتها عملية فردية في الأساس، وإنما الاجتهاد الجماعي هو التشاور فيما وصل إليه أفراد المجتهدين كما رأينا.
5_ الدكتور زكريا البري :
يرى الدكتور "زكريا البري" _وزير الأوقاف المصري الأسبق _ أهمية الاجتهاد الجماعي ويضع له خطة لتنفيذه فيقول:
"تنظيم الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر يحتاج _فيما أرى _ إلى ما يأتي:
أولا: أن يكون أمر تحديد الشروط التي يجب تحققها في المجتهدين واختيارهم من أهل الذكر والعلم والصلاح، موكولاً لولي الأمر المسلم الذي يتولى بمقتضى رياسته حراسة الدين وسياسة الدنيا به، والذي ينوب في
ذلك عن الأمة التي اختارته ورضيت به ولياً عليها ووكيلا عنها، ومسئولا أمامها وأمام الله من قبل ذلك، مع العناية والدقة في اختيارهم ممن تحققت فيهم أهلية الاجتهاد، بعد الوقوف على رأي أهل الذكر وبعد التحري
والاحتياط، وليس هناك _في أول الأمر _ وسيلة عملية أخرى، ثم يكون الأمر في اختيار المجتهدين _فيما بعد _ موكولا لجماعة المجتهدين أنفسهم.
ثانياً: أن يكون بجانب هؤلاء مستشارون وخبراء في كل علوم الحياة وفنونها، للرجوع إليهم في حدود اختصاصهم، إذا اقتضى الأمر ذلك، والله سبحانه وتعالى يقول: (.. فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
ثالثا: أن يؤخذ عند اختلاف آراء المجتهدين برأي الأكثرية، فإنه أقرب إلى الصواب.
رابعاً: أن يأمر ولي الأمر بتنفيذ هذا الرأي في المسائل الاجتماعية العامة، حتى تكون له الصفة الملزمة، وأن من المقررات الاسلامية أن حكم الحاكم يرفع الخلاف بين العلماء.
وبقدر ما تجدّ الأمة الاسلامية وتخلص _حكومات ومحكومين في هذا المجال _ تصل إلى أطيب الثمرات، وأحسنها دينا ودنيا، وبقدر ما تفرط أو تزيف يكون بعدها عن الحق والخير، وانحرافها عن شريعة الإسلام.
ولعل هذه الصورة العملية هي التي أمر الله بها في قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم).
وقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم..).
وفي قوله سبحانه: (وشاورهم في الأمر).
وقوله _عز وجل _ في أوصاف المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم).
ولعلها الصورة التي يرويها صعيد بن المسيب عن علي أنه قال: "قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا، لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة؟ قال: اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا
تقضوا فيه برأي واحد". أي برأي فردي، بل جماعي من أهل العلم والعبادة والصلاح.
وهي الصورة التي يظهر أنها كانت مطبقة في عصر الصحابة _رضوان الله عليهم _ ثم هي الخطة التي انتهجها خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، فحينما ولي أمر المدينة نزل دار "مروان" فلما صلى الظهر
دعا عشرة من فقهاء المدينة: عروة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن سليمان، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله ابن عبد الله
بن عمر، وعبد الله بن عامر، وخارجة بن زيد، وهم إذ ذاك سادة الفقهاء، فلما دخلوا عليه أجلسهم ثم حمد الله وأثنى عليه، وقال: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرا
إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم".
وهو ما سار عليه العمل في بعض عصور الدولة الأموية بالأندلس، أيام "يحيى بن يحيى الليثي" قاضي قضاتها، فقد أنشىء مجلس للشورى، للنظر في المشاكل الفقهية، وكان أعضاء هذا المجلس في بعض الأوقات
ستة عشر عضوا، فقد ذكر في ترجمة "إبراهيم التميمي" القرطبي، أن مجلس الشورى قد كمل عدده به ستة عشر.
6_ الدكتور محمد الدسوقي:
يقول في كتابه "الاجتهاد والتقليد في الشريعة الإسلامية".
"وإذا كان الاجتهاد الفردي هو الذي خلف لنا تلك الثروة الفقهية التي نعتز بها كل الاعتزاز، ولم يكن للاجتهاد الجماعي دور، كهذا الاجتهاد في تنمية هذه الثورة، واتساع آفاقها، فإن واقعنا المعاصر يقتضي منا اهتماما
خاصا بالاجتهاد الجماعي لأمرين:
أولا: تيسر لقاء الفقهاء مهما تناءت الأقطار والديار فقد يسرت وسائل المواصلات العصرية هذا اللقاء.
وإذا كان للعالم كله منظمة أممية تنظر في المشكلات الدولية وتتخذ القرارات بشأنها، فإن العالم الإسلامي خليق به أن يكون له مؤتمر فقهي، يلتقي فيه أئمة الفقهاء، ليبحثوا في كل ما يهم الأمة اليوم، وفق تخطيط
علمي مدروس، بعيدا عن أهواء السياسة والاتجاهات الفكرية المتضاربة.
ثانياً: أن ما جد من مشكلات في عصرنا الحاضر يحتاج إلى تخصصات علمية مختلفة، كي يدرس دراسة علمية وافية، ومن ثم كان الاجتهاد الجماعي الذي يسهم فيه إلى جانب الفقهاء كل العلماء الذين لتخصصاتهم
علاقة وثيقة بالمشكلات المطروحة، أمثل وسيلة لدراسة هذه المشكلات، دراسة علمية تنتهي إلى نتيجة عملية.
والدعوة إلى الاجتهاد الجماعي وأنه أولى من الاجتهاد الفردي لا يعني إهمال هذا الاجتهاد، لأنه سبيل ذلك، أو أساسه الذي يقوم عليه

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع