- إن شريعة الله سبحانه وتعالى شريعة اتصفت بالكمال والشمول، وجاءت
بكل ما فيه خير البشرية وسعادتها لأنها تنزيل من حكيم حميد عليم
بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم هو الذي خلقهم وهو أعلم بحالهم
فلم
يكلفهم إلا بما يطيقون. قال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}
وقال سبحانه: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وقال الرسول صلى
الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )). ويقول
الرب جل
وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم }.
ونجد هذا المعنى جلياً في فريضة الحج كما قال تعالى: {ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا}.
فجعل الله الاستطاعة شرطاً في السعي إلى الحج ورفع الحرج عن غير
المستطيع رحمة منه بخلقه وشفقة عليهم.
فرفع الحرج عن هذه الأمة مقصد من مقاصد الشريعة. والمتتبع لأحكام
الله خاصة في أركان الإسلام يجد هذا المعنى متمثلاً في الصلاة
والزكاة والصوم والحج.
فريضة الحج أحد أركان الإسلام ومن الأمور المعلومة من الدين
بالضرورة فرضها الله سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى
الله عليه وسلم وأجمعت على ذلك الأمة، قال تعالى: {ولله على الناس
حج
البيت من استطاع إليه سبيلا}.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب عليكم الحج فحجوا).
فالحج هو قصد مكة على وجه مخصوص بنية العبادة. وحقيقة أداء المناسك
التي شرعها الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله صلى الله عليه
وسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم )). والحج من
أفضل العبادات وأجلها قدراً عند الله لأنه أعظمها مشقة تتجلى فيه
صورة الصبر على طاعة الله في أسمى معانيها، مشقة السفر ومشقة
الطواف
والسعي والوقوف، والرمي. والحج مكفر للذنوب ومطهر للنفس من أدران
المعاصي كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من حج ولم يرفث ولم
يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه!.
الحج عبادة بدنية مالية:
المسلم يتعبد لربه ببدنه وماله بأنواع العبادات من باب شكر الله
تعالى الذي حباه بهذه النعم. فالبدن فيه الروح وهي حياة الإنسان
ومنطلق إيمانه ومقر معتقده، فهي القلب النابض تمد البدن بوسائل
الحياة السعيدة حتى
يقوم بواجبه وما فرضه الله عليه من الواجبات البدنية وهي الأعمال
التي تسمى بالعبادات، فالعقيدة والإيمان فريضة روحية، والصلاة
والصيام فريضتان بدنيتان، والجهاد بالنفس عبادة بدنية؛ والمال من
نعم الله على
عباده فجعل الله فرائضه الجهاد بالمال والزكاة فهما عبادتان
ماليتان.
أما الحج فقد جمع الله فيه ذلك كله فهو عبادة روحية بدنية مالية.
لأن الحاج يخرج من بلده قاصداً مكة لأداء فريضة الحج بنية صادقة
يهدف من ذلك أداء ما أوجب الله عليه، فهذا فعل روحاني، ثم يؤدي
مناسك الحج العملية وهذا فعل بدني. ثم ينفق في حجه من ماله على
نفسه
وشراء هديه وهذا عمل مالي.
الحج تلبية لنداء الله تعالى
على لسان إبراهيم عليه السلام حين أمره الله تعالى بقوله:{وأذن في
الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم
من بهيمة
الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم
وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق}.
فالحج شوق وإجابة. فالشوق يتأجج في صدر كل مسلم وهو الدافع للعمل
والاتجاه إلى البيت محبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولتلك
البقاع الطيبة الطاهرة. وهو استجابة لهذا النداء الإلهي على لسان
الخليل عليه
السلام لما فرغ من بناء البيت فمن تراخى وتأخر في إجابة الدعوة مع
قدرته على ذلك فقد تأخر عن استجابة دعوة الحق فإن مات ولم يحج فلا
عليه أن يموت يهوديا أو نصرانياً .
وفي الحج منافع مادية للفرد والجماعة بشرهم الله بها في قوله
{ليشهدوا منافع لهم} فهي منافع روحية ومادية تتحقق بالطاعة لله
والتعاون فيما بين المسلمين.
الحج والآداب الشرعية :
لما كان الحج طاعة لله تعالى وتلبية لندائه ورغبة فيما عنده من
الأجر والثواب، فعلى المسلم أن يتحلى بالآداب الشرعية لأن الحج
موسم عبادة ومدرسة لأنواع العلوم والمعارف، فهو يهدف إلى تعليم
المسلم كيف
يتعامل مع ربه عز وجل وكيف يقف بين يديه ويدعوه، كيف يؤدي نسكه
بالنفقة الحلال والقلب المطمئن بذكر الله قد تجرد من الدنيا
وشهواتها واتصل بالخالق وتجنب كل ما ينقص أجره من الرفث والفسوق
والجدال.
وظهر بمظهر الذليل لربه الخاضع لأمره الخاشع في طاعته المتواضع في
هيئته عليه أثر التفث وهو الشعث وأثر السفر. ويعظم شعائر الله
بالتقرب إلى الله بأنواع الهدي، فأفضل الحج والنحر. وما عمل ابن
آدم يوم
النحر أحب إلى الله من إراقة دم. كل ذلك عن طيب نفس بلا منة على
الله، فالله الذي من عليه أن هداه للإسلام، قال تعالى: {الحج أشهر
معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}.
الحج والقيم الإسلامية :
يهدف الحج إلى تحقيق أواصر المحبة والألفة بين المسلمين على اختلاف
أجناسهم ولغاتهم وتباعد أفكارهم، فهو مؤتمر إسلامي يجتمع فيه
المسلمون من شتى بقاع الأرض على صعيد واحد يتعارفون ويتوادون
ويتراحمون فتتضافر الجهود وتتوحد المقاصد وتزداد أواصر الروابط
الأخوية بين المسلمين فيرحم الغني الفقير ويعطف القوي على الضعيف
ويشد بعضهم أزر بعض.
وما من مجتمع إسلامي إلا وفيه هذه الروح الإسلامية ابتداء من
الاجتماع الأصغر في صلاة الجمعة والجماعة، وانتهاء بالاجتماع ا!الاكبر
في الحج على صعيد عرفات لا فرق بين عربي وأعجمي ولا بين أبيض ولا
أسود ولا غني ولا فقير ولا سيد ولا مسود إلا بالتقوى كأنهم اخوة من
أب واحد وأم واحدة تجمعهم رابطة الدين {إنما المؤمنون اخوة}توحدت
صفوفهم كما توحدت قلوبهم. ذلك والله من أهم المنافع التي ذكرها
الله تعالى
بقوله: {ليشهدوا منافع لهم} منافع إيمانية وخلقية.
حكمة التشريع في المناسك:
لبس ثياب الإحرام:
يهدف الحج في لبس ثياب الإحرام- والله أعلم- إلى أن يتجرد المسلم
من متاع الدنيا يترك ثياب الزينة ليكون في أعلى درجات التذلل
والخضوع والوقوف بين يدي الله تعالى كيوم ولدته أمه إلا ما يستر به
عورته
ويواري به جسده من إزار ورداء فتظهر عليه سمات التقشف والزهد فيخرج
من المألوف في اللباس من باب الخروج من الدنيا والتذكير بلبس ثياب
الكفن وتنبيه النفس وإشعارها بحالة الموتى. والإحرام يحقق وحدة
الشكل والمظهر تبعا لوحدة المضمون والجوهر.
التلبية:
في مشروعية التلبية استجابة لنداء الحق تبارك وتعالى في قوله تعالى
{وأذن في الناس بالحج.. } فيجيبه الجميع لبيك اللهم لبيك، أي إجابة
بعد إجابة عسى أن يكون من المقبولين فالحاج حين يقولها يعيش بين
الرجاء
والخوف. كما أنها تزيد المسلم قوة وحماسا في أداء الواجب، ولهذا
كان الحجاج وفد الله حين دعاهم فلبوا دعوته.
· وحين يدخل الحاج مكة قاصدا البيت الحرام ويستلم الحجر الأسود
لطواف القدوم أو العمرة إحياء لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
باستلامه وتقبيله واقتداء به عليه الصلاة والسلام )). والمستلم
للحجر بمنزلة
المبايع لله على طاعته ولهذا شرع تعظيمه واحترامه.
ثم يشرع في الطواف امتثالا وتعبدا لله تعالى وذكر خليل المالكي في
منسكه أنه إنما جعل الطواف سبعة أشواط لمقصد وحكمة وهي والله أعلم
أن جهنم لها سبعة أبواب فكل شوط يغلق عنه بابا ثم يركع بعد الطواف
زيادة في القرب لأن العبد أقرب ما يكون لربه وهو ساجد. والهدف
الأسمى من الطواف إقامة ذكر الله .والحاج يطوف بقلبه وقالبه لأن
استشعار العبادة إنما يكون بالقلب أشبه الملائكة المقربين الحافين
حول العرش.
· السعي بين الصفا والمروة: في ذلك امتثال لأمر الله كما قال
تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا
جناح عليه أن يطوف بهما}. والحاج بهذا السعي يرجو رحمة ربه وفك
عوزه
وحاجته كما رحم هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام بماء زمزم، فلذلك
سعى الناس بينهما.
· الوقوف بعرفة: إذا اجتمع الحجيج في عرفات في ذلك الموقف العظيم
الذي يذكرهم بموقف القيامة، على صعيد واحد في لباس واحد وغرض واحد
ورجاء واحد وخوف واحد يرجى نعمة الله ويخافون عذابه يلهجون
بالدعاء والتضرع ملبين مهللين مكبرين ملتمسين مغفرة الذنوب وإن
يكونوا كما مما يقال لهم {ارجعوا مغفوراً لكم} (يباهي الله بهم
ملائكته، أتوه شعثاً غبراً يرجون رحمته ويخافون عذابه).
· الإفاضة إلى المزدلفة: بعد غروب يوم عرفة يفيض المسلمون إلى
المزدلفة تقرباً إلى الله تعالى فرحين مستبشرين يزدلفون إلى المشعر
الحرام امتثالاً لأمر الله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا
الله عند المشعر
الحرام }. واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل أن آدم عليه
السلام التقى بحواء بعد هبوطهما إلى الأرض في مزدلفة فشرع هذا
الموقف ليتذكر المسلم هذه المواقف وتلك الأحداث.
· الإقامة بمنى أيام التشريق:
في يوم العيد وأيام التشريق يقيم الحاج في منى ويشغل وقته بالذكر
والتسبيح والتحميد وشكر الله على ما أنعم به عليه من إتمام المناسك
بعد أن كان العرب في جاهليتهم يجتمعن في هذا المكان ويتفاخرون فيه
بالأنساب
ويتناشدون فيه الأشعار ويبتاعون فيه في تلك الأيام، فأبدل الله
المسلمين بتلك المنافع بإقامة شعائر الحج فجمع الله لهم في منى
منافع الدنيا والآخرة في جو من الإخاء والتسامح والوعظ والإرشاد
بلغات مختلفة حتى تعم
الفضيلة.
· رمي الجمار:
ذكر البيضاوي- رحمه الله- في تفسيره أن إبليس عرض لنبي الله
إبراهيم عليه السلام في مكان رمي الجمار ليوسوس له ويشغله عن أداء
المناسك، فعرض له عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات، ثم عرض له عند
الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات، ثم الجمرة الثالثة كذلك.
فأخذ الحصى ورميها في تلك الأماكن مع التكبير، دفع للشيطان
والبراءة منه. فالرمي بالحجارة يفيد سخط الرامي وإهانته للمرجوم
ففي ذلك اقتداء بإبراهيم عليه السلام بأمر الله له حتى لا يفتنه عن
دينه،
· ذبح الهدي والأضاحي:
الحكمة من ذلك ظاهرة وجلية فهي طاعة لله تعالى وإحياء لسنة إبراهيم
عليه السلام وما أنعم الله به عليه بفداء ولده إسماعيل من الذبح
الذي ابتلاه الله به لتظهر قوة إيمانه وصبره، وتقرباً إلى الله
تعالى لينهر الدم الذي
ذكر اسم الله عليه، وهو طعمة للفقراء والمساكين في ذلك اليوم حتى
يشاركوا الأغنياء أفراحهم بيوم العيد. وفيه شكر لله تعالى على ما
أنعم به عليه الناس من بهيمة الأنعام فأيام منى أيام ضيافة لله
لعباده. قال تعالى:
{فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}.
· الحلق:
يقول تعالى: {وليقضوا تفثهم } أي، يزيلوا أدرانهم وأوساخهم بالحلق
وقص الشارب وتقليم الأظافر لأن الحاج أشعث أغبر من أثر السفر كما
جاء في الحديث القدسي: {أتوني عبادي شعثاً غبراً من كل فج عميق.. }
فلله الحكمة البالغة وله الحمد في السماوات والأرض.
وبعد الفراغ من مناسك الحج في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر هذا
يعود الحجاج إلى أهليهم وذويهم تغمر وجوههم الفرحة وقد ذاقوا لذة
العبادة والقرب من الله جل وعلا نسأل الله تعالى أن يكونوا ممن
يقال لهم
ارجعوا مغفوراً لكم.
------------------------------
* المصدر: مجلة الدعوة /العدد1538/1996م