موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

د. شعبان محمد إسماعيل
تجزؤ الاجتهاد



ومعنى تجزؤ الاجتهاد: أن يكون المجتهد قادراً على الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض. وهذا مبني على درجات المجتهدين وأقسامهم..
ولذلك قال العلماء: إن الشروط التي وضعوها إنما هي للمجتهد المطلق. وقد اختلف العلماء في مسألة تجزؤ الاجتهاد على أربعة مذاهب:
المذهب الأول: أن ذلك جائز وهو مذهب الجمهور، من الشافعية كالآمدي وابن السبكي والغزالي، والحنفية كالكمال بن الهمام، وصاحب مسلم الثبوت، والمعتزلة كأبي علي الجبائي وأبي عبدالله البصري، ومن الحنابلة
ابن تيمية وابن القيم.
واستدلوا على مذهبهم بأدلة كثيرة نكتفي منها بما يأتي:
أولاً: بقول النبي (ص): ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
ووجه الدلالة من الحديث:
أن الإنسان لو تمكن من جمع الأدلة في مسألة معينة كان متمكناً من الوصول إلى العلم بحكم هذه المسألة من دليلها، فتركه إلى التقليد خلاف المعقول، وخلاف ما أفاده الحديث، لأن ما كان عن تقليد فيه ريب، وما كان
عن دليل يكون خالياً من هذا الريب، فيكون المكلف مأموراً بالاجتهاد فيما حصّل فيه شروطه.
ثانياً: قوله (ص): ((استفت نفسك ون أفتاك المفتون)).
ووجه الدلالة من الحديث: أن في أمر الرسول (ص) باستفتاء النفس ترجيح لاجتهاد الإنسان على اجتهاد غيره، فيجب العمل باجتهاده فيما يعن له من مسائل كملت أهليته للاجتهاد فيها.
ثالثاً: أن المجتهد في بعض المسائل يعرف الحكم فيها عن دليل منصوب من قبل الشارع، فيجب إتباعه ولا يسوغ له تركه بقول أحد، فثبت بذلك ووب الاجتهاد فيما يمكنه.
رابعاً: لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل، واللازم منتف، لأن كثيراً من المجتهدين قد سئل عن عدة مسائل فأجاب عن البعض ولم يجب عن البعض الآخر، ولم ينازع أحد في كونهم
مجتهدين، فقد روي عن الإمام مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربع وقال في الباقي: لا أدري.
المذهب الثاني: أن ذلك غير جائز، وأن العالم لا يقال له مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. وعلى ذلك بعض الأصوليين، منهم الإمام أبو حنيفة والشوكاني وغيرهما.
قال الشوكاني:
((إن العلماء قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى تحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد المطلق، وأما مَن ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه في مسألة دون
مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن، لأنه لا يزال يجوز وجود غير ما وصل إليه علمه)).
واستدلوا على ذلك: بأن كل إنسان يبحث عن الحكم لو لم يكن عالماً بجميع المدارك ومحيطاً بكل الأدلة لا يجوز له الاجتهاد، لأنه قد يتعلق الحكم الذي يبحث عنه ببعض ما يجهله، فلا يكون الحكم صحيحاً.
فالاجتهاد في بعض الأبواب غير جائز.
ويمكن مناقشة ذلك: بأن ذلك مخالف للواقع، فليس هناك من المجتهدين مَن علم كل المدارك، حتى الأئمة المتبوعون، وإلا لما توقف بعضهم عن الفتوى، كالإمام مالك.. وكم توقف الإمام الشافعي (ره) بل بعض
الصحابة (رض) توقفوا في العديد من المسائل، وكان بعضهم يحيل على البعض الآخر.
فإذاً لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري، فيتوقف فيما لا يدري، ويفتي فيما يدري.
المذهب الثالث: التوقف وعدم الجزم برأي معين، وهو ما ذهب إليه ابن الحاجب، ولعله رأى أن الأدلة متكافئة، وهي متعارضة فيلزم التوقف.
وأقول: إن المتأمل في أدلة المذاهب المختلفة يدرك أن الأدلة غير متكافئة، فأدلة المذهب الأول قوية وراجحة، ويؤيدها الواقع الذي لا يمكن إنكاره، فالترجيح هنا وارد.
المذهب الرابع: أن الاجتهاد يتجزأ بالنسبة للفرائض دون غيرها من أبواب الفقه.
ونسب هذا الرأي إلى ابن الصباغ من الشافعية.
وحجة مَن ذهب إلى ذلك: أن لباب المواريث أدلة خاصة، فيجوز أن يجتهد فيها، ولا يمنعه جهله بأدلة الأبواب الأخرى من الفقه.
والواقع أن هذه التفرقة لا معنى لها، فلا فرق بين المواريث وغيرها من أبواب الفقه، وما دام أصحاب هذا المذهب يجوزون الاجتهاد في باب المواريث فيجوز في غيرها، حيث لا فارق بينهما متى وجدت الشروط
التي تؤهله للاجتهاد في مسألة ما.
الراجح في المسألة:
ويبدو من خلال العرض للأدلة السابقة والمناقشات الواردة عليها أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من تجزؤ الاجتهاد، وأن ذلك يشبه في العصر الحاضر ما يعرف بالتخصص الدقيق، فمثلاً في القانون لا
يوجد أستاذ في كل فروع القانون، بل في المدني أو الجنائي، أو الإداري أو الدولي... وقد يكون أحدهم أستاذاً كبيراً يرجع إليه، ويؤخذ برأيه في اختصاصه، وهو شبه عامي في المجالات الأخرى.
وعلىهذا يستطيع أستاذ الاقتصاد المتمكن إذا درس ما يتعلق به في الفقه الإسلامي والمصادر الإسلامية ـ دراسة مستوعبة ـ أن يجتهد في هذا الباب وحده لا يتعداه، ومثل ذلك أستاذ القانون الجنائي أو الدستوري، أو
أستاذ علم الاجتماع، كل في اختصاصه.
وهذا إنما يتم بشرطين:
الأول: أن تكون لديه الأهلية العلمية العامة للفهم والاستنباط.
بمعنى أن يكون عنده إلمام مناسب بمثله من الشروط بالنسبة للمجتهد المطلق.
الثاني: أن يدرس موضوعه أو مسألته دراسة مستوعبة، بحيث يحيط بها من جميع جوانبها، حتى يتمكن من الاجتهاد فيها.
--------------------------
* المصدر:الاجتهاد الجماعي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع